كمب سارة.. جسدٌ جميل شاخ قبل أوانه
لا تشبه اسمها الدال على العذوبة والرقة ، كانت باهتة المنظر وصاخبة الأجواء ومحاطة بالأتربة والكونكريت المسلح، فجسدها القديم الرشيق الأنيق أصبح مثقلاً بالجديد الذي جلب إليها الصخب والتعب والتغييرات التي جعلت منها مجرد منطقة اسمها (كمب سارة).
حي الرياض
حتى اسم (كمب سارة) تم محوه من السجلات الرسمية بعد التسميات الجديدة لأمانة بغداد لمحلات بغداد فأعطتها اسم (حي الرياض) برقم (910) ، اسم لايدل على معناه، حيث لم نجد أية روضة من تلك الرياض!
فجنوب المنطقة مغلق تماماً بالكونكريت المسلح امتداداً من تحت جسر الخط السريع الذاهب الى بغداد الجديدة، واللافت للنظر هي تلك النفايات المتجمعة المتراكمة هناك، حيث يمكنك أن تلاحظ البناء البغدادي القديم لأغلب المباني في تلك المنطقة .
شارع باريس!
ثمة بيت كان في الأصل مدرسة ابتدائية تبرع بها أحدهم في ذلك الزمان، في شارع تجاري ينتهي عند حدود الخط السريع المواجه لمنطقة تل محمد، وقد مررت على (عمارات الضباط)، ولم يكن المشهد مبهجاً، وتطلعت خلفها الى المساحات الخالية التي قيل إنها كانت مزارع خس كانت في أوقات الامتحانات ملاذاً للطلاب ليذاكروا فيها دروسهم، فيما بات الشارع العام منطقة صناعية صاخبة بحيث لم يعد هناك ذلك الجمال الذي نسمع عنه الكثير من الأحاديث الشيّقة عن المنطقة التي تضرب بها الأمثال، فأين ذلك الجمال المتمثل بشارعها الذي كانوا يسمّونه (شارع باريس) حين كان الشباب والشابات يتجولون في الشارع إلى ما بعد منتصف الليل, وفي هذا الشارع كانت تقام الاحتفالات للعديد من المناسبات المسيحية مثل احتفالات عيد الصليب وعيد رشاش الماء وأعياد المسيحيين. وقد كانت البيئة مسيحية يشاركهم أصدقاؤهم المسلمون الذين كان بعضهم يتحدث لغة (السورث) بطلاقة، والسورث هي اللغة المحكيّة لمعظم سكان بلاد مابين النهرين ومايجاورها، وقد كانت المنطقة تزخر بالكثير من القصص والمواقف التي يتذكرها أبناء كمب سارة، حتى أنك تسمع من البعض حسرة ملأى بالحنين لأيام خلت معززة بكلمات بالعامّية (قبل جانت تخبّل بس هسه غير شكل) .
المرابي أوهانيس
الأرض في أصلها مملوكة لأوهانيس (هوفهانيس) ماركوس اسكندريان (1834-1899) أحد وجوه الأرمن في بغداد والذي يشير إليه الكاتب عباس بغدادي في كتابه (بغداد في العشرينات) بصفة (المرابي)، ويقول عنه “.. وكان هذا المرابي يقرض شيوخ العشائر الذين يحكم عليهم بغرامات ثقيلة لا تدخل خزينة الدولة العثمانية بل تدخل في خزينة الوالي الشخصية”. وكان أوهانسيان هو المشتري والبائع لأغنام الرؤساء ودوابّهم وأراضيهم بالثمن البخس ثم يعود ويبيعها لهم بعد ان يقبض الوالي ما يريد ،عدا عن قيامه برهن الأراضي والبساتين وشرائها بعدئذ بأرخص الاثمان، فامتلك أخصب الأراضي وأجود البساتين في محافظة واسط (لواء الكوت) وبغداد والحلة وغيرها من جهات العراق وأشهرها أراضي مقاطعة الدبوني في العزيزية من لواء الكوت، وأراضي معسكر الرشيد والتي تسمى الآن (كمب سارة ) وقسم كبير من أراضي المسبح.
وهو أب الفتاة سارة (1889ـ 1960) ،التي خلّف لها ثروة طائلة جداً، تتضمن أموالاً وبساتين وأراضي زراعية في بغداد والصويرة والحلة ومنطقة الشوملي، فضلاً عن أراض واسعة ضمن حدود أمانة بغداد، وقد سجلت جميع هذه الأراضي باسمها حين تطبيق قانون تسوية حقوق الأراضي بمساعدة رئيس اللجنة المطاع وهو المستر (ديجبرن) ثم شيدت قصرها الفخم المنيف على أراضيها في المسبح .
