قضية الاستشهاد الشعري ذات جوانب مختلفة ومسائل متعددة لا يمكن ابتسار القول فيها ومن أجل هذا يأتي هذا العمل الضخم الذي تصدى لإنجازه الدكتور محمد الباتل الحربي.
جعل هذا الكتاب في ثلاثة أبواب، أما الأول فهو معالجة مباشرة للشاهد من حيث وظيفته والشروط التي بتحققها يكون شاهدًا، ويبدأ الفصل الأول من هذا الباب بداية تمهيدية تتطرق إلى تدوين اللغة وقواعدها وبيان أهمية الرواية العلمية في هذا، ويتبين أن من النصوص ما تصلح للاستشهاد ومنها ما لا يصلح لذلك؛ فيكون بحث هذا موضوع الفصل الثاني، ومن أهم شروط صلاحية الشاهد صحة توثيقه؛ فكان الفصل الثالث معالجًا للتوثيق عند النحويين والمحدّثين، ومن الطبيعي في جوٍّ علمي نشط أن تنشأ الخلافات في النظر إلى اللغة وتفسير ظواهرها والاستشهاد لذلك كله كانت صلاحية الشاهد أمرًا خلافيًا هو موضوع الفصل الرابع من هذا الباب. ولما كان الشعر طريقه الرواية الشفهية كان التعدد في الرواية؛ فقد يكون الشاعر أنشد شعره ثم عاد إلى إنشاده فقوّم من أمره كما هو مشهور من أمر الحوليات، وقد تسير الركبان بالروايتين، وقد يكون للرواة من التدخّل ما يكون، وكل ذلك له أثر في الاستشهاد بالشعر فقد يكون البيت شاهدًا على رواية ولا يكون كذلك على رواية أخرى، وهذا هو موضوع الفصل الخامس الذي يختتم به الباب عن وظيفة الشاهد وشروطه.
وليس تعدد الرواية هي كل ما يحيق بالشعر بل ثمة أمران آخران لا يقلان عن ذلك أهمية وخطرًا وهما موضوع الباب الثاني الذي خصصه المؤلف لنقد الشاهد أما أحدهما فهو ما يبسط في الفصل الأول عمّا أثير حول الشعر من أمر وضعه ونحله إلى غير قائليه وما قد يناله من تحريف وتغيير، وفي الفصل الثاني درس إحصائي لكتب مختارة لبيان نسبة الأبيات المجهولة القائلين أو المنسوبة لغير العرب أو غير البشر أيضًا. ويقتضي الأمر بيان جهود العلماء القدماء الذين تصدوا لشرح الشواهد لبيان مناهجهم التي بها كشفوا عن كنه الشواهد وتلك التي بها وثقوا.
ومضى الباحث بعد أن أنجز أمر الدرس التنظيري في هذه القضية إلى جانب تطبيقي فخصص الباب الثالث للدراسة التطبيقية في الشواهد النحوية، فنظر في الفصل الأول في الخلافات المنهجية والخلافات التفصيلية ليتلمس أثر الشاهد في هذه الخلافات، فتبين له مغالاة بعضهم في الاستقراء التام ومغالاة آخرين في الاستقراء الناقص، وتوسط جمهرتهم بين ذلك، وكان من مقتضيات هذا الدرس ظهور مصطلحات كالشيوع والندرة والشذوذ وغيرها وهي مصطلحات عالجها الباحث في الفصل الثاني من هذا الباب.
ولم يكن الباحث راصدًا واصفًا لحركة الاستشهاد بل كان متأملاً قارئًا ناقدًا؛ ولذلك نراه يصوب بعض الأخطاء الشائعة، وينبه إلى غفلات بعض النحويين وأوهامهم، واستطاع الباحث بما لديه من معرفة دقيقة بالشعر النبطي أن يربط الحاضر بالماضي، ومن اجتهاداته الحسنة أنه وجه الإقواء على أنه عيب عروضي وليس من قبيل اللحن النحوي.
وكنت عرضت على أخي الدكتور محمد الباتل أمر نشر عمله لأهميته، فقال لي "الكتاب كتابك، فاصنع به ما تشاء"، وهكذا كان، وقد رحب أستاذنا الدكتور عبد العزيز المانع ترحيبًا شديدًا بنشره، فأحسن بذلك كرسي الدكتور عبدالعزيز المانع لدراسات اللغة العربية وآدابها، في جامعة الملك سعود، أن أخرج هذا العمل العلمي الرصين للناس؛ لأهميته البالغة، فالباحثون بحاجة إلى مثل العمل الذي يتوهم أن القول فيه واضح وأن شأنه جلي كل الجلاء. والله الموفق إلى كل خير.