في عام 1405ﻫ عدت من البعثة وعينت في قسم اللغة العربية، وفي هذه الأثناء كان الدكتور محمد الباتل الحربي يعد أول رسالة دكتوراه في قسم اللغة العربية، ثم شهدنا مناقشة الرسالة في مدرج كلية الآداب وكان يومًا مشهودًا عمه الفرح والبشر، كان دفاع الدكتور عن عمله دفاعًا علميًّا شهد بفضله وتقدمه، وكم كانت سعادتي وفرحي حين رأيت أخي أبا باسل يدخل علي المكتب وهو يحمل بين يديه مجلدين كبيرين هما نسخة من رسالته (الشاهد الشعري في النحو العربي) ليخصني بها.
كان اختيار الشاهد الشعري موضوعًا لأول رسالة دكتوراه في قسم اللغة العربية بالغ التوفيق لما لهذا الموضوع من أهمية بالغة ليس في درس النحو بل في علوم العربية كلها. فالشعر ديوان العرب؛ إذ هم أمة شفاهية لم تعرف الكتابة إلا بأخرة وظلت الشفاهية مسيطرة على تناقل التراث وتلقي العلم ولها التقدمة في ميزان الإتقان والتعلم حتى قيل إن العلم ما وعته الصدور لا ما حوته السطور.
حين نزل القرآن بنصه المعجز نشطت العقول لتدارسه وفهمه تعبدًا وتعلمًا، وكان الشعر خير مصدر لتلك الدراسة والفهم، روي عن ابن عباس أنه كان يفسر القرآن في المسجد مستعينًا بالشعر، ولا غرابة في ذلك فالشعر كان مصورًا لحياة العرب واصفًا لطبيعة تلك الحياة بما تموج به من أحياء وأنواء، وكان بما يتصف به من جمال الجرس وما يلتزم به من قواعد إيقاعية سهل الترديد والرواية فكان جديرًا بذلك أن يكون مدونة العرب الأولى.
لم يحتفل النحويون وحدهم بالشعر فقد كان مَعينًا تستقي منه كل العلوم العربية، غير أن الذي اشتهر بين الناس أن النحاة إنما اهتموا بلغة الشعر فقعدوا لها وجعلوها على خصوصيتها متحكمة في لغة الناس بعدُ، وجاء بعض المحدثين ليتهموا النحويين بأنهم خلطوا بين لغة الشعر والنثر فقعدوا للعربية وفاق الشعر والنثر معًا دون تفريق بين لغتيهما، ولكن هذا الحكم إنما أملته نظرة عجلى أسعدها ما تحتفل به مطولات النحو من أشعار، فكان ذلك موهمًا بأنها أصل التقعيد، وأنها المستبدة بذلك المتحكمة بأمره، فإذا فتش عن الأمر تبين أن الأمر خلاف ما يذهب إليه، وأنه ليس كما هو مشتهر طائر بين الناس، وكم من الأمور المشهورة لا أساس لها.
الناظر في كتب النحويين المتصفح إنجازاتهم المتأمل تقعيدهم يرى أنهم وصفوا العربية وصفًا دقيقًا، فرأوا من ظواهرها ما هو مقيس مطرد الاستعمال على ألسنتهم اطرادًا لا يحتاج معه الأمر إلى استشهاد أو احتجاج، وهذا هو جمهرة ظواهر العربية، فكانوا إنما يمثلون لما يحتاج إلى تمثيل، فهذا سيبويه حين عرض إلى أقسام الكلم أو إلى شرح علامات الإعراب كان يمثل لذلك ولا يستشهد، وإنما يكون الاستشهاد للظواهر النادرة والاستعمالات الخاصة التي يحتاج فيها إلى الاستشهاد، فليس رفع الفاعل ولا نصب المفعول به بحاجة إلى شاهد؛ إذ لا منازع في ذلك.
وعلى الرغم من استعانة اللغويين والمفسرين والنحويين بالشعر لفهم لغة القرآن كان القرآن هو المصدر الأول للاستشهاد النحوي، وقد بالغ النحويون في تحري الدقة حتى كان اعتمادهم في الاستشهاد النحوي على نص يمثل العربية في أعلى تجلياتها وهو القرآن ثم على نص كفلت له شروطه الفنية السلامة. ولعل النثر في أيام التقعيد الأولى كالشعر وإن لم يكن منظومًا نظمه؛ ولكنه كان في مستواه سبكًا وجزالة وحسن أداء، ولعل وصف بعض العرب القرآن بالشعرية إنما هو من هذا المنطلق، فالعرب الذين وصفوا الرسول بأنه شاعر أو القرآن بأنه شعر هم أعلم الناس بما للشعر من خصوصية نظمية تختلف عن القرآن. فإذا استشهد النحويون أو غيرهم بالشعر على ظواهر العربية فهو أمر مفهوم مقدر لما ألمحنا إليه من تقارب لغتي الشعر والنثر؛ فاللغة بما لها من قدرة على التصرف الإعرابي أتاحت لعناصر الجملة أن تقع مواقعها التي تقتضيها شروط التنغيم والجرس والنظم الشعري.
ورأى النحويون أن من الأبيات ما خالف جمهور الاستعمال العربي فلم يطرحوه؛ لأنه لغة تلفّظ بها أهل اللغة التي عنهم تؤخذ اللغة، ولم يفسد ذلك على النحويين أمرهم، فقد عرفوا أن اللغة أعم من قواعدها؛ إذ القواعد إنما هي نظام منتزع من جمهرة الاستعمال، أما الاستعمالات الفردية فهي تبقى في إطار الشذوذ عن الاستعمال العام أو تندغم فيه بتأويل مقبول، أو يفهم أنها استعمال اضطر إليه الشاعر اضطرارًا، والقول بالاضطرار إنما هو اعتذار لمخالفة الشاعر السائد من لغة القوم. ولذلك ليس كل ما تحفل به كتب النحويين بشواهد شعر فبعضها أنما سيق تمثيلاً لا استشهادًا وبعضها سيق لتأويله أو بيان شذوذه أو بيان موطن الاضطرار فيه حتى لا يتخذ ذلك كله حجة تنقض ما أبرم من أمر القاعدة التي بنيت على المطرد من استعمال الناس.