(ذهب الذين نحبهم )
لم تكن طفولتنا سيئة، أبي لم يكن ليسمح بذلك! صباحا وقبل انطلاقنا للمدرسة ،التي تقع خلف دارنا ببضع عشرات من الأمتار
،توقظنا امي بصوتها العميق الدافىء، يحدق اكثرنا نحن الصبيان الأربعة في سقف الغرفة، نحاول قدر الإمكان إطالة فترة مكوثنا
في الفراش الممتد على طول الغرفة! كنت اتعمد البقاء لأطول فترة ممكنة، أعرف أي منظر ستبصره عيناي في الخارج!. لقد عاد أبي
، يطل وجه أخي آخر العنقود ليخبرني بذلك. اغمض عيناي ثم أعد حتى ثلاثة، أجده يقف في باحة الدار، كما في كل مرة بعد عودته
من صيد السمك، الماء يقطر من ثيابه التي رفعها وشدها حول وسطه،ومن سرواله الداخلي الطويل ذو اللون الكالح والذي يصل حتى ركبتيه!
احدق في شفتيه، أنه يرتجف من رأسه حتى اخمص قدميه، لكنه يضحك بعذوبة ويمزح مع أمي المبتسمة الفخورة واخوتي الذين فارق النعاس
اعينهم،ينظر صوبي والبسمة لاتفارق شفتيه، يهمس لأمي بشيء، فتمتد يد هذه الأخيرة لتعزل على جنب الأسماك الكبيرة والفخمة!إنها حصة
الأولاد، هكذا يقول لها قبل أن تتسلل يده الماهرة لتزن باقي الأسماك. تجمع أمي أكياس السمك وتخبىء الجميع تحت عباءتها السوداء ،تنطلق
للخارج بملامح تشي بالفرح والكبرياء! نسمع صوت طرقات باب الجيران، إن أمي ماهرة في بيع بضاعتها ،هكذا أتخيلها لو أرادت أن تقول شيئا ما!
اواصل التحديق في سيقان ابي الرفيعة، يجذبني منظر العروق الزرقاء النافرة، يتتبع نظراتي، يدنو صوبي، تمتد أصابعه، يربت على كتفي، يقول :
-اخوتك مشاكسون لكن طيبون! راقب وضعهم الدراسي، أنت الأفضل عزيزي. يستدير صوب الحمام بعد أن يتنهد، تمتد أصابعه ويسدل الستارة.
يلوح خيال امي من خلف الباب، بملامح طافحة بالزهو،تبحث بعينيها عن رجلها الأوحد، تستقر نظراتها على الستارة المسدلة، تخبىء النقود في
جيبها، ثم تمشي بخطوات واثقة صوب الحمام. بعد سنوات طويلة يخبو وهج كل شىء، تختفي الوجوه الحلوة، وتضمحل الملامح، ادنو من نافذة
غرفتي ،تأخذ الذكريات بيدي شيئا فشيئا، المح بوضوح على زجاج النافذة البراق فقط ،عروقا زرقاء نافرة!