قد نتعاطف مع الحاجب المنصور عندما نطالع سيرته، وقد لا نفعل، غير أننا لا نستطيع في الحالتين إلا أن نتوقف طويلًا لنتأمل بإعجاب تلك المنجزات التي حققها ذلك الرجل بعزمه وإيمانه، إنه نسيج فريد بين الرجال ونموذج لا نظير له بين القادة، لقد برز الحاجب المنصور في فترة صعبة من حياة الأندلس لم يكن فيها رجل قوي يتولى إدارة الدولة والحرب، فتصدى لتحمل المسؤولية ورفع راية الجهاد في سبيل الله، وقاد الحرب طوال حياته فأحرز من الانتصارات ما لم يحصل عليه رجل من قبل ومن بعد، فترك بذلك مجدًا خالدًا بقى متألقًا مرِّ الأيام، ومفخرة لجند الإسلام[1].
محمد بن أبي عامر ونشأته وطلبه للعلم
هو محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري، وكان جدُّه عبد الملك المعافري من العرب الفاتحين الذين دخلوا الأندلس مع طارق بن زياد، وكان والد المنصور (عبد الله بن عامر) من أهل الدين والعفاف والزهد في الدنيا والقعود عن السلطان، وأمه هي بُرَيْهَة بنت يحيى من قبيلة بني تميم العربية المعروفة.
ولد محمد بن أبي عامر في قرية تركش في الجزيرة الخضراء، وكانت قريته هذه غير بعيدة عن قرطبة عاصمة العلم والمعرفة، بل عاصمة الدنيا حينئذ، وقد نشأ في هذه القرية نشأة حسنة، وظهرت عليه النجابة منذ نعومة أظافره، وقد سار على خطى أهله وسَلَك سبيل القضاء؛ فتعلَّم الحديث والأدب، ثم سافر إلى قُرْطُبَة ليُكمل تعليمه، وكان ذا طموح كبير وهمة عالية وذكاء وقَّاد.
أقبل محمد بن أبي عامر على مناهل العلم في قرطبة حتى توافرت له العوامل الأساسية المكونة لشخصيته، ومن ثَمَّ عمل كاتبًا لأحد القضاة الذي أعجب به وبنبوغه مما جعله يوصي به عند حاجب الحكم المستنصر خليفة الأندلس، ومن عجائب القدر أنَّ الحكم المستنصر طلب وكيلًا يقوم على ولده ويرعاه، فرشَّح له الحاجب محمد بن أبي عامر، فولاه الحكم المستنصر وكالة ابنه عبد الرحمن سنة 356هـ، ثم وكلة ابنه الآخر هشام المؤيد سنة 359هـ.
محمد بن أبي عامر.. وكيفية وصوله للحكم.. وتأسيسه للدولة العامرية
لم يلبث محمد بن أبي عامر أن تدرَّج في المناصب حتى وصل إلى منصب مديرًا الشرطة، ومن المدهش أنْ محمد بن أبي عامر لم يتولَّ عملًا إلاَّ وأداره ببراعة وكفاءة، وكان مما ساعد محمد بن أبي عامر على أن يصل إلى هذه المراتب العالية بهذه السرعة بجانب هذه المواهب النادرة أنه استطاع استمالة «صبح البشكنسية» أمَّ هشام المؤيد، وجارية الحكم المستنصر، بحُسن خدمته لها ولابنها.
توفي الحكم المستنصر سنة 366هـ= 976م، وترك ابنه هشام المؤيد وليًا من بعده، ولكنه كان صغيرًا في السن وغير قادر على إدارة شؤون الدولة، فتولى محمد بن أبي عامر أمر الوصاية عليه، ثم استقرَّ الأمر لمحمد بن أبي عامر؛ وأصبح الحاكم الفعلي لبلاد الأندلس، وصار إليه الأمر والنهي والتولية والعزل، وإخراج الجيوش للجهاد، وتوقيع المصالحات والمعاهدات، حتى عُرِفَ ذلك العهد بعهد الدولة العامرية.
والدولة العامرية هي ذروة تاريخ الأندلس، وأقوى فتراتها على الإطلاق، ففيه بلغت الدولة الإسلامية الغاية في القوَّة، فيما بلغت الممالك النصرانية أمامها الغاية من الضعف، وقد بدأت فترة هذه الدولة فعليًّا منذ سنة (366هـ= 976م)، منذ أن تولى محمد بن أبي عامر أمر الوصاية على هشام بن الحكم، وظَلَّت حتى سنة (399هـ= 1009م)؛ أي: أنها استمرَّت ثلاثًا وثلاثين سنة متصلة.
