“نسيم الصبا” هي رواية للكاتب النمساوي “دانيل غلاتاور” ذات النجاح الباهر. نُشرت الرواية للمرة الأولى عام 2006 وسرعان ما تصدرت قائمة أفضل المبيعات في النمسا وألمانيا. ترشحت أيضًا للجائزة الألمانية للكتاب في العام نفسه، تم اقتباسها في عدة مسرحيات وترجمت إلى أكثر من 35 لغة. في عام 2015 صدرت “نسيم الصبا” بترجمة محمود حسنين عن دار كلمة.
رسائل يحملها نسيم الصبا
تقع رواية “نسيم الصبا” للكاتب النمساوي “دانيل غلاتاور” في 340 صفحة، وهي مكتوبة بطريقة الرسائل الإلكترونية. النص من أوله إلى آخره سرد لمراسلات تقع بين شخصين هما ليو لايكه وإيمي روتنر عبر الإيميل، تبدأ المراسلة بخطأ من إيمي التي تعاني مشكلة في الخلط بين حرفي E وI، وبدلًا من التواصل مع مجلة تبغي إلغاء اشتراكها فيها، تجد نفسها تنجذب في محادثة تتشعب وتطول مع هذا الغريب.
أدب الرسائل ليس بدعة، والأدب المسرحي القائم على تسجيل حوارات تخلو تقريبًا من أي سرد خارجي معروف كذلك. الفرق هنا أن النص مصبوغ بروح العصر مواكب لتطور طرق المراسلة و –الأهم– ما تطرحه من خيارات. تعمد الرواية إلى استكشاف هذه الطريقة من طرق التواصل وعرض تفاصيلها المعبرة. نعرف في الصفحات الأولى أن ليو باحث لسانيات نفسية يدرس تأثير الرسالة الإلكترونية على السلوك اللغوي، وبوصفها وسيلة لنقل المشاعر. لا أدّعي أن النص يرقى إلى درجة كونه بحثًا جادًا عن المسألة لكنه بالتأكيد يمنحك ما يمكن أن تكتفي به رواية خفيفة تسعى أولًا إلى تسليتك.
ما العيب في رواية رومانسية جيدة ؟
حصلت الرواية الرومانسية على سمعة سيئة بسبب ارتباطها مؤخرًا بالأدب الرديء. الحقيقة أن نوعي أدب الرعب والرومانسية حصلا على المشاركة الأكبر خلال موجة النشر الواسعة التي أغرقت المكتبات المصرية في الأعوام الأخيرة. النوع الأول باعتباره امتدادًا لجيل كامل من التأثر غير الناضج بكتابات الكبير أحمد خالد توفيق، والثاني باعتباره الأسهل وصولًا إلى جمهور الإناث والمراهقين بشكل عام. مع استفحال المشكلة بمرور سنوات لا تخلف إلا مزيدًا من المحاولات العجلى لكتابة أدب عاطفي متماسك، صار ضروريًا طرح السؤال:
هل ثمة مجال أصلًا لكتابة أدب رومانسي جيد؟ هل يحتمل التصنيف ذاته أي درجة من الجودة؟
الواقع أن مجال الرومانسية –في الأدب والأفلام على السواء– يكاد يُعامل باستخفاف هو أثر ارتباطه بشريحة معينة من الجمهور وعدد من القوالب الجاهزة التي بليت من التكرار. يبدو أحيانًا أن النقاد لا يعاملون أدب الحب باحترام إلا إذا ارتبط بالحرب والكارثة والسياسة. من جهة أخرى فإنك تتساءل ما إذا كان ثمة مزيد ليقال عن الحب، أو إن كان من متسع ليستقل أدب الرومانسية بذاته من الأساس.
يعلم المتابع لأنواع الفنون أن ليس ثمة مزيد ليقال عن أي شيء، وكل جديد هو إعادة إنتاج لقديم تصبغه الجدة في أفضل الأحوال. وما كانت النظرة المقللة من أدب الرومانسية إلا تعاليًا على فكرة التسلية نفسها، إذ يظن البعض أن الاستمتاع بكتاب لا يكفي، وأن الجدير بكل فن تحقيق مطالب هائلة مثل تغيير العالم والتأثير في الأشخاص وتسليط الضوء على المشاكل الجادة إلى آخره.
