سوق الصفارين بين انتعاش الماضي وإهمال الحاضر
تعد الأسواق البغدادية معلماً حضارياً وتاريخياً, وتشكل مركزاً تجارياً مهماً للمدينة, وهي بمثابة الشريان الاقتصادي لها، حيث تعج هذه الأسواق بكثرة السلع والبضائع المتنوعة، فيقصدها المواطنون لغرض التبضع واقتناء بعض الأشياء الثمينة.
ومن الأسواق التي اشتهرت بها العاصمة بغداد منذ القدم هي (سوق الصفارين) العريق الذي يعتبر من أهم الأسواق التاريخية في بغداد، حيث ظلت ترانيم الازاميل, وأصوات المطارق تصدح على مدى قرون.
ولهذه السوق أهمية في حياة البغداديين فهي تشهد حركة مستمرة للتبضع، وشراء المقتنيات الثمينة والتراثية المهمة التي تمثل رموز وحضارة وادي الرافدين من قبل السواح الاجانب والعرب... وكانت هذه المقتنيات تصنع يدويا من قبل اصحاب هذه الحرفة, وبشكل دقيق ومهارة عالية في التفاصيل.
ويعود تاريخ هذه السوق إلى القرن الثالث عشر الميلادي فترة الخلافة العباسية, وبالتحديد إلى عهد الخليفة المستنصر بالله, والذي أمر بإنشاء اسواق في بغداد متخصصة: كأسواق الوراقين, والبزازين, والعطارين, وسوق الصفارين... وتعتبر هذه السوق أصالة عراقية قديمة، وسفراً يحكي عقوداً وأزمنة مرت بها العاصمة بغداد، فقد زارها السلاطين والحكام والشخصيات السياسية والأدبية على مر التاريخ، فهي من الأسواق التراثية القديمة في بغداد.
ونظراً للتطور الحاصل في السلع والمقتنيات وانتشار المستورد، فقد انحسرت صناعة النحاسيات والمقتنيات التراثية، وأصبحت السوق مهددة بالانقراض والاندثار، لتطوي سوق الصفارين صفحة من تاريخ العراق، بعد ان انطوت الكثير من المعالم التاريخية في العراق؛ نتيجة الظروف والمتغيرات الاقتصادية والسياسية التي مر بها البلد. ويطلق على هذه السوق سوق (الصفارين) او (النحاسين) وباللهجة العراقية يطلق عليها (سوق الصفافير)، فالصفر في اللهجة العراقية هو النحاس.
وما يميز هذه السوق هي كثرة الأصوات فيه، والتي كانت ناجمة عن عملية تطويع المعدن وتحويله الى مقتنيات وتحفيات وغيرها من اباريق الشاي ودلة القهوة، وفوانيس المنازل، والمزهريات والأواني والكؤوس وغيرها... وكانت هذا المهنة تعد من اجمل المهن، وتوارثها الابناء عن الاباء، وعمّر في ازقتها الضيقة حرفيون يعملون في هذه المهنة الشاقة والممتعة، فجعلوا من هذا المكان معلماً تاريخياً.
الإهمال الذي تعرضت له هذه السوق دق ناقوس الخطر بانقراض المقتنيات التراثية وورش النحاسين، وتسببت السلع المستوردة في اخفات أنغام الأزاميل والمطارق، واصبحت مقتنياته يغطيها غبار الحاضر بعد أن كان يغطيها ألق الماضي بكل أصالته.
وقفتنا الأولى كانت مع أحد اصحاب هذه السوق، ويعد من اقدم النحاسين فيه، فقال: لا أريد أن أتحدث عن هذه السوق؛ لأن هذا الحديث يسبب لي ألماً في داخلي بما نراه اليوم على هذا الحال، فقد كان بالأمس يزهو بزواره ومقتنياته، والآن أصبح الغبار يغطيه، وأغلب اصحاب هذه المحال قد غادرو المكان، والقسم الآخر التجأ الى مهنة اخرى... ويعود هذا الإهمال إلى غياب الدعم الحكومي لهذه السوق.
وكانت لنا وقفة مع المواطن أحمد جلال فتحدث قائلاً:
إن هذه السوق لها قيمة ورونق جميل يشعر به كل من يدخل اليها، لكن التغيرات التي طرأت على هذه السوق ربما تسلب الطابع التراثي الذي عرفت به، فالكثير من البضاع الاجنبية قد استوردت الى هذا السوق لرخص ثمنها، ويلتجئ اليها اصحاب الدخل المحدود.
اما السلع والبضائع العراقية فيغلب عليها الطابع الحضاري والعمل الدقيق فيها، فيلتجئ اليها اصحاب الدخل المرتفع... وعندما يرجع العراق الى استقراره وامنه سوف تستقر البضاعة العراقية الأصيلة والجميلة والتي لا تضاهيها اي بضاعة اخرى؛ لأن اليد العراقية هي يد الحضارة والصناعة والتي لا تضاهيها أي يد أخرى.
وفي ختام جولتنا السريعة، قرأنا في عيون كل زائري السوق والذين التقينا بهم مدى أملهم وتمنيهم لعودة السوق كما كان في السابق يبتهج بمقتنياته النحاسية البراقة التي تسرد لنا قصصاً لن تنمحي من ذاكرة العراقيين.