ومن أجل ترسيخ وتثبيت شأنه في إدارة شئون الدولة، والابتعاد عن مناطق الخطر والمؤامرات، قام محمد بن أبي عامر بإنشاء مدينة جديدة في شرق قُرْطُبَة سمَّاها مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية، وفي سنة 371هـ=982م اتخذ محمد بن أبي عامر لنفسه لقب الحاجب المنصور، ثم أصبح يُدعى له على المنابر مع الخليفة هشام بن الحكم، ثم نُقش اسمه على النقود وعلى الكتب والرسائل، ومن ذلك التاريخ عُرِف محمد بن أبي عامر بهذا اللقب: الحاجب المنصور.
كان عهد المنصور بن أبي عامر في الذروة من القوة والكفاءة، فعلى المستوى الخارجي جهاد دائم لا ينقطع، يخرج المنصور مرتين في العام فينتصر، فقد غزا في حياته أربعًا وخمسين غزوة، لم يُهزم أبدًا في واحدة منها، بل كان الأغرب من ذلك هو أنه وصل في فتوحاته إلى أماكن في بلاد النصارى لم يصل إليها أحد من قبل، بل لم يصل إليها الفاتحون الأوائل؛ مثل: موسى بن نصير وطارق بن زياد، وفي كل هذه الغزوات لم تنكسر له فيها راية، ولا فلَّ له جيش، ولا أُصيب له بعث، ولا هلكت سرية.
أما على المستوى الداخلي فحسن إدارة وسياسة، حيث بلغت الحضارة والمدنية آفاقها السامقة، وكذلك كانت العلوم والتجارة والصناعة وغيرها من الأمور التي ازدهرت كثيرًا في حياة الحاجب المنصور، وقد عمَّ الرخاء وامتلأت خزانة الدولة بالمال، ولم يَعُدْ هناك فقراء تمامًا، وحتى البلاد التي فتحها المنصور من بلاد النصارى اهتم بتعميرها وعمارتها، حتى صارت الأندلس في عهده في ذروة مجدها.
وفاة محمد بن أبي عامر
توفي المنصور بن أبي عامر في سنة (392هـ= 1002م)، وهو في أوج قوته، والأندلس قد بلغت من القوة والعظمة ما لم تَصِلْ إليه من قبلُ في أي عصر من العصور، إلى جوار ما كان فيه أعداؤها من الضعف الشديد، وكذلك كان الحال داخل الأندلس نفسها؛ فالخليفة الأموي هشام المؤيد كان رجلاً ضعيفًا، وظلَّ حبيس قصره في مدينة الزاهرة، لا يتولَّى من أمر الملك شيئًا، ومع ذلك فبمجرد أن مات المنصور بن أبي عامر سارع ابنه عبد الملك إلى قُرْطُبَة، وتولى الخلافة بعد أبيه.
صور مشرقة من حياة محمد بن أبي عامر
يُسَيِّر جيشًا جرارًا لإنقاذ نسوة ثلاث
جاء عن الحاجب المنصور في سيرة حروبه أنه سَيَّر جيشًا كاملاً لإنقاذ ثلاث من نساء المسلمين كنَّ أسيرات لدى مملكة نافار؛ ذلك أنه كان بينه وبين مملكة نافار عهد، وكانوا يدفعون له الجزية، وكان من شروط هذا العهد ألاَّ يأسروا أحدًا من المسلمين أو يستبقوهم في بلادهم، فحدث ذات مرَّة أن ذهب رسول من رسل الحاجب المنصور إلى مملكة نافار، وهناك وبعد أن أدَّى الرسالة إلى ملك نافار أقاموا له جولة، وفي أثناء هذه الجولة وجد ثلاث نسوة من نساء المسلمين في إحدى كنائسهم فتعجَّب لوجودهن، وحين سألهن عن ذلك قلن له: إنهن أسيرات في ذلك المكان.
