مَقام المُداوَمة
ينبغي أن يُميَّز من الناس وحدَه كلُّ من إذا أحب عملا فأقبل يعمله داوم على عمله؛ فليس أدلَّ على صدق المحبة من المداومة، ثم ليس أحرى بإنجاز العمل ممن داوم على عمله، وهذا المنجِز مأجور، وذاك الصادق محبوب.
كيف ينتظر مِن عملٍ محبةً أو أجرًا مَن عمله ثم كَفَّ؛ ألا يخاف تهمة الإخلال أو شبهة الكذب!
يشتغل ليلَ أحدِ أيامه ونهارَه كليهما جميعا، بالصلاة، أو قراءة القرآن الكريم، أو الدراسة، أو الكتابة، أو محاضرة المتعلمين والمتثقفين، أو الاسترزاق، أو عيادة المرضى، أو زيارة الأهل والأصدقاء، أو إجابة السائلين، أو خدمة المحتاجين، ...- ثم يكفّ عن ذلك الدَّهْرَ الدَّاهِرَ كأن لن يعود إليه، وينتظر منه الأجر أو المحبة؛ "فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ"؛ صدق الله العظيم!
إن المداومة من معالم الصبر الذي استثنى الحق -سبحانه، وتعالى!- المُتواصِين به في سورة العَصر، من الوقوع في الخُسر، وهي شرط أَحَبِّ الأعمال إلى الحق -سبحانه، وتعالى!- في جواب رسوله -صلى الله عليه، وسلم!- سؤالَ من سأله عنه، وهي نصيحة العرب القديمة: "عَوَّدتَّ كِنْدَةَ عَادَةً فَاصْبِرْ لَهَا"، التي حَذَّروا قطعَها بنصيحتهم البديعيّة الحديثة: "قَطْعُ الْعَادَةِ عَدَاوَةٌ"!
"جاء ثلاثةُ رَهْطٍ (ثلاثة رجال)، إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه، وسلم!- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه، وسلم!- فلما أُخبروا كأنهم تَقَالُّوها (رأوها قليلة)؛ فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه! وسلم!- قد غُفر له ما تَقدَّم من ذنبه وما تَأخَّر! قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا. وقال آخر: أنا أصوم الدهرَ، ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء؛ فلا أتزوَّج أبدًا. فجاء رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- إليهم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء؛ فمن رغِب عن سُنتي (أعرض عنها) فليس مِنّي"؛ صدق رسول الله، صلى الله عليه، وسلم!
ألا فليتخفَّف مَن خشي الكَفَّ؛ فـ"إِنَّ الْمُنْبَتَّ (الذي استعجل ركوبته حتى أهلكها قبل الغاية)، لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى"؛ يمتنع من الطعام والشراب إلا قليلا؛ فينحُف من فَوْرِهِ، ثم لا يلبث أن يعود أسمنَ مما كان، ولو تقلَّل ولم يمتنع لرَشُقَ على مَهَلِهِ، ثم لم يزدد إلا رَشاقةً!