ليس في اللغات السامية إدغامٌ للكلمات، وأنه لا يريد بالإدغام في مقالته ما أراده النحويون في هذا المصطلح الذي أفردوا له بحثًا طويلًا مسهبًا في كتبهم، وإنما يريد به وصل كلمة بأخرى بحيث يتكون منهما كلمة واحدة ذات معنى مؤلف من معنى الكلمتين المستقلتين.
ثم قال د. السامرائي: "والذي ثبت في التحقيق العلمي أنّ في العربية تراكيب كثيرة، وأنها استفادت من التركيب لتكثير المعاني والمباني"، ثم ذكر أنّ التركيب يدخل في بنية كُلٍّ من الاسم والفعل والحرف، ولعلّ أوّلَ من أشار إليها منهم الخليل بن أحمد الفراهيدي حسب ما رجحه د. هادي عطية مطر في كتابه نظرية الحروف العاملة(48)، وإنْ كنت أميلُ إلى أنه ربما قد سُبق إلى ذلك من قِبَل سابقيه إبّان فترةٍ مجهولٍ فيها تاريخُ النحو.
والناظر في كتاب سيبويه يجد أنّ التركيب في الأدوات يؤدي إلى ما يلي:
أولا: جعل الأداتين بعد تركيبهما بمنزلة حرف واحد مثل: حيثما وإذْما وإنّما وأنّما وكأنّما ولعلّما ولولا ولوما ولمّا وربّما وقلّما وأشباهها، فكُلُّ كلمة من هذه الكلمات بمنزلة الحرف الواحد، (مع ملاحظة أنّ (حيثما) اسم و(قلّما) فعل).
ثانيا: أنّ الحرف الثاني ليس لَغْوًا بل هو بعد التركيب لا يستغنى عنه في عمل الأداة الجديدة ومعناها، وهذا موضِّح لما جاء في الكتاب، قال سيبويه عن حيثما وإذما: "وليست (ما) فيهما بِلَغْوٍ، ولكنْ كُلُّ واحدٍ منهما مع (ما) بمنزلة حرف واحد"(49).
ثالثا: أنّ الحرف الثاني لا يؤثر في الكلمة من حيث الاسمية والفعلية والحرفية، ولا من حيث الإعراب والبناء، وهذا ما تشير إليه عبارة الخليل عندما قال عن إنما وحيثما وغيرها: "هن حكايات، لأنّ (ما) هذه لم تجعل بمنزلة (موت) في حضرموت؛ ألا ترى أنها لم تغيّر حيثُ عَنْ أنْ يكون فيها اللغتان: الضم والفتح..إلخ"(49).
رابعا: أنه يتولّد عن التركيب معنى جديد، وقد ذكر ذلك عدد من النحاة، ومنه ما ذكره سيبويه من أنه "لا يكون الجزاء في (حيثُ) ولا في (إذْ) حتّى يضمّ إلى كُلِّ واحد منهما (ما)"(50).
وقال عن (لا): "وقد تغيّر الشيء عن حاله كما تفعل (ما)، وذلك قولك (لولا) صارت (لو) في معنى آخر كما صارت حين قلت: (لوما) تغيّرت كما تغيّرت حيث بـ(ما) و(إنّ) بـ(ما)"(51).
وقال في موضع آخر عن هلّا ولولا وألّا: "ألزموهن (لا) وجعلوا كُلّ واحدة مع (لا) بمنزلة حرف واحد، وأخلصوهن للفعل حيث دخل فيهن معنى التحضيض"(52).
خامسا: تغير عمل الأداة، قال سيبويه عن (ما): "وقد تغير الحرف حتى يصير يعمل لمجيئها غير عمله الذي كان قبل أنْ تجيء، وذلك نحو قوله: إنّما وكأنّما ولعلّما جعلتهن بمنزلة حروف الابتداء"(53)، وما ذكره سيبويه هنا إبطال للعمل لا تغيير له، وقول سيبويه "قد تغير" إشارة إلى عدم لزوم ذلك في كُلّ أداة.