وهنا غضب رسول المنصور غضبًا شديدًا، وعاد إلى الحاجب المنصور وأبلغه الأمر، فما كان من المنصور إلاَّ أن سيَّر جيشًا جرارًا لإنقاذ النسوة، وحين وصل الجيش إلى بلاد نافار دُهش ملك نافار، وقال: نحن لا نعلم لماذا جئتم، وقد كانت بيننا وبينكم معاهدة على ألاَّ نتقاتل، ونحن ندفع لكم الجزية. وبعزَّة نفس في غَيْرِ كبرٍ ردُّوا عليه: إنكم خالفتم عهدكم، واحتجزتم عندكم أسيرات مسلمات. فقالوا: لا نعلم بهن. فذهب الرسول إلى الكنيسة وأخرج النسوة الثلاث، فقال ملك نافار: إن هؤلاء النسوة لا نعرف بهن؛ فقد أسرهن جندي من الجنود وقد تمَّ عقاب هذا الجندي. ثم أرسل برسالة إلى الحاجب المنصور يعتذر فيها اعتذارًا كبيرًا، ويخبره بأنه قد هدم هذه الكنيسة، فعاد الحاجب المنصور إلى بلده ومعه النسوة الثلاث.
يقطع النصارى عليه الطريق، فيُملي شروطه عليهم
ومما ذُكر عن الحاجب المنصور أيضًا أنه وهو في جهاده لفتح بلاد النصارى كان قد عبر مضيقًا في الشمال بين جبلين، ونكاية فيه فقد نصب له النصارى كمينًا كبيرًا، فتركوه حتى عبر بكل جيشه، وحين همَّ بالرجوع وجد طريق العودة قد قُطع عليه، ووجد المضيق وقد أُغلق تمامًا بالجنود.
فما كان من أمر الحاجب المنصور إلاَّ أن عاد مرَّة أخرى إلى الشمال واحتلَّ مدينة من مدن النصارى هناك، ثم أخرج أهلها منها وعسكر هو فيها، ووزَّع ديارها على جنده، وتحصَّن وعاش فيها فترة، ثم اتخذها مركزًا له يقود منه سير العمليات العسكرية، فأخذ يُرسل منها السرايا إلى أطراف ممالك النصارى، ويأخذ الغنائم ويقتل المقاتلين من الرجال، ثم يأتي بهؤلاء المقاتلين ويرمي بجثثهم على المضيق الذي احتلَّه النصارى ومنعوه من العودة منه.
وهنا ضجَّ النصارى وذهبوا مغاضبين إلى قوَّادهم يعرضون عليهم أن يفتحوا له الباب؛ حتى يعود إلى بلده مرَّة أخرى، أو يجدوا حلاًّ لهم في هذا الرجل، فاستجابوا لهم وعرضوا على الحاجب المنصور أن يُخَلُّوا بينه وبين طريق العودة ويعود من حيث أتى، فما كان من المنصور إلاَّ أن رفض هذا العرض، وردَّ عليهم متهكِّمًا أنه كان يأتي إليهم كل عام مرتين صيفًا وشتاءً، وأنه يريد هذه المرَّة أن يمكث بقية العام حتى يأتي موعد المرَّة الثانية، فيقوم بالصوائف والشواتي من مركزه في هذه البلاد بدلاً من الذهاب إلى قُرْطُبَة ثم العودة منها ثانية.
لم يكن مفرٌّ أمام النصارى سوى أن يطلبوا منه الرجوع إلى بلده ومالوا إلى السلم، فراسلوه في ترك الغنائم والجواز إلى بلاده، فقال: أنا عازم على المقام. فتركوا له الغنائم، فلم يجبهم إلى الصلح، فبذلوا له مالاً ودوابَّ تحمل له ما غنمه من بلادهم، فأجابهم إلى الصلح، وفتحوا له الدرب.
يجمع ما علق على ثيابه من غبار ليُدفن معه في قبره
مقتديًا بحديث رسول الله ﷺ: «... وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ». فكان من عادة الحاجب المنصور في جهاده وبعد كل معركة أن ينفض ثوبه، ويأخذ ما يخرج منه من غبار ويضعه في قارورة، ثم أمر في نهاية حياته أن تُدفن معه هذه القارورة؛ وذلك حتى تشهد له يوم القيامة بجهاده ضد النصارى.
ولقد كان من أهم مميزات جهاد الحاجب المنصور أنه كان يبدأ بالهجوم، ويحاول إجهاض المؤامرات في مهدها، ولا ينتظر للدفاع مثلما كان حال مَنْ سبقه[2].
قصة الإسلام
[1] بسام العسلي: قادة الحروب الصليبية المسلمون، دار النفائس، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1433هـ= 2012م، ص421.
[2] دكتور راغب السرجاني: قصة الأندلس، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الأولى، 1432هـ=2011م، 1/ 250- 276.