استطاع العرب المسلمون بعد انتشار الدين الإسلامي التمدد جغرافيًا ليصل اتساع الفتوحات الإسلامية من وسط آسيا حتى شمال إفريقيا و الأندلس . هذه البقعة الجغرافية كانت قد بدأت تتشكل ملامحها في القرن الأول هجري، فيما بعد ومع استقرار العرب في المناطق التي فتحوها ونشر الدين الإسلامي فيها، بدأوا بالإنتاج الفكري والفني والعلمي.
فعلى مدى القرون التالية بدأت حركة واسعة من التراجم من لغات عدة إلى اللغة العربية، ومن ثم بدأ المسلمون بإنتاج فكري علمي وفني وظهر ذلك جليًّا من خلال كتب الطب والعلوم الأخرى بالإضافة للفلسفة.
كما بدأت نهضة عمرانية واسعة اتسمت بشخصية مميزة ومتنوعة بتنوع الدول التي أنشأتها ابتداءً من الدولة الأموية والعباسية والفاطمية وحتى الأندلسية وصولًا للعثمانية والصفوية، لقد طَبعت كل من هذه الدول المجتمعات بطابعها الفكري والثقافي والفني، لنصل فيما بعد إلى حضارة إسلامية متنوعة بالإنتاج الفكري والفني لكنها منصهرة بثقافة إسلامية جامعة.
أهم النواحي التي أثّرت بها الأندلس على أوروبا
التعليم
لقد كان للعرب والمسلمين إنجازات كبيرة جدًا في كافة مجالات العلوم، كما كان لهم تأثير في التجارة والآداب والفكر على ما يُعرف بالعالم القديم بأسره، فقد مثلت الحضارة الإسلامية بالنسبة لأوروبا خلال فترة القرون الوسطى التقدم العلمي والفكري والثقافي والفني، ففي تلك الفترة كانت نسبة الأمية في أوروبا تصل لدرجة 99%، لقد كانت الحضارة العربية الإسلامية المتواجدة على تخوم وأجزاء من القارة العجوز منهلًا حضاريًا بدأوا ينهلون منه للانطلاق إلى ما يعرف بعصر النهضة.
فعلى سبيل المثال ضمت الأندلس أكثر من عشر جامعات كانت الأرقى في أوربا، بحيث استقبلت عددًا كبيرًا من الطلاب، الذين توافدوا من جميع أنحاء أوربا دون تمييز سواء على صعيد العرق أو الدين أو الجنس، كما خصصت الدولة الأندلسية العديد من البعثات لهؤلاء الطلاب ليعودوا إلى بلادهم لخدمتها بالمعارف التي تلقوها، كما أنشأ الأندلسيون العديد من الكليات والمعاهد البحرية ومدارس الموسيقى بالإضافة لمراكز التجميل.
درس الطلاب فيها علوم الفقه “القوانين الإسلامية” بالإضافة إلى عدد من العلوم الأخرى من طب وفلسفة وهندسة، توزعت هذه المدارس على كافة الجغرافيا الأندلسية من لشبونة وقشتالة حتى غرناطة وقرطبة.
كما كان للعرب إنجازات في علوم الملاحة والإبحار، واستطاعت فيما بعد الدولة الإسبانية التي تأسست بعد انهيار الحضارة الأندلسية وراثة هذه العلوم، لتصبح إسبانيا القوة العظمى الأولى في أوروبا، مما سمح لها بفتح الطريق لاكتشاف العالم الجديد “الأمريكيتين”، لقد كان الأندلسيون في القرن الحادي عشر ميلادي من أكثر الأمم تمدنًا بالنسبة لأوروبا.
كان أحد المتخرجين من جامعة قرطبة هو جربرت وعُرف “بالبابا سلفستر الثاني”، وهو من أوائل الذين أدخلوا علوم الحضارة الإسلامية وقوانينها ومن ضمنها القانون الإسلامي إلى أوروبا، كما درس الرياضيات والفلك وأهم ما تعلمه في قرطبة نظام الأرقام والأعداد، واستخدمها ونشرها في إيطاليا وحلت هذه الأرقام مكان الأرقام الرومانية المعقدة.
كما تخرج من جامعة بالرمو الإسلامية في صقلية الإمبراطور فريديريك الثاني الذي حكم الإمبراطورية الجرمانية الممتدة من ألمانيا إلى إيطاليا وصقلية.
درّست جامعة نابولي التي أنشأها فريدريك الثاني المؤلفات الإسلامية وخاصةً مؤلفات ابن رشد والتي تُرجمت إلى عدد من اللغات الأوربية كما ترجمت للغة العبرية، وأرسل العديد من الملوك الأوربيين بعثات طلابية للمراكز الإسلامية التعليمية لتلقي العلوم والمعرفة.
ومن أبرز من نقلوا الحضارة الإسلامية وفكرها لأوروبا هو القديس توما الإكويني الذي تخرج من جامعة نابولي، وقد كان أحد المطوّرين في الفكر اللاهوتي المسيحي وهو أحد المتأثرين بفكر ابن رشد حيث قام بنقل أفكار الثقافة الإسلامية إلى جامعة باريس التي درّس فيها ومنها انتقلت لأنحاء أوروبا المختلفة.