سادسا: تغيير في الخصائص والاستعمال من ذلك أنّ ما جاز في الكلمة قبل تركيبها لا يجوز فيها بعد تركيبها، فحيث مثلا يبتدأ بعدها الأسماء، ولا تكون من أدوات الجزاء، "فإذا ضمت إليها (ما) صارت بمنزلة (إنْ) [يقصد الشرطية] وما أشبهها، ولم يجز فيها ما جاز فيها قبل أنْ تجيء بما، وصارت بمنزلة إمّا"(54).
ومن ذلك أيضا أنّ (لم) إذا ضُمّت إليها(ما) تغيرت عن حالها "ألا ترى أنّك تقول: لمّا؛ ولا تتبعها شيئا، ولا تقول ذلك في (لم)"(55).
ومن ذلك استئناف الجملة بعد (لعلّما)، ومنعها من العمل في المفرد(56).
ومن ذلك أنّ (بعد) تكفها (ما) عن الإضافة إلى المفرد وتهيئها للإضافة إلى الجملة(56).
ومن ذلك: أنّ "ربّما وقلّما وأشباههما؛ جعلوا (رُبّ) مع (ما) بمنزلة كلمة واحدة، وهيّئوها ليُذكرَ بعدها الفعل؛ لأنّه لم يكن لهم سبيلٌ إلى: رُبّ يقولُ، ولا إلى: قَلَّ يقولُ، فألحقوهما (ما)، وأخلصوهما للفعل"(57).
وعود إلى الحديث عن أثر التركيب في (لولا) و(لوما) إذْ يظهر هذا التأثير في المعنى والعمل ونبدأُ أولا بالمعنى.
أوّل ما يلحظ في هذه المسألة أنّ (لولا) مركبة من (لو) و(لا)، وأنّ (لوما) مركبة من (لو) و(ما)، وهو مذهب من اطّلعنا على رأيه من النحاة ما عدا أبا حيان، فهل لمعنى الأداتين الأصلِ لكُلِّ كلمةٍ أثَرٌ في تكوين المعنى الجديد؟ أو أنّ التركيب أزال معناهما تماما ونشأ به معنى جديد؟ أو أنّ التغيير حدث على معنى العنصر الأول بسبب وجود العنصر الثاني دون اعتبار لمعناه وإنما لوجوده اللفظي؟ أو أنّ معنى الأداتين باقيان وحدث التغيير والتحوير فيهما بسبب التركيب؟
لبحث هذه القضية نعرض المذاهب التالية:
الرأي الأوّل: أنّ الأداتين بقي لهما معناهما، ولكن معنى الثانية أثّر على معنى الأولى، قال الأنباري في البيان(58): "وهي مركّبة من (لو) و(لا)، و(لو) حرف يمتنع له الشيء لامتناع غيره، فلمّا رُكِّبت معها(لا)؛ ومعناها النفي، انتفى الامتناع في أحد الطرفين فصار إثباتًا، لأنّ نفي النفي إثبات"، وقال العكبري في التبيان(59): "و(لو) قبل التركيب يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، و(لا) للنفي، والامتناع نفي في المعنى، والنفي إذا دخل على النفي صار إيجابًا، فمِنْ هنا صار معنى (لولا) هذه يمتنع بها الشيء لوجود غيره".
وهذا الرأي قد يفسر مجيء معنى الامتناع لوجود في (لولا)، ولكنه لا يبين لنا كيف جاء معنى التحضيض فيها، وقد قال ابن يعيش(60): "اعلم أنّ هذه الحروف مركبة (يقصد لولا ولوما وهلا وألا) تدلّ مفرداتها على معنى، وبالضمّ والتركيب تدلّ على معنى آخر لم يكن لها قبل التركيب، وهو التحضيض".
ثم قال: "ولولا التي للتحضيض مركبة من لو ولا، فلو معناها امتناع الشيء لامتناع غيره؛ ومعنى (لا) النفي، والتحضيض ليس واحدا منهما".