بالنظر إلى “نسيم الصبا” يزداد إيماني بعظمة فكرة العرض والطلب. الرواية التي بين أيدينا لا تعد إلا بساعات من التسلية الخفيفة. رواية تجعلك تبتسم مرارًا ويعلو إيقاعها كلما انتابته الرتابة. أتراه –الكاتب– يداعب فضولك المذنب للاطلاع على محادثات البشر الخاصة وما يجري في خلواتهم؟ وليكن، فأي فائدة للأدب أكبر من إشباغ الرغبات في صورتها الأقل ضررًا؟ أنا مثلًا أعتقد أنه ليس ثمة وسيلة للتعبير عن انبهارك بالقتلة أفضل من تكرار مشاهدة “Dexter” أو كتابة رواية عن قاتل ينجو بفعلته. إذا كان المعيار المجتمعي الحاكم على تصرفات البشر يضيق مع الوقت فإن الفن ثغرة مفتوحة على فضاء بلا قيود.
خارج الزمان
“لا شيء. لا يوجد أشخاص حولنا. لا عنوان لنا. لا عمر لنا. لا وجوه لنا. لا نميز بين الليل والنهار. نعيش خارج الزمان، ليس لدى كل واحد منا سوى شاشته أمامه وحده فحسب، ولدينا هواية مشتركة: يهتم كل منا بشخص غريب تمامًا بالنسبة له. برافو!”
كل زخرف يضيفه المرء للعالم يتسبب في إنشاء عوالم صغيرة ما تفتأ تكبر وتستقل. كل اختراع جديد يفتح أبوابًا من الاحتمالات الممتدة على مدى البصر. أما البشر فحفنة من الأطفال يجربون الألعاب على أمل العثور على تسلية. إيمي روتنر امرأة سعيدة، لها زوج وطفلان وحياة مثالية، لكنها تقرر أن السير وراء الانجذاب غير المفهوم تجاه تجربة ما ضروري. ليو لايكه غادر قبل قليل علاقة فاشلة مسممة امتصت روحه على مدار سنوات، وهو بالتأكيد منجذب لفكرة إزالة كل العوامل المحيطة للعلاقات والتركيز على عامل واحد يراه مستحقًا للإخلاص: الكلام. يجتمعان بدوافع مختلفة ومتشابكة، ويشتركان في رغبة في إيجاد عالم بديل قد يطرح بالتبعية نتائج بديلة. إذا كنت جربت الطرق الاعتيادية ورأيت مآلاتها –جيّدَها وسيّئَها– فلعله قد حان الوقت لإنشاء ظروف قياسية، قصة حب مختلفة.
أليس هذا ما يبحث عنه المرء في الحب وغيره؛ التميز والفردانية؟ حتى البحث عن السعادة يبدو مستهلكًا شديد الابتذال.
من اليسير الخروج لمقابلة امرأة والمرور بالخطوات المعتادة، لكن هذا –بعد كونه نافيًا للعفوية والغرابة المتوائمين مع تصور الإنسان الحديث للرومانسية– متاح لدرجة تدعو إلى الزهد. رواية “نسيم الصبا” تفحص حالةً من النزوع المشترك إلى تصعيب الحياة، إلى تلافي السيناريوهات الجاهزة المطروحة، واختيار مقامرة هي أقرب ما يكون للأمان وضمان النتائج، ظاهريًا على الأقل.
أود أن أراك
معظم ما يسميه الناس حبًّا لا يُعوّل عليه. وبينما يبدو للوهلة الأولى أن كتابة رواية كهذه يحوي تقديرًا للحب وتمجيدًا لصور الانجذاب العاطفي المتعددة، أرى أن النص يبطن شيئًا من النقد يسهل أن تلاحظه. في الرواية يتحادث الشخصان لشهور، يقعان في الحب ويسمحان للمحادثة أن تمتد على هامش مجريات حياتيهما، متظاهرين في البداية أنها محدودة أو معدومة التأثير، دون أن يقع بينهما لقاء واحد أو يعرف أيهما وجه الآخر.
