TODAY - October 03, 2010
حكاية شاب تختصر مأزق 16 ألف باحث عن العمل في الموصل: إنه حر.. لكنه عاطل!
التوتر الأمني في نينوى يمنع الخريجين حتى من سوق الخضار وقيادة التاكسي
الموصل - جرجيس توما
لم يكن سوق الخضار في باب الطوب، احد الخيارات التي تتيحها شهادة البكالوريوس في الترجمة التي حصل عليها جمال غازي قبل تسع سنوات من كلية الآداب بجامعة الموصل، وإنما حل مؤقت اراد به ترميم احلامه، التي صدعتها سنوات انتظار الوظيفة، إضافة الى اعالة ثمانية افراد، جلهم من الاطفال، اخوة، وأبناء اخت أرملة، مع ام مقعدة.
جمال، تنقل بين اعمال عدة، بدأها بسيارة أجرة (برازيلي) سنة 2005 جالت به شوارع الموصل اربعة اشهر فقط، قبل ان تصطاده دورية للجيش الاميركي جنوبي المدينة، وتعتقله لأنه كان في المكان والزمان الخاطئين حسبما اخبروه لاحقا، وبذلك فقد وظيفة السائق بأجر يومي، وضاعت منه ستة اسابيع دار فيها بين المعتقلات، قبل ان يلفظه احد مراكز الشرطة المحلية حراً طليقاً، ولكن عاطلاً عن العمل.
احتاج جمال بعدها الى عدة ايام، قبل أن يجد مترين مربعين على رصيف في سوق السرجخانة، زرع فيهما بسطة لبيع ملابس الاطفال، لكن انهيار الوضع الامني في تشرين الثاني من عام 2005، اجبر مع معظم سكان مدينة الموصل على المكوث في المنازل عدة اشهر، بعد ان تعطلت الحركة اليومية، وانتشرت الجثث وساد الرعب في الشوارع.
في تلك الاثناء كان على جمال، ان يظهر باستمرار في المشهد الحياتي لمحلته التي يقع فيها منزله، لان أي غياب ولو ليوم واحد، كان سيجلب له تهمة العمل مع الجيش الاميركي بصفة مترجم، وكان هذا هو الشيء الوحيد الذي يذكره بشهادته في اللغة.
ومع ذلك تلقى جمال في نهاية كانون الثاني عام 2006 رسالة تهديد موضوعة في ظرف ورقي صغير، احتوى ايضاً على رصاصة بندقية (حارق خارق)، مررها مجهولون تحت باب منزله، ليضطر بعدها الى تعليق توبته على جدران احد الجوامع، منقذاً نفسه من تلك التهمة الكيدية، وربما منزله من التفجير لاحقاً. مع نهاية عام 2006، ووصول المهجرين من انحاء مختلفة من العراق الى الموصل، تفاقمت مشكلة البطالة، وحتى المترين المربعين اللذين عاد اليهما جمال في السرجخانة، فقدهما بعد طلعات متكررة لدوريات الشرطة المحلية التي اجتهدت وطوال عام 2007 في تنظيف ارصفة الاسواق في مدينة الموصل من البسطات، وقد سجل ذلك العام تحديداً، مستويات قياسية في البطالة اقتربت من 75 % بحسب تقديرات شبه رسمية.
عربة الخضار، كانت آخر حلم بددته الإجراءات الأمنية، بعد ان قامت قوات من الشرطة المحلية بحملة لرفع تجاوزات بائعي الخضار عن شارع باب الطوب مركز مدينة الموصل، وعبثاً حاول مع زملائه ايصال اصواتهم الى مبنى محافظة نينوى القريب، وحتى التظاهرة التي ارادوا القيام بها، فرقتها عناصر من الشرطة بوابل من الرصاص.
لا تختلف قصة جمال غازي عن قصص الآلاف من الشباب في نينوى، ومعظمهم من الحاصلين على شهادات جامعية او اقل من ذلك، انتظروا بصبر فك الاحجية التي تقود الى مفتاح ازمة محافظة نينوى، والأمل عاد ليراودهم مجدداً في حزيران من عام 2008، عندما اعلنت رئاسة الوزراء وبعد ايام من انطلاق عملية ام الربيعين الامنية في نينوى تشكيل لجنة اسناد ام الربيعين، وكان جزء من مهامها توظيف 16 الف عاطل بعقود مؤقتة مدتها ستة أشهر في الدوائر والمؤسسات الحكومية، والتي عرفت فيما بعد بعقود الاسناد.
هكذا وجد جمال نفسه موظفاً في جامعة الموصل، وللمرة الاولى في حياته، تقاضى راتبا شهرياً، وراح يتجنب تماماً فكرة انها وظيفة مؤقتة، وبدأ يحلم مع 15999 آخرين من زملائه بتثبيت وظائفهم. بعد تمديد العقود مرة واحدة، نقلت الحكومة المركزية ملف عقود الاسناد الى مجلس محافظة نينوى، وقد تبنى الاخير القضية لأشهر، قبل ان يعلن عدم تمكن ميزانيته من تحمل رواتب موظفي عقود الاسناد، التي تصل الى
نحو ثلاثين مليار دينار عراقي سنويا.
ثم تم تجميد عقود الاسناد مطلع العام الحالي، وخرج الموظفون الموقوفون منذ ذلك التاريخ في عشرات من التظاهرات، ورفضوا ترك الدوائر التي نسبوا اليها، حتى دون ان يتقاضوا اجوراً، أملاً في وعد أطلقته المحافظة في تثبيت الملتزمين منهم في وظائف دائمة حال وصول الدرجات الوظيفية، ولن يحدث ذلك الا بعد تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.
العديد منهم، بينهم جمال اضطروا الى التفتيش عن اعمال اخرى، يرقعون بها ايام بطالتهم، ولم تكن الخيارات كالعادة متعددة، ليجد جمال نفسه عاملاً في محطة بيع الوقود المحسن (سفري) في منطقة شارع الدواسة خارج، ولم يستسلم كثيراً للإحباط بعد قرار الحكومة المحلية رفع هذه المحطات لانها غير مشروعة، فاستقر في ذات المكان ليبيع (البنزين) بعبوات بلاستك، وراج عمله الجديد بسبب تزامنه مع أزمة الوقود المتفاقمة في الموصل بشكل مستمر منذ ثلاثة اشهر.
وقبل ايام قليلة فقط، لم يفطن جمال الى عواقب بقائه في مكانه بعد سماعه دوي انفجار حدث في شارع قريب، واعتقد بان دورية الجيش العراقي القادمة من بعيد بأربع همرات مسرعة ستمر من امامه كما تفعل العشرات غيرها كل يوم، لكن ماحدث لجمال انه كان المقصود من تلك المناورة العسكرية، وانهال عليه الجنود ضرباً وشتماً، وترك على الرصيف مع رضوض وكدمات لم يعرف ابداً لم استحقها.
جمال، فقد قدرته على مواصلة الكفاح اليومي من اجل لقمة العيش، وصار يتجنب الشوارع قدر المستطاع، ويمط آذانه باستمرار للقبض على خبر يتعلق بعقود الاسناد التي نسيتها نشرات الاخبار، وهو يستعد الآن لدفع اثنين من اخوته الصغار للاحتكاك بقشر الحياة في ورشة ميكانيكي اراد أن يختتم بهما حسنات شهر شوال، هو يعرف تماماً أن سوق الخضار لن تحل المشكلة بعودته اليها، لكنه الخيار الوحيد المتاح أمامه، بانتظار ان تشكل الحكومة الجديدة، وربما يأتي معها الحل.
العالم