والرأي الأوّل هذا كما تبين من النصين السابقين يعتدّ ببقاء معنى الأداتين مع تأثير معنى الثانية في معنى الأولى بالتركيب؛ مما أنشأ معنى جديدًا، ولعلّ هذا الرأي ما أراده المالقيُّ(61) أيضا عندما قال: "وقد اتفق الطائفتان على أنّ (لولا) مركبة من (لو) التي هي حرف امتناع لامتناع و(لا) النافية، وكُلُّ واحدة منهما باقية على بابها من المعنى الموضوعة له قبل التركيب"، ولكنّه لم يبين لنا كيف تم ميلاد المعنى الجديد من معنى الامتناع للامتناع والنفي كما فعل ابن الأنباريّ والعُكْبُريّ من عدم الإبانة.
الرأي الثاني: وهو الرأي الذي يفهم من كلام عدد من النحاة؛ فأبو علي الفارسي عقد بابًا في كتابه الشعر(62) صدّره بقوله: "باب، الحروف التي تدلّ على معان، فإذا ضمّ منها حرف إلى حرف دلّك بالضم على معنى آخر لم يدلّ واحدٌ منهما عليه قبل الضمّ"، ثم قال: "من ذلك (لولا) معناها امتناع الشيء لوجود غيره نحو: لولا زيد لزرتك: دلّت الكلمة في حال الضمّ على ما لم تدلّ عليه (لو) مفردة ولا (لا)، وكذلك (لولا) التي للتحضيض".
وهذا هو ابن جني بعد أنّ قال: "إنّ الشيئين إذا خُلطا حدث لهما حكمٌ ومعنى لم يكن لهما قبل أنْ يمتزجا"(63) = نجده يمثل لهذا بـ(لولا) مركبة من (لو) و(لا)، ومعنى (لو) امتناع الشيء لامتناع غيره، ومعنى(لا) النفي أو النهي، فلما رُكِّبا معًا حدثَ معنى آخرُ وهو امتناعُ الشيء لوقوع غيره"(63).
ونص ابن الشجري صراحة على إبطال معنيي (لو) و(لا) اللذين كانا لهما قبل التركيب؛ وذلك عندما قال: "ومن الحروف المركبة (لولا) فـ(لو) معناها امتناع الشيء لامتناع غيره، و(لا) معناها النفي فلما ركّبوهما بطل معناهما، ودلّت على امتناع الشيء لوجود غيره، واختصت بالاسم، وعلى التحضيض واختصت بالفعل"(64)
وهكذا فإنّ التركيب سببٌ في التغيير دون اعتبار لمعنيي الأداتين قبل التركيب، فهما قد نُسخا، والتركيب أوجد المعنى أو المعاني الجديدة لـ(لولا) و(لوما).
الرأي الثالث: يذهب أصحابه إلى أنّ معنى (لولا) مركب من معنى (إنْ الشرطية) و(لو) وهو ما نجده عند ابن السراج في الأصول(65)عندما قال: "ومنها (لولا) وهي مركبة من معنى (إنْ) و(لو)"، والعبارة نفسها عبارة الجوهري في الصحاح، وقد كان ذكر أنّ (لو) حرفُ تمنٍّ، وهو لامتناع الثاني من أجل امتناع الأول، تقول: لو جئتني لأكرمتك، وهو خلاف (إنْ) التي للجزاء، لأنها توقع الثاني من أجل وجود الأوّل"، ثم قال عن لولا: "وأما (لولا) فمركبة من معنى (إنْ) و(لو)، وذلك أنّ (لولا) يمنع الثاني من أجل وجود الأول"(66)، قال ابن بري: "ظاهر كلام الجوهري يقضي بأن لولا مركبة من (إن) المكسورة(67) و(لو)؛ لأنّ لو للامتناع وإنْ للوجود فجُعِل لولا حرف امتناع لوجود"(68)، قال الجوهري موضحا كلامه السابق: تقول: "لولا زيد لهلكنا، أي امتنع وقوع الهلاك من أجل وجود زيد هناك".