ربما هذه قراءة مبالغة تجبر الكاتب على ما لم يقله، الواقع أن النص وإن احتمل درجة من العمق فإنه لا يحتاج إليها. لكن بما أن الكاتب يفقد جزءًا من امتلاكه لروايته بمجرد عرضها، وبما أنني باعتباري قارئًا أملك هذا الجزء المفقود، فإن تحميل النص معاني حقٌ من حقوقي. لعله ليس بيدي القطع بما عناه الكاتب وما أراد إيصاله، لكني أستطيع بالتأكيد الإشارة إلى ما تحتمله “نسيم الصبا” من النظريات. الكاتب نفسه –وإن كان منشئ العمل وصاحبه– لا يتيسر له الحفر فيه والتنقيب بين سطوره كما يتيسر للقراء. تقول إيمي في عبارة مربكة :
“أود أن أعرف شكلك. سيفسر ذلك الكثير. أعني أنه سيفسر لمَ تكتب كما تكتب. لأن شكلك سيكون مثل شخص يكتب مثلما تكتب، وأود أن أعرف ما هو شكل شخص يكتب مثلك. سيفسر هذا ذاك”.
يُحسب للكاتب في المجمل أنه لم يلوِ عنق المنطق لمجرد إرضاء القراء، وأنه أبقى مسار الحكاية واقعيًا بالقدر المطلوب.
خلال نص رواية “نسيم الصبا”، كان الكاتب “دانيل غلاتاور” مطالبًا بوصف الأحداث المحيطة بالحوار من خلال المحادثات، وقد أسهم هذا الدمج السلس في تجميل النص وترسيخ واقعيته. أيضًا كان مطالبًا بتوصيف الشخصيات بما يزيد على مجرد إتاحة المجال لهم ليتحدثوا. تحقق هذا إذ إنه من المثير للعجب القدر الذي يمكن للمدقق استشفافه عن حقيقة المرء من مجرد قراءة ما يكتب. إذا كان الغرض من توصيف الشخصيات توصيل انطباع للقارئ يعينه على تصورها والارتباط بها فقد أدى كاتب “نسيم الصبا” هذا وزيادة.
بعيدًا عن الأساطير
“لكني أدركت سريعًا الفرق بينك وبين مِييا. أنت لا تجرئين حتى أن تصفي لي البيانو الخاص بك لأنه من المفترض أن يظل بعيدًا عن عالمي. أما مييا فتنحني –على بعد نصف متر مني– على طبق صغير وتلف المعكرونة الإسباجيتي بالبستو على الملعقة، وحين تدير رأسها جانبًا، أشعر بتيار الهواء الناشئ عن ذلك… مييا مادة ملموسة محسوسة، أما إيمي فمحض خيال، وكل له عيوبه ومزاياه.”
تنتهي رواية “نسيم الصبا” للكاتب النمساوي “دانيل غلاتاور” بمواجهة إيمي وليو لحقيقة الوضع التي لاحظها القارئ –الناظر من الخارج– بسهولة: هذه العلاقة غير كافية لتلبية الحاجات الطبيعية. ليس فقط لتعقد وضع إيمي المتزوجة، ولكن لأن ارتفاع سقف التوقع خلال شهور المحادثة يربو فوق كل واقع متاح.
لا يمكن لأي حياة حقيقية أن تواكب كل هذا التخيل. وبشكل مؤكد، فإنه ليس ثمة وسيلة للعودة إلى اندماج سريع بالواقع. يواجها الحقيقة البديهية التي تقول إن القواعد العامة وضعت لسبب هو أنها طبيعية، والخروج عليها يمكن أن يكون نزوة ممتعة في أفضل الحالات. بعد كل شيء، أليس هذا أفضل ما يمكن أن يحققه الحب الأسطوري المجسد في الأدب والسينما ؟
محمود أيمن - اراجيك