(حكاية عطر)
كانت زجاجة العطر شبه ممتلئة! فهو لم يستعملها إلا مرتين أو ثلاثة، ماعدا ذلك هي ظلت على حالها. أريد عطرا يدوم نهارا كاملا! هكذا قال لبائع العطور، مازال يتذكر اللحظة التي امتدت فيها اصابع البائع الشاب نحو عشرات الزجاجات البراقة، لحظات ثم فاح شذا الليمون فأمتلأ منه جو المكان، مازال يذكر ذلك . أكمل ارتداء ملابسه وأدرك أن الوقت مازال مبكرا فهي لم تتجاوز التاسعة صباحا بعد، مس زجاجة العطر برفق، ادناها من أنفه، ابعدها قليلا وضغط ضغطا خفيفا، تطاير الرذاذ وسرعان ما امتلأ جو الغرفة بسحر الليمون الاخاذ! رش خلف أذنه ثم ازاح قميصه، نعم هنا تحت القلب تماما! ثم معصم اليد اليسرى مكان النبض! لم يكن خبيرا بإستعمال العطور لكنه سمع عن هذه الطريقة منذ سنوات. قبل أن يخرج، مسح الغرفة بنظرة سريعة فعادت عيناه واستقرت على زجاجة العطر! ماذا لو تبخر العطر في الطريق! اللعنة، قطب حاجبيه ثم تناول زجاجة العطر ودسها في جيب البنطلون !سار خطوات عديدة قبل أن تستقبله منبهات السيارات، قطع الشارع وأصبح في الجهة الأخرى. لاذ تحت ظل شجرة السدر الكبيرة، إتصل بها، لم ترد! لحظات ووصلته رسالة منها! أنا بالطريق! كلمات مقتضبة! تحسس زجاجة العطر، فكر بأن يرش قليلا منها! لكن لا سيكون الأمر مضحكا إن زاد عن حده! كانت مواعيدهما متباعدة، مرتان في الشهر وأحيانا ثلاث مرات! وفي كل موعد كانت تفتح حقيبة يدها وتنفحه عدة نفحات من العطر الساحر الذي لايفارق حقيبتها! ثم تهمس له:
_الم تفكر بأن يكون لديك عطرك المميز!. تقول ذلك ثم تريح رأسها على كتفه! أخيرا هاهي، لاحت من بعيد بعد أن ترجلت من سيارة الأجرة، أخذت تتلفت يمينا وشمالا وعبرت الشارع، تلقاها وسط الطريق، كانت عيناها باسمتان جدا وثمة سحر كان يحيط بهيئتها!التقط كفها الطري ووقفا برهة على الرصيف، غض بصره، كان خجولا بطبعه! كان هذا الأمر يتكرر في كل موعد، النظر طويلا في عينيها ضربا من المستحيل! اقتربت منه حتى كادت أن تلتصق به، همست
_عطرك حلو مثلك حبيبي، أحب الليمون!. شعر بالارتباك !لكن الكلمات اندفعت من بين شفتيه:
_ الناس تنظر لنا!. اندفع أمامها وهو يسحب كفها! خطوات ثم توقفا عند أحد الاكشاك التي تعودا الشراء منها في كل موعد!وقف خلفها وأخذ يتأمل اصابعها التي أخذت تلتقط من الأصناف المعروضة، علكة وعصائر وحلويات من شتى الأنواع حتى امتلأ الكيس، لكنها لم تنسى أن تدس فيه قنينتي مياه معدنية، همس لها :
_الا تريدين شىء آخر. هزت رأسها:
_ لا حبيبي. أوقف سيارة أجرة ثم سرعان ما انطلقت بهما، لم يطل بهما الوقت كثيرا إذ سرعان ماتوقفت السيارة تحت جسر المشاة مقابل حديقة الزوراء، فتح باب السيارة الخلفي، أمسك بيدهاوأغلق الباب ثم عبرا الشارع، سار بخطوات سريعة نحو شباك قطع التذاكر فيما أخذت هي تنتظره في الداخل، تأملها من بعيد وهو يقترب منها!الله كم هي جميلة! لشد ما يعجبه النظر إليها!وكأنما أدركت تفكيره إذ سرعان ما أخذت تحدق فيه بعينيها العسليتين فغض بصره سريعا كالعادة! تجولا قليلا في المكان وسارا على العشب وكانت كفها تغفو بين أصابعه وهما يسيران شبه متلاصقين! جلسا أخيرا على العشب عند إحدى الارائك ثم وضع الكيس الممتلىء بالحاجات، كان يجلس في مواجهتها تماما، فاجأته عندما قالت:
_ لم تسألني عن رأيي بعطرك الليموني؟. نطقت بها ثم كبرت ابتسامتها، لم يرد عليها فقط اكتفى بالصمت، فيما راحت أصابعه تزيل غطاء علبة عصير البرتقال! أخذت تلاحق عينيه بنظراتها، هز كتفيه وقال:
_ الم تقولي انه طيب؟ أقصد إنك قلت بأنه حلو!. تناولت العلبة من بين يديه، همست له بود:
_ في المرة القادمة عندما نلتقي، أريدك أن تحضر لي واحدة! زجاجة عطر أخرى بشذا الليمون. حدق فيها ورمشت عيناه !وجد ملامح وجهها جادة، تنهد ثم مد أصابعه وأخرج من جيبه زجاجة العطر، قالت ضاحكة :
_ماهذا؟ أصبحت تحمل عطرك معك مثلي. تنهدت بعذوبة وأكملت:
_لا عزيزي هذه تخصك، أريد واحدة لي!. لم ينتظر لمعرفة السبب، أضافت بعد قليل وهي ساهمة تحدق في العشب الذي بينهما:
_عندما نفترق وتغيب، أشعر بأشتياق لك! اشتياق كبير لاينتهي،أريد أن اشمك في عطرك. قالت ذلك ثم تنهدت، أخذت تجذب العشب القصير باصابعها! لم ينطق بحرف كانت ملامح وجهها متوردة وعندما التقت نظراتهما هربت بعينيها هي بعيدا، هذه المرة!!!!