وكلام الجوهري يدلُّ على أنه قد بقي من معنى (لو) بقيّةٌ رُكب منها ومن معنى إنْ = معنى لولا، ولكنه لم يشر إلى ما حدث لمعنى (لا) السابق، ولعله اعتبرها علامة على تغيّر معنى (لو)، ووجودها لفظا لا يعني حضورًا لمعناها. وبهذا ينتسب هذا الرأي إلى رأي سيبويه الآتي، كما أنّ هذا الرأي لم يفسر كيفية وجود معنى التحضيض في (لولا) خاصة أنّ الجوهري ذكره في صحاحه وقال بأنه كثير في القرآن، كما أنّ ابن يعيش قال: إنه لم يكن موجودا في مفردات لولا ولوما قبل تركيبهما(69).
الرأي الرابع: وهو مذهب سيبويه ومضمونه أنّ (لو) هي العنصر الأساس في الأداة المركبة من حيث اللفظ والمعنى، وقد طرأ على معناها التغيير بوجود (لا) أو(ما) اللتين ليستا سوى علامتين لفظيتين على التغيير، وأن معنى أيٍّ منهما لا أثرَ له في التغيير، وغير معتبر، وإنما المعتبرُ اللفظيُّ فحسب، قال سيبويه عن (لا): "وقد تغير الشيء عن حاله كما تفعل (ما)، وذلك قولك (لولا): صارت (لو) في معنى آخر كما صارت حين قلت: (لوما) تغيرت كما تغيرت حيث بـ(ما) و(إنّ) بـ(ما)"(70) ويقول في موضع آخر: "و(ما) في لما مغيرة لها عن حال (لم)كما غيرت (لو)؛ إذ قلت: (لوما) ونحوها؛ ألا ترى أنّك تقول: لمّا، ولا تتبعها شيئا، ولا تقول ذلك في (لم)"(71).
إذًا لم تكن الأداتان (ما) و(لا) سوى علامتين تلحق كُلُّ منهما أداةٌ معينة عند إرادة تغيير معنى تلك الأداة، أو إبطال خصائصها، واستبدالها بخصائص جديدة، أو غير ذلك من التغييرات التي سردناها قبل قليل، وهذا ليس خاصا بـ(لو) بل وجد مع حيثُ، وإنّ وأخواتها، ورُبّ، وقَلَّ، وغيرها.
وقد كاد ابن الأنباري يكون واضحا في عرض هذا الرأي عندما قال: "لوما بمعنى (هلا) وهي مركبة من (لو) التي معناها امتناع الشيء لامتناع غيره، و(ما) التي تسمّى (المُغَيِّرَة)،وسُمِّيَتِ المُغَيِّرَةَ، لأنها غيرت معنى(لو) من معنى امتناع الشيء لامتناع غيره إلى معنى (هلا)، ونظيرها (لولا) فإنها مركبة من (لو) و(لا)، فلما رُكّبا تغيرت (لو) عن معناها، وصارت بمعنى هلّا في أحد وجهيها، وبمعنى امتناع الشيء لوجود غيره"(72).
أقول كاد يكون واضحا في عرض مذهب سيبويه لولا أنّه قال بعد ذلك: "والسر فيه أنّ الحروف إذا ركبت حدث فيها بعدَ التركيب معنًى لم يكن قبلَ التركيب كالأدوية المركّبة من عقاقير مختلفة؛ فإنّه يحدثُ لها بالتركيب ما لم يكن لكُلِّ واحدٍ منها قبل التركيب في حالة الانفراد"(72).
وهذا الكلام الأخير من ابن الأنباريّ ينتمي إلى الرأي الثاني.
كما رأيناه من قبل يورد كلاما ينتمي إلى المذهب الأول، وكل هذا في كتاب واحد، ولعله بذلك لا يرى فرقا بين المذاهب الثلاثة الأول والثاني والثالث، ولا أراه إلا قد جانب الصواب في هذا، فالفرق بين المذاهب التي ذكرناها واضح بين، فالرأي الأول يعتدُّ بمعنى كُلِّ أداة وبتأثير معنى الثانية في الأولى، والرأي الثاني يبطل المعنيين قبل التركيب، ويجعل التركيب سببا في خلق معنى جديد، والمذهب الثالث يعتد بمعنى لو ويرى أنه قد ركب مع معنى (إنْ) لِيُوجد معنى جديد دون ذكر لمعنى (لا)؛ وكأنّ وجودها علامة وإيذان بالتغيير دون أن يكون لمعناها أثر، والمذهب الرابع يفترق عن الثالث بأن التغيير طرأ على معنى (لو) بواسطة (لا) باعتبارها مغيّرة بوجودها اللفظي ولا اعتداد ولا ذكر لمعناها.
