من الماضي القريب بغداد في أواخر العهد العثماني.. كما وصفها عالي بك
وخلاصة ما كتبه أنه كان واليًا في طربزون، فصار مدير إدارة الديون العامة، وأنه أوفد في مهمة تتعلق بتفتيش الأمور المالية لعدد من الولايات في الدولة العثمانية، فبدأت رحلته بأن غادر إستانبول في يوم الخميس 3 كانون الثاني من سنة 1300 رومية (الموافقة 1301هـ/ 1884م)، مارًّا بـ: (مدللو)، و(أبو النور)، و(أزمير)، و(مرسين)، و(اسكندرونة)، ومنها توجه إلى (حلب)، و(كليس)، و(عينتاب)، و(بيرجك)، و(ديار بكر)، و(سعرد)، و(بتدليس)، و(موش)، وماردين)، حيث كانت له صلات بعشيرة شمر، ومنها ركب (كلكًا) في 2 أيلول 1301 رومية (الموافقة 1302هـ/ 1885م) انحدر به في نهر الفرات، فمر بـ: (حصن كيفا)، و(جزيرة ابن عمر) التابعة لبلدة ماردين، ثم وصل إلى قرية (الحمدات)، ومن هناك غادر الكلك وذهب برًّا إلى الموصل، وبعد وصوله إليها ركب الكلك أيضًا، فانحدر به إلى تكريت، ثم سامراء، ومنها إلى الأعظمية، ومنها إلى بغداد، حيث أقام بها مدة من الوقت، وبعدها انحدر إلى البصرة، ومنها إلى أبو شهر، فبومباي في الهند، ومن الأخيرة إلى عدن، ومنها السويس، فالقاهرة، ثم الإسكندرية، ومنها إلى إستانبول، وكانت عودته إليها في 1304 رومية (1305هـ/ 1888م،
كان عالي بك قد وصل سامراء وزار مراقدها المباركة، ثم مضى في طريقه نهرًا حتى وصل مصب نهر العُظيم، ويسميه الترك (شط أدهم)، وهو غير صحيح ،ومنها تحرك الكلك ووجهته قرية السندية ،ثم وصل إلى قرية (الجديدة)، ومنها وصل إلى قصبة الأعظمية، وسميت بذلك لأن الإمام الأعظم أبا حنيفة قد توفي فيها، ونسبت إلى اسمه، وتقع في الجانب الأيسر من دجلة، وفي الجانب الآخر بلدة الإمام موسى الكاظم، وقد شاهد التربة والجامع الشريف والقبة والمنارات من مسافة بعيدة.
ولما وصل إلى الأعظمية دخل دار نعمان أفندي متولي وسادن حضرة الإمام الأعظم، فرأى الدار مفتوحة، ورأى الناس يدخلون إليها، فاستقبله مَن في الدار من أعوان، فصعدوا إلى الطابق الثاني، ورأى شيخًا هناك وعلى رأسه عمامة، وكان قد بشر به، وقد أبدى لطفًا وقال له: يظهر أنكم أتيتم من سفر، فاستريحوا ثم توضؤوا، وسنذهب معًا إلى الجامع الشريف،وعلمت أن هذا المحل لم يكن خانًا ولا قهوة.
وأبدى المتولي اعتذاره، وبيَّن أنه سادن، وأن هذا بيته، وأخذني إلى غرفة أخرى فتوضأت، ونفضت الغبار عن أثوابي،ثم إن أعوانه قدَّموا لي طعامًا وافرًا، مع أن الموما اليه لم يعلم مَن أنا، ولا من أين أتيتُ، وكل ما عَلِمَه عني أني ضيف، فأكرمني وأعزَّني، ثم أذَّن المؤذن، فذهبنا لأداء صلاة الجمعة، ففتح نعمان أفندي التربة الشريفة، ووفقنا لزيارة مرقد الإمام الأعظم، وإن الجامع ذو منارة واحدة جسيمة، وله جبهتان على الطريق والسوق، وله ساحة كبيرة، [وهو] ذو بابين.
وفي [هذه] الأثناء رأيت حفيد الوالي الأسبق مجيد باشا، وهو مجيد بك من أحبائي، وكان معه بهجت بك ناظر الديون العمومية في بغداد، فأديت لهم شكري لما قاموا به من التفاتٍ نحوي، كما أني كررت شكري الخاص لنعمان أفندي؛ لما أبداه من حُسن ضيافة، فودعته وركبت عربة مع نجيب بك وبهجت بك، فوصلت بعد نصف ساعة إلى بغداد، وقضيت [النهار] في دار بهجة بك. ثم تطرق إلى بغداد، وبين أنها معروفة بـ: (الزوراء) و(دار السلام)، وأن القسم الأعظم من بغداد في يسار الشط، (وضمن سور) (دجلة)، أو (الجانب الشرقي)، والقسم الأصغر في القسم الأيمن من الشط، وأن الجسر المُتخذ من الخشب والمرتكز على جساريات يصل بين الجانبين، وأن الجانب الأيسر من المدينة، وهو القسم الأعظم، يقال له: (الرصافة)، والقسم الأيمن من المدينة يقال له: (الكرخ)، وفي الرصافة دائرتا بلدية، وفي الكرخ دائرة ثالثة للبلدية، وقيل: إن سور المدينة يمنع توسعها؛ ولذا اقتلع وهُدم، واليوم للسور بابان بشكل (بُرج) ، وهما من بقايا ذلك السور.
هذا وقيل: [إن] سور قلعة ديار بكر مانع من توسعها؛ ولذا بُنيَت دارٌ للحكومة خارج القلعة، في حين أن المدينة بقيت على حالها القديم، ومن ثم عادت الحكومة إلى محلها القديم، كما سبق ذكر ذلك،أما بغداد فإن سورها قد هدم منذ ثلاثين سنة[12]، ولكن ذلك لم يُجدِ نفعًا في توسع المدينة، وإن المدينة بقيت مهددة بهجوم العشائر بسهولة، وتسلطهم عليها، وكان [ذلك] قد ولَّد الخوف، ولكن زال الخوف في هذه الأيام، إلا أن المدينة مهددة بمياه الفيضان، وكان السور مانعًا من دخوله إلى المدينة، والآن خطر دخول المياه ملحوظ ومتوقع[13]، كما أن توسع المدينة يتوقف على زيادة النفوس، والاتصال بالخارج عن طريق وجود التجارة والصناعة وتكاثرهما، ومن جهة أخرى أن المدينة إذا زادت ثروتها تتوسع مطلقًا، وأن سورها لا يمنع من هذا التوسع أبدًا.