وبعد ان شهد الأرمن مجازر إبادة جماعية وتهجير على يد الدولة العثمانية عام 1915، أسست سارة التي اشتهرت باسم (سارة خاتون) مع عدد من النساء الأرمنيات في بغداد عام 1917 الهيئة النسوية الأرمنية لإغاثة المهجرين الأرمن ، ثم قامت سارة خاتون وزوجها تانييل (قبل أن يتوفى في باريس في عام 1922) بتوزيع الطعام والملابس على 20 ألفاً من المهجرين الأرمن في العراق الذين أسكنتهم سارة خاتون في حي الكيلاني ببغداد (كمب الكيلاني) ، ومع زيادة عدد المهجرين الأرمن، أصبح (كمب الكيلاني) لا يستوعبهم، فقامت في عام 1937 بتوزيع أراضيها لقاء مبالغ مالية زهيدة ليسكنها الأرمن النازحين من قرى الشمال وللمسيحيين وهذا ما جعل هذه المساحة من الأرض تجمعاً مغلقاً لهم، لهذا السبب أطلق عليها (كمب) والذي يعني (معسكر) أو (ملاذ آمن), وسمي هذا الحي الأرمني المسيحي بحي (سارة الزنگينة) أو (كمب سارة). وفي مطلع الخمسينات تم الإعلان عن بيع أراضيها، التي كان معظمها مزارع للخس. وبدأ الناس من مناطق بغداد القديمة يتخذونها سكناً ،كان بناء بيوتهم على الطراز البغدادي القديم ولكن بشكل متطور وبمساحة أوسع، وبعد ان نال الحيّ الاهتمام تم مد شبكة المجاري عام 1962 وفي عام 1963 تبلطت شوارع الحي، وكانت من المناطق المسيحية المميزة في بغداد، وتحوي العديد من المراكز الاجتماعية والدينية المهمة منها نادي المشرق الاجتماعي والذي يعتبر من المراكز الاجتماعية المهمة ويعود تأسيسه الى عام 1944، وهناك كاتدرائية مريم العذراء للكنيسة الشرقية القديمة ومقر قداسة أبينا البطريريك مار أدي الثاني الكلي طوبى ومقر مجلة الأفق ( الصادرة عن بطريركية الكنيسة الشرقية القديمة ) كما وتقع هناك كنيسة الأرمن ومقر الجمعية الخيرية الأرمنية، فضلاً عن مدرسة ثانوية للأرمن بناها رجل الأعمال الأرمني كالوست سركيس كولبنكيان (1869 – 1955)، وأجمل ما يمكن الإشارة إليه في منطقة كمب سارة ذات البيئة المسيحية وجود جامع يحمل اسم (عيسى بن مريم) عليه السلام في السوق القديم .
سدة ترابية
حدود المنطقة : من الجنوب معسكر (الهنيدي) الرشيد ومن شرقها تل محمد والخط السريع ومن شمالها كانت تسمى محلة الرياض قبل ان تشمل التسمية كل المنطقة التابعة إدارياً للكرادة الشرقية ومن الغرب الشارع الرئيس المؤدي الى معسكر الرشيد الممتد من ساحة عقبة بن نافع، وكانت هنالك سدة ترابية تفصل المنطقة عن معسكر الرشيد وهي الآن تقع تحت جسر الخط السريع المؤدي من الدورة الى بغداد الجديدة، وهذه السدة وجدت لمنع ماء نهر دجلة عندما يحدث فيضان، فيما كانوا ينقلون المعسكر الى هذه المنطقة لأن أرضها كانت أعلى، ويذكر البعض من أهالي المنطقة القدماء أن كمب سارة سكنها عدد كبير من الضباط الذي يخدمون في معسكر هنيدي (الرشيد) فكانوا يعبرون السدة ويذهبون مشياً الى المعسكر .
سارة خاتون
كان لابد من البحث عن سارة خاتون التي ذاع صيتها فكانت في بغداد منطقة أطلق عليها كمب سارة على اسمها. وسارة خاتون من ثريات بغداد، هي فتاة بغدادية أوتيت من جمال الوجه ما لم تؤته فتاة، وتسبب هذا الجمال في مشاكل كثيرة لها. ولدت سارة في بغداد عام 1889، وفقدت والدتها صوفي (1856-1895) وأختها الصغيرة زابيل، ثم فقدت والدها قبل أن تبلغ سن الرشد لتبقى تحت رعاية عمتها صوفي ووصاية عمها سيروب اسكندريان. وكان المنزل الفخم لأهل سارة يقع في شارع الرشيد ببغداد على ضفاف نهر دجلة، وأصبح فيما بعد أحد فنادق بغداد المعروفة واسمه (ريفر فرونت هوتيل)، وقيل إن أملاكها كانت من الكثرة وكبر المساحة بحيث كان القطار يستغرق في مسيره مدة نصف ساعة للخروج من حدودها! ويذكر الكاتب عباس بغدادي في كتابه الموسوم (بغداد في العشرينات) قائلاً : تعد سارة “الزنكينة” من أثرياء بغداد وهي الفتاة نفسها التي أثارت الفضيحة المتعلقة بوالي بغداد المشهور ناظم باشا صاحب سدة ناظم باشا المعروفة في بغداد الذي أحبها ولحقها الى بومباي وعرض عليها الزواج ثم هرّبتها السلطات البريطانية الى فرنسا وبريطانيا .
منطقة صناعية
كمب سارة تحولت اليوم الى منطقة صناعية فيها الكثير من كراجات تصليح السيارات بمختلف أنواعها ومحال بيع الأدوات الاحتياطية وصار المرور من الشارع الضاج لا يدعو إلا الى الانزعاج، وإن كانت المنطقة ذات أغلبية مسيحية بنسبة 80 % إلا أنهم الآن، حسب مطلعين، لايتجاوزون الـ 20 %. ويشير الكثيرون الى أن أحداث الإرهاب والتفجيرات التي ضربت المنطقة بعد عام 2003 كان لها الأثر الكبير في هجرة الكثير من المسيحيين. وتغيرت أحوال المجتمع حتى وصل الحال الى أن الجار لايعرف جاره وكل بيت تعرض للتقسيم وصار 3 بيوت لحل أزمة السكن، ويرى الكثير من أهلها أن المنطقة أهملت فلم تعد نظيفة ولا جميلة .