ورأي سيبويه يتفق مع منطق اللغة حيث تلجأ إلى سوابق أو لواحق إشارةً وعلامةً على التغيير في المعنى أو العمل أو الخصائص.
وقد كانت (ما) و(لا) من أكثر اللواحق التي تردّد في كتب النحو استخدامها مُغَيِّرَةً، وإذا استطاع بعض النحاة أنْ يفسر كيفية وجود معنى الامتناع لوجود بأنّه نتيجة لأنّ معنى لو الامتناع للامتناع وأنّ معنى لا النفي، والامتناع نفي في المعنى، فدخل النفي بلا على أحد امتناعي (لو)، والنفي إذا دخل على النفي صار إيجابا، ومن هنا صار معنى لولا الامتناع لوجود، أقول: إذا استطاع بعض النحاة تفسير حدوث المعنى الجديد بعد التركيب بما ذكرنا، فإنه لم يحاول ولا يستطيع أنْ يفسر لنا وجود معنى التحضيض فيها مثلا.
وكلام سيبويه وغيره يوحي أيضا بأنّ العنصر الأساس في (لولا) و(لوما) هو(لو) بمعنى أنّ العرب عندما أرادوا خلق أساليب جديدة ومعاني جديدة لـ(لو) أضافوا إليها (لا) أو (ما) إيذانا بالتغيير في المعنى والخصائص والأسلوب، ومن هنا وجدنا النحاة يهتمون بالحديث عن الفرق بين (لو) و(لولا)(73)، ولكنه في أكثره حديث عن الفرق بينهما في المعاني، وهذا ليس موضوع بحثنا هذا.
أما الحديث عن أثر التركيب من ناحية العمل فلن يطول فقد مضى أنّ لولا الامتناعية على رأي الأكثرية غير عاملة، وخالف الكوفيون في ذلك فزعموا عدا الكسائي أنّ (لولا) الامتناعية ترفع الاسم بعدها فاعلًا أصالة أو بالنيابة عن الفعل، وأمّا التحضيضية فلم يقل أحد عن عملها شيئًا، بل هي هاملة في ذلك، ومن هنا نزعم أنّ التركيب لم يحدث أثرا على إهمال (لو) بالإجماع؛ فالإهمال في لولا نفسه في (لو) فلا فارق بينهما من حيث العمل، ولكنه أحدث تغييرا كبيرا من حيث المعنى، وانظر ما سبق قوله في مبحث إهمال (لولا) و(لوما).
7 من 9 تعدّد معاني (لولا) و(لوما):
ليس من غرض هذا البحث الحديث عن تعدد معاني لولا وتفصيلها، ولكنه يهتم بإيراد تفسير تعدد معاني (لولا، ولوما)، وكيف أمكن ذلك فيها؟ حسب تفكير النحاة.
رأينا فيما مضى أنّ (لولا) مركبة مِنْ (لو) و(لا)، و(لوما) مركبة من (لو) و(ما) وأنّ لكُلٍّ من حرفي التركيب معانيَ عِدّة، فـ(لو) تأتي مثلًا شرطية تدلّ على امتناع لامتناع، وتأتي حرف تَمَنٍّ وعَرْضٍ ومصدرية، و(لا) تكون ناهيةً ونافية وغيرَ ذلك، و(ما) تكون نافية، ومصدرية، وزائدةً وغير ذلك.
