الاستفتاء référendum هو الطريقة الديمقراطية المباشرة لمشاركة الشعب في سَنِّ الشرائع الدستورية والقانونية التي تحكم بها البلاد، وذلك بالتصويت على ما تعرضه عليه منها السلطات الحاكمة، أو على ما يطلبه أو يقترحه هو نفسه منها. وثمة طريقة شبيهة به تؤدي إلى هذه المشاركة الشعبية المباشرة، لأجل تنصيب رؤساء الدولة أو دعمهم، هي التصديق الشعبي plébiscite . والفارق بين هذين النظامين هو أن الاستفتاء يتوجه إلى الشعب بنصوص معينة، في حين يتوجه إليه التصديق الشعبي بطرح الثقة بشخص معين.
وقد شاع عالمياً استعمال تعبير «استفتاء» في حالتي الاستفتاء والتصديق الشعبي على السواء، وأصبح يطلق غالباً على كليهما في العرف السياسي.
نشأة نظام الاستفتاء
إن ثمة أوضاعاً اجتماعية وسياسية كانت في الأصل وراء ظهور هذا النظام. ذلك أن الديمقراطية المباشرة التي تعني في الأصل حكم الشعب نفسه بنفسه تبدو في مفهومها المطلق مجرد نظرية مستحيلة التطبيق. الأمر الذي حدا بفقهاء السياسة إلى التحري عن طرقٍ عملية تسمح للشعب بأن يمارس التشريع بنفسه أو أن يشارك فيه دونما وساطة. وقد توصلوا إلى ابتداع أسلوبي الاستفتاء والتصديق الشعبي اللذين يجمعان بين النظرية الديمقراطية المحضة وإمكانية وضعها موضع التنفيذ.
يرجع الأقدم منهما، وهو التصديق الشعبي إلى تاريخ رومة القديمة. ففي القرن الرابع قبل الميلاد كانت عامة الشعب plèbe تعبِّر عن إرادتها بالتصويت فيما يتصل بالمقررات التي تسري عليها فقط. في حين كانت تسري على الطبقات المتميزة من الشعب القوانين lex التي كانت تصدر عن مجلس الشيوخ sénat. وقد نشبت نزاعات طبقية وسياسية مُرَّة انتهت بالتفاهم بين سائر الفئات على أن تطرح المشروعات على مجموع الشعب لتسري الأحكام التي يقرها على جميع طبقاته. وعلى مرِّ السنين تضاءل دور التصديق الشعبي واقتصر على تقليد السلطة العليا للأباطرة. ثم جعل هؤلاء يلجؤون إلى هذا الأسلوب في مجالات توطيد سلطانهم أو توسيع صلاحياتهم عندما كانوا يشعرون بمعارضة مجلس الشيوخ لهم. وظلَّ التصديق الشعبي يطلق في القرون اللاحقة حتى اليوم على أمر الموافقة على تنصيب رؤساء الدول. وأحدث مثال عليه انتهى بالرفض وهو الطلب الذي وجهه إلى الشعب رئيس تشيلي الجنرال بينوشيه في 5/10/1988 لبيان قبوله أو رفضه تجديد رئاسته التي تنتهي في عام 1989، وكان الجواب سلبياً.
ويرجع نظام الاستفتاء إلى القرن الخامس عشر، إذ مارسته بعض الأقاليم السويسرية «الكانتونات» cantons وكان أول إقليم مارسه هو الفاليه Valais ثم الغريزون Grisons. فكانت الجمعية العمومية للإقليم تسنّ تدابير مؤقتة على أن يستشار فيها الشعب ad référendum فإذا أقرّها أصبحت قانوناً. ولما عمَّ هذا الأسلوب الأقاليم الأخرى أخذت هذه الاستشارة اسم الاستفتاء الشعبي. واقتدت بسويسرة في القرون اللاحقة بعض بلاد العالم ابتداءً من ألمانية وبعض الولايات الشمالية من الولايات المتحدة الأمريكية والسويد، على نطاق ضيق. ثم تبعتها فرنسة، وكان أول عهدٍ لها بالاستفتاء في عام 1793 ثم في 1795 في ظل الثورة الفرنسية. ثم لجأ إليه نابليون الأول في عام 1799 إثر الانقلاب الذي قام به، ثم في أعوام 1802 و1804 و1815. ولم تشأ السلطات المتعاقبة على الحكم في فرنسة اللجوء إلى الاستفتاء بعد ذلك إلى أن أحياه نابليون الثالث في أعوام 1851 و1852 و1870. ثم أهمل ثانية إلى أن عاد لإحيائه الجنرال ديغول في أعقاب الحرب العالمية الثانية عام 1945 ثم طبق في فرنسة عشر مرات كان آخرها في 6/11/1988 حول مصير جزيرة «نيو كلدونية».
