"الرقصة الجنائزية قراءة فلسفية"
عندما أسس "بنيامين ايدو" رقصة حاملي النعش، لم يكن في باله معنى فلسفيا قبالة الموت، وإنما كان مدفوعا بالحاجة إلى عمل كغيره من الغانيين، الذين انهكتهم البطالة.
إن كبار السن في "غانا" يخافون المرض اكثر من الموت نفسه؛ لسبب وجيه وهو أن تكاليف العلاج باهظة، كما أنهم سيكونوا عبء ثقيل على ذويهم. فلو كان للعائلة والحالة هذه قرش أبيض، فلا شك انها ستدخره إلى يوم أسود كمراسيم العزاء، بدلا من صرفه على مريض يستنزفهم بلا طائل!.
نتحدث عن اول دولة افريقية نالت الاستقلال من بريطانيا في العام 1957.
وحوالي ثلاثين مليون نسمة، يتوزعون على أراضيها. تشكل المسيحية 72% من المجتمع، بينما 17-23% مسلمين. فضلا عن أقليات أخرى. وقد مرت مثل عدد من دول العالم النامي إلى انقلابات عسكرية، واضطرابات سياسية واقتصادية.
لقد نجح مؤسس فريق الخدمات العزائية، في ايجاد عمل لمائة شخص، كما حقق نجاحا محليا ودوليا.
ولم يكن هذا النجاح قد كتب له الشهرة، إلا عقب أن عمل مستخدم صاحب حساب @lawyer_ggmu على تيك توك، بدمج سقوط متزلج بكليب الرقص بحملة التابوت، لينتشر بعد ذلك كالنار في الهشيم ويصبح ترنداً عالمياً.
والملاحظ إن الوجهة الاخرى التي غابت عن كثير من الناس، لم تكن الرقصة في حد ذاتها، والتي نشرت على موقع يوتيوب منذ العام 2015، كنوع من ثقافة شعبية، وإنما الحدث الفارق هو تركيب الموسيقى والمشاهد المضحكة معها.
لربما السؤال الملح الذي علينا طرحه: لِم يتم استحضار روح الفرح خلال لحظات الوداع الحزينة!؟
لقد ذكر الاهالي في مقابلات اجريت معهم، انهم يريدون وداعا يليق بالميت. وهذا غالبا يتطلب وقتا ليس بالقصير. وقد لا يتم دفن الميت لاشهر او حتى سنين؛ لان العائلة لا تملك مالا كافيا.!!
ويبدو هذا الاهتمام بمراسيم العزاء ابتداء من التابوت الذي يظهر بشكل أنيق، وبمختلف الاشكال التي توافق عمل المتوفي، كالسمكة ان كان صيادا، والسيارة ان كان سائقا وهلم جرا.. .
من المهم أن نعرف ان الموت البيولوجي، والمراسيم الرمزية، تعبر عن بعد فلسفي لم يحظ بتسليط الضوء عليه. ففي بلد تقليدي يكون لدى ابنائه ميل قوي إلى الاسلاف وتبجيل الماضي، أكثر منه إلى طوي صفحة قد انتهت والتطلع للمستقبل. فلو سئل احدهم ماذا تعرف عن الماضي فسيحدثك الكثير، إلا أنه سيعجز عن تقديم رؤية او نظرة لمستقبل يحاول ان يصله؛ لانه ببساطة مشغول بيومه، ويومه فقط.
وعلى اية حال يمكننا القول بشيء من التجوز، ان العقل المجهد بالعمل اليومي المتعب، لا يمكنه التفلسف وتقديم رؤى ناضجة، كلّت عقول الفلاسفة قبلهم. فلم يبدع العقل الاغريقي إلا عقب تفرغه لهذا الجهد الفكري، حيث كان يمثل إلى حد كبير مهنة الاحرار من المجتمع اليوناني القديم.
لعل مشهدا مقارنا يحدث عندنا نحن المسلمين، حيث يتم تشييع الشهيد، والاعزب، بما يشبه اجواء الاحتفال، وحتى بعض المسيحيين قد يحصل عندهم ذات الامر. فقد طلبت الفنانة اللبنانية صباح (مسيحية مارونية) طريقة مشابهة في هز تابوتها في تشييعها، حيث مرت بعدد من المناطق والقرى اللبنانية، بعدما كانت أوصت بأن يتم تشييعها على صوت الطبول والأغاني، وبأن تُزف غناءً ورقصاً إلى مثواها الأخير.
وبالاشارة إلى القران الكريم، نجد الاية: "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وهو العزيز الغفور"(الملك)
إذ يظهر هنا الغرض الاخلاقي، مرتبطا بما يقدمه المرء في دنياه. وليس بعيد ما تراه المسيحية في أن تضحية السيد المسيح "ع" هي لاجل تخليص الناس من الخطيئة التي ارتكبها آدم، ومن ثم تنقية هذا الانسان عند الحياة و الموت.
ل "الحياة والموت" أثر ايماني على ضمير الانسان، ولاسيما منه المؤمن. حيث يعمل الايمان على اعادة صياغة الوعي بما يتوافق اخلاقيا ومرضاة الاله. بينما في "الوجود والعدم" يكون الاثر على العقل مباشرة، فيرهقه لضغط الاسئلة والاستشكالات الانسانية، التي يطرحها العقل المفكر للوصول إلى حلول ترضي عطشه. واذا كان الفيلسوف "كانت" قد حذرنا من الخوض فيما وراء الطبيعة لقصور عقولنا من ادراك القضايا الميتافيزيقية، فإن المدرسة الوجودية تحرضنا على ذلك من خلال التأكيد على فرادتنا بما تحويه عقولنا من أفكار، ومشاعر، وتفوق على بقية الكائنات الحية، تتيح لنا نحن بنو آدم أن نضع كل شيء على منضدة التشريح الفلسفي.
ومما له مغزاه في هذا الصدد، الانتشار السريع، والتداول النشط على مواقع التواصل لرقصة التابوت في زمن "كورونا" حيث قيم الحياة صارت مهددة بالموت. فقد ادرك الناس "الدرس الغاني" متأخرا، والذي يقول ببساطة: إن كان كتاب الموت يحاصرك لا محالة، فارقص ومارس حريتك في الصفحة الاخيرة!.
إنها فلسفة المغلوب على أمره، في مواجهة ما لا طاقة للانسان مواجهته !!
تذكرنا بفيديو الرجل السوري مع طفلته تحت قصف النظام السوري، وهي تضحك كلما سقطت قنبلة على مقربة من بيتهم. كان ابوها قد علمها ذلك وهو يقول: إن كان لا مفر من القصف، فلنمت ونحن نضحك!!
مما سبق يظهر لنا أن الوداع الاخير ليس حدثا عابرا أو حتى مسليا، بقدر ماهو تكريم هذا الانسان الذي عجز عن تحقيق أبسط ما سعى لتحقيقه في حياته. إنه على كل حال حدث فاصل يكسر قلوب ذوي المتوفى، فيعز عليهم الفراق بسرعة. فيكون أشد مايكون عند وفاة شاب لم يأخذ نصيبه من تفاحة الحياة.
فتسيل الدموع وترهق النفوس، فيرضى المؤمن بقدره. ويبكي الفيلسوف كذلك لعجزه تقديم اجابة مريحة، تكون بلسما لهذه النهاية.