خمسون سنة قضاها في جهاد دائم، لم يعرف خلالها من أيام الهناء إلا قليلًا، ولم يركن إلى الراحة أثناءها إلا نذرًا يسيرًا، اضطلع بأعباء المسؤولية وهو شاب قوي المنكبين، لا يزيد في عمره على العشرين إلا قليلًا، وترك هموم الدنيا وهو شيخ وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبًا، ولكن كم كان الفارق كبيرًا بين ما كانت عليه أندلس المسلمين يوم تولاها عبد الرحمن الناصر، وبين ما أصبحت عليه يوم سلَّم الأمانة لابنه الحكم المستنصر حتى يتابع السير بأندلس المسلمين على النهج الذي سار والطريق الذي رسم.

في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري كانت الأندلس تضطرم نارًا، حيث دخلت في فترة ضعف لم يسبق لها مثيل في تاريخها، فلقد مزَّقتها الفتن والثورات، وسعى كل ثائر للانفصال بإقليمه، ودخلت البلاد في أزمة اقتصادية كبيرة، وطمع فيها نصارى الشمال الإسبان، وتفاقم الأمر بقيام الدولة العبيدية الشيعية في المغرب، ولم يقف الأمر عند هذا الحدِّ، بل فُجِعَ المسلمون في الأندلس بوفاة أميرها عبد الله بن محمد في هذا الوقت العصيب، عام 300هـ=912م.

تسلَّم الحكم في هذه الظروف الشاب عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله، حفيد الأمير السابق، وكان في الثالثة والعشرين من عمره، ومن العجيب أنه لم ينازعه في الحكم أعمامه ولا أعمام أبيه، ولعل السبب هو خوفهم من تسلُّم مسئولية بلدٍ منهارٍ كالأندلس، بالإضافة إلى أن الأمير عبد الرحمن اتصف بملكاتٍ قيادية، وعلمية، ودينية، جعلته فوق مستوى المنافسة، فرضي الجميع بولايته.

جاء عبد الرحمن الناصر يحمل هَمَّ الشباب وحكمة الشيوخ، وبدأ خطوات الإصلاح برؤية واضحة، فقد عَلِمَ أن البلاد لن يستقيم حالها إلا بوحدة، فسعى إلى ذلك من أول أيامه، وكانت خطته هي توحيد الهدف، فرفع راية الجهاد، وقمع ثورة المرتدِّ، وجذب قلوب المسلمين إليه، فعَلِمَ الناس أنه يريد الخير للمسلمين، فاجتمعوا حوله وأيَّدوه، وكان يخرج على رأس جيوشه بنفسه، فضرب المثل، واتَّبعه الجميع.

وعندما لانت له النفوس وهدأت الخواطر الثائرة انصرف لبناء القدرة الذاتية ووجَّهها نحو الأعداء الحقيقيين الخارجيين، فأخضعهم المرة بعد المرة وأقنعهم في النهاية بقصورهم عن مجابهته، وعجزهم عن النيل منه، فاستكانوا له وخضعوا وأسلموا إليه قيادهم.

انضمَّت الولايات الأندلسية إلى عبد الرحمن الناصر، فنشر العدل فيها، وأقام الشريعة، واهتمَّ بالعلم، ورفع قدر العلماء وقرَّبهم، فنصحوه وأيَّدوه، وأضافوا علمهم إلى قوته، كما اهتمَّ بتوسيد الأمر لأهله، فوظَّف أهل الكفاية دون النظر إلى العنصر أو القبيلة، وهكذا كان عبد الرحمن الناصر متوازنًا في بناء دولته، فلم يكن اهتمامه بالجيش والأمن فقط، بل اهتم بالنواحي العلمية، والاقتصادية، والفنيَّة، والروحية، ونَشِطَ في بناء المدارس والمكتبات، وتعمير الأسواق، وتخطيط المدن، حتى صارت دولته أقوى دول العالم، وصار هو بلا منازع القائد الأعظم في الدنيا في زمانه، مما جعل إسبانيا النصرانية تحتفل سنة 1961 بذكرى مرور ألف سنة على وفاة أعظم ملوكها في التاريخ على الرغم من كونه مسلمًا!

فلم يستطيعوا أنْ يُخفوا إعجابهم بهذا الرجل الذي رفعهم في العالمين، الذي كانت الأندلس في عهده أقوى دولةً في العالم، وها هو ذا يُتَوَفَّى رحمه الله في رمضان سنة (350هـ=961م) عن اثنين وسبعين عامًا، وقد وجدوا في خزانته ورقةً كان قد كتبها بخطِّ يده، عدَّ فيها الأيَّام التي صَفَتْ له دون كدر؛ فقال: «في يوم كذا من شهر كذا في سنة كذا صفا لي ذلك اليوم». فعدُّوها فوجدوها أربعة عشر يومًا فقط.

ذلك هو الخليفة عبد الرحمن الناصر لدين الله الذي ما ذُكرتْ أندلس المسلمين إلا ذُكر بها، مقترنًا بأروع آيات المجد والعزة للإسلام والمسلمين، ولئن كان ذكر الأندلس يرتبط بأسماء أولئك القادة من رواد الفتح الأوائل، أمثال موسى بن نصير، وطارق بن زياد، وعبد الرحمن الغافقي، والسمح بن مالك الخولاني، وعنبسة بن سحيم الكلبي، وسواهم من القادة والولاة، ولئن كان تجديد الفتح إذا صح التعبير يرتبط باسم صقر قريش عبد الرحمن الداخل، فإن مجد الإسلام والمسلمين سيبقى أبدًا شديد الالتصاق بسيرة الخليفة عبد الرحمن الناصر لدين الله.

إذن تبقى سيرة الخليفة الناصر لدين الله خالدة مدى الدهر، رغم إخراج المسلمين من أندلسهم، ذلك لأنها سيرة رجل في حياة أمة، وحياة أمة في تاريخ رجل[1].

[1] دكتور راغب السرجاني: قصة الأندلس، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الأولى، 1432هـ=2010م، ص200-237، وبسام العسلي: قادة فتح مصر والمغرب، دار النفائس، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1433هـ= 2012م، ص475، 476.