وسرى نهج الاستفتاء من أوربة إلى الدول الإفريقية ودخل في صلب الكثير من دساتيرها ودساتير الدول التي تحررت بعد الحرب العالمية الثانية. كما انتقل هذا الأسلوب من الولايات المتحدة الأمريكية إلى سائر دول القارة الجديدة. إلا أن سويسرة كانت وما تزال البلد الأمثل في الفقه النظري والعملي للاستفتاء.
وقد بقي المؤرخون لعدة قرون لا يفرقون كثيراً في التعبير بين الاستفتاء والتصديق الشعبي الموروث عن رومة من القديم. ولم يؤخذ بالدقة في التفريق بين النظامين إلا في مطلع القرن العشرين.
إن الطريقة العملية للمشاركة الشعبية بوساطة الاستفتاء هي تصويت الناخبين على المشروعات الدستورية أو التشريعية أو القضايا المهمة التي تطرح عليهم والتي يطلب إليهم أن يجيبوا عنها على الأغلب بإحدى كلمتي (نعم) أو (لا).
أنواع الاستفتاء
يمكن تصنيف الموضوعات التي تطرح على الاستفتاء، بحسب ماهيتها في عدة أنواع، وهي:
الاستفتاء الدستوري: وهو أن يطرح على الناخبين مشروع دستور جديد أو مشروع تعديل دستور نافذ ليقرروا قبوله أو رفضه. وقد اتّبع هذا الأسلوب في فرنسة فيما يتصل بعدة دساتير، منها دستور 1940 الذي وضع مشروعه الماريشال بيتان لجنوبي فرنسة الذي لم تحتله الجيوش الألمانية وطرحه على الاستفتاء. ثم دستور 1946 الذي جرى الاستفتاء عليه عقب الحرب العالمية الثانية والذي قضى بأن تطرح على الاستفتاء أيضاً مشروعات تعديله إذا كانت الجمعيتان (أي الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ) قد أقرتاها بأغلبية ضعيفة. وقد رسّخ دستور 1958، الذي حلّ محلّه، مبدأ الاستفتاء الإلزامي على كل تعديل له تقترحه وتقره الجمعيتان، إلا أنه أجاز عدم اللجوء إلى هذا الاستفتاء إذا كانت الحكومة هي صاحبة مشروع التعديل ثم عرضته على الجمعيتين. على أن لرئيس الجمهورية في هذه الحالة أن يطلب إلى الجمعيتين أن تجتمعا في مؤتمر congrès لمناقشته. فإذا حاز المشروع أغلبية ثلاثة أخماس الأصوات المدلى بها لا يطرح على الاستفتاء. أما في سويسرة فإن الاستفتاء الدستوري إلزامي على الصعيد الاتحادي وفي نطاق الأقاليم على السواء. وفي سورية عُرض مشروع الدستور النافذ على الاستفتاء عام 1973 وأقر. إلا أن تعديله لا يحتاج إلى الاستفتاء وإنما أعطي حق التعديل لمجلس الشعب شريطة إقراره بأغلبية ثلاثة أرباع أعضائه واقترانه بموافقة رئيس الجمهورية.
الاستفتاء التشريعي: ويكون اختيارياً تارة وإلزامياً تارة أخرى، فيطرح رئيس الدولة أو المجلس التشريعي على الشعب اقتراحاً أو مشروع قانون للموافقة عليه أو رفضه. ففي فرنسة أجاز دستور عام 1958 لرئيس الجمهورية بناءً على اقتراح الحكومة أو اقتراح الجمعيتين أن يطرح على الاستفتاء أي مشروع قانون يتناول تنظيم السلطات العامة أو يتضمن التصديق على معاهدة تتعارض مع بعض أحكام القوانين المحلية. وبعض الولايات المتحدة الأمريكية الشمالية تسير على نهج هذا الاستفتاء التخييري في حين تسير ولايات أخرى على مبدأ الاستفتاء الإلزامي.
