أسس الصليبيون عند احتلالهم للشام عام491هـ= 1098م أربع إمارات مستقلة، هي أنطاكية والرها وبيت المقدس وطرابلس، وتواصلت جهود الزنكيين والأيوبيين لتحرير هذه المدن، وأسفرت تلك الجهود عن تحرير إمارة الرها عام 539هـ= 1144م، وكذلك أجزاء من مملكة بيت المقدس، وأهمها القدس، وعلى الرغم من تحرير عكا على يد صلاح الدين الأيوبي سنة 583هـ=1187م إلا أن الحملة الصليبية الثالثة استردتها بعد ذلك بأربعة أعوام فقط، أي في عام 587هـ=1191م.
وعندما استلم المماليك حكم مصر سنة 648هـ= 1250م، ثم الشام عام 658هـ= 1260م كان الصليبيون ما يزالون يسيطرون على إمارة أنطاكية وطرابلس، وبقايا مملكة بيت المقدس التي اتخذت من عكا عاصمة لها.
وبعد أن انتصر المماليك انتصارهم الكبير على التتار في عين جالوت سنة 658 هـ=1260م تفرَّغوا لمسألة الصليبيين، فاستطاع بيبرس أن يحرر أنطاكية عام 659هـ= 1261م.
بعد وفاة بيبرس تولى السلطان المنصور قلاوون عرش المماليك سنة ٦٧٨هـ= ١٢٧٩م، وبعد أن وطد دعائم حكمه بدأ في مواصلة جهود بيبرس ضد الصليبين، فأرسل في سنة ٦٨٦هـ= ١٢٨٧م جيشًا استولى على اللاذقية وآخر ما تبقى من إمارة أنطاكية التي حررها بيبرس، وبعد ذلك بسنتين خرج السلطان بنفسه على رأس جيش ضخم فرض حصارًا على طرابلس لمدة شهرين واستولى عليها في سنة 688هـ= 1289م، وبذلك انحصر الصليبيون في مدينة عكا مضرب المثل في الحصانة، وكذلك في عدة مدن أخرى على الساحل.
وفي السنة التالية، أي في سنة ٦٨٩هـ= ١٢٩٠م جاء بعض الصليبين الإيطاليين إلى عكا وعبروا عن حماستهم الصليبية بطريقتهم الهمجية المعتادة، حيث قتلوا عددًا من التجار المسلمين الذين اعتادوا دخول عكا لأغراض تجارية منذ زمن بعيد، وكان على الصليبيين أن يدفعوا الثمن فادحًا هذه المرة، فجهز المنصور قلاوون جيشًا كبيرًا لتحرير عكا ولكن المنية وافته في ٦٨٩هـ= ١٢٩٠م فتأجل المشهد الأخير في قصة الوجود الصليبي إلى حين.
خلف المنصور قلاوون في السلطنة ابنه الأشرف خليل، الذي قرَّر أنْ يُتَمَّ جهد أبيه، فخرج بالجيش ذاته الذي أعده أبيه سنة 690هـ= 1291م، وبدأ الفصل الأخير في هذه ا لمواجهة الطويلة المضنية، وحاصر جيش الأشرف عكا من البرِّ والبحر مدة ثلاثة وأربعين يومًا، وبنى حولها الأبراج الخشبية التي تكشف الداخل، ورماها بالمنجنيق، وأمطرها بوابل من السهام المحرقة، ودكَّ حصونها من البرِّ والبحر، ونشر السلالم على كامل أسوارها، وتدفَّق جنوده إلى داخل المدينة، حتى أيقن أهلها بالهلكة، وظنوا أن القيامة قد قامت ولم تجد عكا بدًا من الخضوع فاستسلمت ودخلها جنود المسلمين ودمروا حصونها وأسروا أكثر رجالها، وتحرَّرت المدينة الحصينة.
كان الأمر بعد سقوط عكا أشبه بنزهة عسكرية، إذ انطلقت الجيوش الإسلامية في الشام، وفي غضون شهور سقطت بقية المدن والمعاقل الصليبية تباعًا، حيث حُرِّرَت صُور، وصيدا، ثم بيروت، وحيفا، وأخيرًا طرطوس، وعثليث، ليخرج آخر جندي صليبي من الشام في 690هـ=1291م.
وبهذا تم القضاء نهائيًا على الوجود الصليبي في الشام بعد اثنين وثلاثين سنة من موقعة عين جالوت، وعلى الرغم من أن بقايا الصليبيين في قبرص ورودس ظلوا مصدر إزعاج في القرنين التاليين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين إلا أن دماء الصليبيين في عكا كتبت نهاية قصتهم في المنطقة العربية، وبذلك تكاملت الفتوحات واستعاد المسلمون جميع البلاد الساحلية وختمت صفحة الحروب الصليبية في الشرق الإسلامي بعد أن أمضى عليها قرنان من الزمن[1].
[1] قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية،1990م، ص132، 133، وأحمد شلبي: موسوعة التاريخ الإسلامي، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة السابعة، 1986، 5/ 790 ،791، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المماليك في مصر والشام، دار النفائس، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 1418- 1997م، ص116- 209، وشفيق جاسر أحمد محمود: المماليك البحرية وقضائهم على الصليبيين في الشام، ص135، 136.
قصة الإسلام