ولو نظرنا إلى (لولا) و(لوما) لوجدنا أنّ معانيهما تتعدّد أيضا؛ فهما حرفان يدلّان على الامتناع لوجود، ويدلّان على التحضيض والتنديم والنفي وغيرها - ممّا تفصّله كتب النحو - وهذا يدلّ على أنّه عند إرادة التركيب لا تقصد اللغة بذلك توجيه الأداة إلى معنى محدد، لا تخرج عنه بعد التركيب، بل إنّ معانيها يمكن أنْ تتعدّد، وقد وضّح ذلك الفارسيُّ بجلاء في كتابه الشعر(74) عندما عقد بابًا عن الحروف التي تدلّ على معانٍ؛ فإذا ضُمَّ منها حرف إلى حرف دلّكَ بالضم على معنى آخر لم يدلّ واحد منهما عليه قبل الضمّ، قال أبو علي: "من ذلك (لولا) معناها امتناع لشيء لوجود غيره، دلّت الكلمة في حال الضم على ما لم تدلّ عليه (لو) مفردة، ولا (لا)، وكذلك(لولا) التي للتحضيض، واتفق اللفظان في الكلمتين واختلف معناهما، كما كان ذلك في الحروف المفردة، نحو: همزة الاستفهام وهمزة النداء" .. إلى أنْ قال مقرّرًا قاعدة في هذا الأمر: "فكما اتفقت ألفاظ الحروف المفردة، واختلفت معانيها، كذلك هذه الحروف المركبة"، وقال ابن يعيش بعد أنْ ذكر أنّ (لولا) و(لوما) تأتيان للتحضيض وللامتناع لوجود: "فإذًا قد صار الحرفان من قبيل المشترك؛ إذْ يستعملان في التحضيض والامتناع لأنّ اللفظَ متفقٌ، والمعنى مختلف متعدد، ولم يمتنع ذلك منهما كما كان ذلك في الحروف المفردة نحو: همزة الاستفهام وهمزة النداء واللام في: لِزيد واللام في ليضرب زيد، وهل التي في قولك: هل زيد منطلق؟ وهل التي بمعنى قد، فكما اتفقت ألفاظ الحروف المفردة واختلفت معانيها كذلك هذه الحروف المركبة، فاعرفه"(75).
وهكذا فإن وجود بعض الأدوات المركبة لمعنى بعينه لا يعني أنّ كُلَّ تلك الأدوات يختص واحدها بمعنى لا يخرج عنه، بل إنّ استخدام الأداة مركبة أو بسيطة في عدة معان واردٌ غير منكور، وله أمثلته الكثيرة، وفيما ذكر الفارسي وابن يعيش غَناء.
واختلاف المعاني يعود إلى اختلاف الأسلوب الذي توضع فيه الأداة كما هو معلوم، وأنه إن تشابه الأسلوب في تركيبه فإنّ طريقة المتكلم في إلقاء العبارة وما يحيط بالموقف الكلامي من ملابسات توجه المعنى وجهة معينة.
ومن تعدد المعاني في الأدوات المركبة غير (لولا) و(لوما) ما جاءت عليه (كأنّ) فهي دالة على التشبيه، وهو الغالب عليها، وتدلّ على الشكّ، والظنّ، وعلى التحقيق، وعلى التقريب، وكذلك (لن) - وقد قال الخليل بتركيبها - من (لا) و(أنْ) حذفت الهمزة تخفيفًا والألف للساكنين، ووافقه الكسائي فقد جاءت للنفي المؤكد في المستقبل، وكذلك للدعاء كما أتت (لا) كذلك، وفاقًا لجماعة منهم ابن السراج وابن عصفور، من ذلك قوله:
لَنْ تَزَالُوا كَذَلِكُمْ ثُمَّ لاَ زِلـْ = ـتُ لَكُمْ خَالِدًا خُلُودَ الجِبَالِ
وفي الآية {قَالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} (القصص: 17)، قيل: ليس منه لأنّ فعل الدعاء لا يُسند إلى المتكلم بل إلى المخاطب أو الغائب، ويرده قوله: ثم لا زلتُ لكم، الواردة في البيت. [عن شرح الأشموني الموسوعة الشاملة، بتصرّف].