أما في سويسرة فإن الاستفتاء التشريعي اختياري على الصعيد الاتحادي fédéral ويجري إذا طالب به ثلاثون ألف مواطن أو ثمانية أقاليم، شريطة ألا يتناول الموازنة أو القوانين المالية. أما على صعيد الأقاليم فالاستفتاء اختياري تارة، وإلزامي تارة أخرى بحسب الموضوعات.
الاستفتاء الاستشاري: قد تطلب السلطات التشريعية من المواطنين موافقتهم المسبقة على وضع مشروع قانون أو مشروع تعديل دستوري يطرحان عليهم فيما بعد. وهذه الاستشارة تسمح للمواطنين بأن يبينوا رغبتهم قبل وضع نص المشروع. ففي السويد، بموجب القانون الأساسي لعام 1908، يخول الملك والمجلس التشريعي مجتمعين تحري رأي الشعب في أي موضوع يريانه ذا أهمية خاصة قبل وضع المشروع له. وفي الجزائر توجه رئيس الجمهورية في 3/11/1988 إلى الشعب يستفتيه فيما إذا كان يوافق على إصلاح دستوري بأن يوضع مشروع بتعديل بعض أحكام الدستور في أمور معينة، يعرض عليه فيما بعد. وقد وافق الشعب على العرض. واتّبع مؤخراً في فرنسة حيث طرح رئيس الجمهورية على الاستفتاء مشروع قانون يتضمن أحكاماً تنظيمية وإعدادية لتقرير المصير الذي يتم بعد عشر سنوات لجزر نيوكلدونية في المحيط الهادئ. وقد اقترن بالموافقة في 6/11/1988.
الاستفتاء التحكيمي: وذلك عندما يدعى الشعب للفصل في ما يقع من خلافات بين السلطات العامة. ففي مرحلة مابين الحربين العالميتين (1918- 1945) راعت بعض الدول الأوربية في دساتيرها أن تحتكم إلى الشعب عن طريق الاستفتاء في النزاعات التي قد تنشب بين السلطات الحكومية والسلطات التشريعية. وأول هذه الدساتير الدستور الألماني الذي أقرته الجمعية التأسيسية في فيمار Weimar في مطلع عام 1919، والذي جعل من ألمانية دولة اتحادية مؤلفة من سبع عشرة ولاية تتمتع بالاستقلال الذاتي وأوجب أن يكون الفصل في أي نزاع يقوم بين جميع سلطاتها، بتحكيم الشعب فيه بوساطة الاستفتاء.
المبادرة الشعبية: هي حق المواطنين، بمبادرة منهم، في سنّ التشريعات التي لا تتحمس السلطات التشريعية لها، أو في مطالبة هذه السلطات بوضعها. ودستور إقليم برن السويسري يعطي الناخبين حق المطالبة بسنّ قانون أو إلغاء قانون قائم أو تعديله فيما إذا تقدم بهذا الطلب عدد منهم لا يقل عن اثني عشر ألفاً. والحكومة في هذه الحالة أمام أحد خيارين، فإمّا أن تستجيب للطلب. أو أن تطرح الاقتراح نفسه على الاستفتاء. أما على الصعيد الفدرالي السويسري فإن حق الاقتراح المقرر في هذا المجال هو في الأمور الدستورية فقط على ألا يقل عدد الطالبين عن خمسين ألفاً.
حق الاعتراض الشعبي: هو أن يسن المجلس التشريعي قانوناً ويقره. إلا أنه قبل وضعه موضع التنفيذ يعرضه على الشعب، فإذا اعترض عليه عدد معين من الناخبين وجب طرحه على الاستفتاء لتصديقه أو نقضه. وإذا لم يبلغ عدد المعترضين نصابه عدّ القانون مصدقاً. وهذا الأسلوب متبع في إيطالية وفي بعض الولايات المتحدة الأمريكية الشمالية.