نبراس الذاكرة
أسواق بغداد.. عنوان الحضارة والرقي
لعل السوق هي البؤرة التي نشأت في بدايات تكوّن المدن ونشأتها فالبرجوازية مصطلح يعني سكان المدن وهؤلاء السكان هم التجار الذين تجمعوا قرب السوق واخذوا يمارسون التجارة او يتبادلون السلع،فالسوق هي العامل الموضوعي لنشأة المدينة، وهو المركز الذي تدور حوله العلاقات التجارية ومنه تنمو وتمتد المواصلات وتتصل به، فهو قلب المدينة وجذرها الحيوي، النابض بحركتها الفاعلة، وهي التي تضخ الدم في شرايين المدينة، وتسيطر على العلاقات الجدلية القائمة بين المركز والاطراف ومنها تنهض القوى الاقتصادية، وتتشكل شروطها الموضوعية لقيام اقتصاد مدني يمثل الطبقة التي سيولد منها النظام السياسي او يرسم ملامح هذا النظام واتجاهاته .
وقد وضعت خطط بغداد في القرن الثامن واعطيت عناية خاصة للاسواق على راي المؤرخ الكبير د. عبد العزيز الدوري. وكان الخليفة المعتصم قد أمر قائده ان يبني في سامراء سويقة وهي مصغر سوق فيها حوانيت التجار، وأمر المتوكل ان تبنى في كل ناحية منها سوق، وهذا يدل على ان السوق في العصر العباسي كما في كل العصور هي مركز المدينة اولاً وموضع اهتمام القيادة والنظام السياسي. ولقد كانت بغداد هي المركز التجاري للنظام السياسي انذاك فهي سوقه الطبيعية التجارية ودجلة والفرات هما اللذان يصلانها بالطريق البحري او الطرق البرية التي تربط بغداد بالشام او خراسان فبغداد هي مركز تجارة اسيا وقلب القارة القديمة ويأتي دورها التجاري من كثرة أسواقها . ولعل الكرخ كانت هي السوق العظمى في بغداد، ويروي د. عبد العزيز الدوري ان لهذه الاسواق اختصاصات مختلفة. ولكل تجارة شوارع معلومة فلا تختلط تجارة بتجارة ولا قوم بقوم ولا تباع الاصناف مع غيرها من الاصناف المغايرة. واصحاب المهن بغيرهم من المهن الاخرى . وكل سوق متفردة بتجارتها . وفي كتب التاريخ معلومات عن سوق البطيخ للفواكه، وسوق البزازين للاقمشة، وهناك سوق العطارين وسوق الصرافين وسوق الوراقين التي تحتوي على مئة مكتبة. فهناك سوق باب الشام تتفرع منها الى الجوانب دروب طوال وفي كل درب ناس من بلد يطلق اسمهم على ذلك الدرب فهناك أهل بلخ او مرو او أهل بخارى او اهل كابل او أهل خوارزم وكأن بغداد عاصمة أممية لكل شعوب قارة آسيا ولكل أهل بلد قائد ورئيس .
هذا في الكرخ اما في الرصافة فلدينا باب الطاق الذي ورد ذكرة في قول الشاعر
ناحت مطوقة بباب الطاقِ
فجرت سوابق دمعيَ المهراقِ
وفي هذا الباب تتفرع اسواق عديدة منها سوق الطيب وسوق الطعام وسوق الوراقين وسوق الصاغة وسوق الغنم.
ولعل مدينة البصرة كانت باب العراق الى هذه الحركة التجارية الهائلة ومنها خرج الجاحظ الذي ألف اول كتاب في التجارة .
وفي البصرة كان هناك المربد على طرق الصحراء وهي سوق للجمال في بداية الامر ثم أصبحت سوقا للبدو حيث تبا