لقد أكّد العديد من المؤرخين أنه لولا الجهود الجبارة التي بذلها العلماء المسلمون في حفظ وتطوير العلوم اليونانية والفلسفات الشرقية لكانت هذه العلوم قد اندثرت، ولكان على الأوروبيين أن يبدأوا نهضتهم الحضارية من الصفر لا من حيث بدأ العرب. فكان نور الحضارة العربية الإسلامية الساطع قد أيقظ أوروبا فكريًا وحضاريًا، فاستطاعت أوروبا أن تبني حضارتها وثقافتها وأن تزدهر فيها العلوم والآداب والفنون من خلال تماسها مع الحضارة الإسلامية.
وقال ألكساندر كوريه أن العرب كانوا أساتذة الغرب اللاتيني ومثقِفِيه، ولم يكونوا مجرد واسطة بين الشرق اليوناني وأوروبا، ونستنتج من ذلك أنه لولا وجود ابن سينا وابن رشد لكان ظهور القديس توما الأكويني أمرًا مستحيلاً.
ولولا الترجمة العربية لمخطوط إقليدس لما وجدت العلوم التي انتشرت في أوروبا فيما بعد، فكل العلوم والثقافة الأدبية والمعرفية في أوروبا المسيحية بالقرون الوسطى كانت مصبوغة بصبغة إسلامية، كما كان للحروب الصليبية دور بنقل المفاهيم الحضارية من الشرق الإسلامي إلى أوربا وذلك من خلال ما حمله العديد من الجنود العائدين من ثقافة ونمط حياة.
التأثير الاجتماعي للأندلس
الزي
تأثر الأوروبيون باللباس والزي الإسلامي، فبدأ كثير من الشباب الأوروبي بارتداء الأزياء التي تميز بها المسلمون وقلّدوهم بعاداتهم، سواء من خلال احتكاكهم بالحضارة الأندلسية أو من خلال الحملات الصليبية في الشرق، وقد ظهر ذلك جليًا في الممالك الصليبية التي أُسست في سواحل بلاد الشام.
النظافة
كما تعلم الأوربيون النظافة من المسلمين،، فبعد احتكاكهم مع المسلمين ومخالطتهم إياهم بدأوا يرتادون الحمامات العامة، والتي كانت منتشرة على كافة بقاع الأراضي الإسلامية من الأندلس حتى آسيا الوسطى، وهذا ما أكد عليه أسامة ابن المنقذ في كتابه الشهير “الاعتبار”، مظهرًا محاولة تشبه الأوربيين بالمسلمين وترددهم على الحمامات العامة رجالًا ونساء.
الفنون
العمارة
تميز الفن الإسلامي عن غيره من الفنون بأنه الأوسع انتشارًا وذلك بسبب اتساع رقعة الإمبراطورية الإسلامية، أدى هذا الاتساع الجغرافي لتنوع بالطرز والمدارس الفنية، وكان لهذا الفن تأثيرًا كبيرًا بفنون الغرب سواء من الناحية المعمارية أو الزخرفية، فقد تأثر الأوربيون بالمسلمين في مجال البناء العسكري المتمثل بالقلاع والحصون، فمن القلاع في مصر وسوريا استلهم الصليبيون أساليب معمارية عدة كالمشربيات وبناء الأسوار والأبراج البارزة.
فمثلًا في صقلية استخدم الصقليون القباب والعقود والأعمدة في عمائرهم، واستوحى المعماريون الأوروبيون من العمارة الإسلامية الرسوم النباتية والزخارف، وبنى الإيطاليون نمطًا من العمارة انتشر كثيرًا في كل من الأندلس وبلاد الشام ومصر وما يعرف بنمط العمارة الأبلق أو المشهر، ويكون عبارة عن صفوف حجرية أفقية تتناوب فيها الألوان ما بين الأسود والأبيض أو الأحمر والأبيض، وقد أطلقت تسمية الأبلق على الأحجار المتناوبة بين الأسود والأبيض، أما المُشهر فهو بين الأحمر والأبيض أو البني والأبيض.
الزخرفة والخط العربي
تأثر الأوربيون بفنون الزخرفة ومنها التخريم على الخشب أو الحجر وهو عبارة عن أشكال زخرفية محفورة على خلفية مفرّغة، وتعلموا التعشيق وخاصةً تعشيق الزجاج والذي انتشر في عدد كبير من كنائس أوربا وقصورها، كما تعلموا التكفيت وهو تلبيس الفضة بالذهب أو النحاس بالفضة.
بالإضافة لذلك فقد كان للخط العربي تأثيرًا كبيرًا على فناني أوربا، وذلك من خلال استلهامهم إياه في إنتاجهم الفني، فكانوا ينقشون الحروف العربية على العديد من منتجاتهم سواء المعدنية أو النسيجية، أو حتى الأواني الخزفية والحلي.
وبلغ تأثير الخط العربي مبلغًا عظيمًا جعل الفنانين في القرون الوسطى وفي بداية عصر النهضة يزينون بالحرف العربي مبانيهم المسيحية، ومثال على ذلك سقف الكنيسة في بالرمو في صقيلية والتي تعرف بكنيسة الكابيلا بلاتينا، ومن أبرز المعالم المعمارية التي تأثر بها الأوروبيون هي قصر الحمراء في قرطبة، وقصر الجعفرية في سرقسطة، وقلعة شريش في أشبيلية، ومنارة الجيرالدة في إشبيلية.
كما أضاف فنانو عصر النهضة والقرن الثامن عشر الزخارف الإسلامية لأعمالهم الفنية من دون معرفة ما تحتويه هذه الزخارف من كلمات ومعاني، كانوا ينقلون الشكل دون المحتوى.
فكانت فلورانسا انطلاقة لما عُرف بعصر النهضة الأوربي، وكان لعائلة ميديتشي الحاكمة فيها دورًا كبيرًا في ذلك، وخاصة إبان حكم كوزيمو ولورنزو إذ واظب هذان الرجلان على شراء الكتب والمخطوطات العربية، وكانا دائمًا يستقبلان الفنانين القادمين من القسطنطينية والأندلس.
الموسيقى
أما بالنسبة للموسيقى فقد كان أثر حضارة الأندلس واضحًا من خلال تأثر الأوروبيين بالآلات العربية، فصنعوا الكمان مستوحىً من الربابة والغيتار من القيثارة، كما استوحيت بعض الآلات النفخية من الزمر والزرنة.
الزراعة
استطاع المسلمون تطوير علوم الزراعة وما يعرف بعلوم الفلاحة، وذلك من خلال التوفيق بين طقس البلاد ونوعية الأشجار والنباتات التي ممكن أن تزرع فيها، كما زرعوا العديد من المزروعات التي كانت غير معروفة في منطقتهم، فيما بعد نقل الأوربيون هذه العلوم والمعارف الزراعية إلى بلادهم حيث استطاعوا زراعة العديد من أنواع النباتات والأشجار التي لم تكن معروفة لديهم.
الصناعة
النسيج
اهتم الأوربيون بالمنسوجات العربية الإسلامية وذلك منذ مطلع القرن التاسع ميلادي، استطاع الإيطاليون أن يأخذوا أسرار صناعة النسيج من الفنانين المسلمين، وذلك من خلال مشاركتهم العمل في معامل النسيج الموجودة في صقلية جنوب إيطاليا وبالأخص الحريرية منها، والتي بدأوا بإنتاجها وظهر عليها مواضيع شرقية وكتابات عربية، ومنها عباءة تتويج الملك روجر والتي صُنعت في صقلية عام 1134.
السجاد
قلّد الإيطاليون صناعة السجاد الإسلامي وذلك منذ القرن الرابع عشر، ورسموا الزخارف الإسلامية على سجاجيدهم لقرون عدة.
الخزف
أما بالنسبة للخزف الإسلامي فقد كان له أثر كبير في صناعة الخزف في أوروبا، وازدهر الخزف ذو البريق المعدني في الأندلس خلال فترة الحكم الإسلامي. بعد انهيار الدولة الإسلامية في الأندلس بقي الكثير من الخزّافين يعملون لحساب الباباوات والأسر النبيلة، وبذلك انتقلت أسرار هذه الصناعة إلى باقي أوروبا.
الرنوك “الشارات”
اقتبس الغرب عن العرب ما يعرف بالشارات أو الرنوك وهي عبارة عن أشكال دائرية أو بيضوية تحمل علامات أو رموز تدل على أصحابها، وما يشغله من وظيفة كما اتخذ بعض قادة الأوربيين من هذه الرنوك التي كانت منتشرة في كل من مصر وبلاد الشام شارات لهم، مثل النسر الذي كان شعارًا لصلاح الدين، والبيبر الذي كان شعارًا للظاهر بيبرس.
معدات صناعية
بالإضافة لذلك استوحوا العديد من المعدات الصناعية والأجهزة الفلكية كالإسطرلاب الإغريقي الذي طوره الفلكيون العرب، والساعات المائية والآلات ذاتية التشغيل، بالإضافة لصناعات هامة أخرى كصناعة الورق والعطور واستخلاص السكر من قصب السكر، وصناعة النواعير التي استخدمت بالري.
مما سبق آنفًا نجد أنَّ المسلمين في الأندلس قد بنوا حضارة مؤثرة كان لها دورًا بارزًا بما عُرف فيما بعد بعصر النهضة الأوروبي، الذي كان أساسًا لتطور أوروبا علميًا وحضاريًا، فقد كانت الحضارة الإسلامية هي الحامل الفعلي لكل أنواع المعارف سواء العلمية أو الفكرية الفلسفية أو الفنية التي أثرت بالعالم أجمع آنذاك.