كركوك مدينة القرابين والطاعة والتجارة
فجأة تصدرت (كركوك) أنظار العالم! ليس بسبب تصريحات الزعماء القوميين الاكراد, المثيرة للجدل, ومخاوف التركمان ـ ولهم وجود فيها لا ينكره أحد ـ وهواجس العرب ومعظمهم ممن تسللوا إليها خلال الثلاثة عقود الأخيرة, بغية تغيير بنيتها السكانية وتقليل التركمان ,والعرب من خلال أعمال التهجير القسرية المنظمة, والتبعيث المرفوض من قبل كل سكانها. وهو ما فوجئت به شخصياً سنة 1963, عندما رافقت الرئيس الأسبق عبد السلام محمد عارف, كصحافي, في جولة له في شمال الوطن شملت مدينة التآخي.
كلام غير مسؤول مثل القول بأن كركوك هي «قدس الأكراد», يثير اللغط ويبعث على الشجون ويعطي إشارات خاطئة إلى أعداء العراق الجديد ممن ينظَرون ويفلسفون إمكانية تجزئة العراق أو قيام حرب أهلية.و.. و.. لنعد إلى الماضي الجميل لتراث كركوك الحضاري المهدَد بالتدمير والتخريب والتشويه على أيدي أعداء العراق الجديد من إرهابيين ومخربين وأصوليين متحجرين وأيتام النظام السابق ممن فقدوا امتيازاتهم فوتروا ورفعوا السلاح الذي سرقوه من ثكناتهم إثر هزيمتهم المخجلة, لكن للعراق رب يحميه ويصونه من هؤلاء وأولئك.
أدناه تحقيق يسلط الضوء على قلعة كركوك التاريخية, ويطالب اليونسكو والمنظمات المعنية بالحفاظ على التراث الحضاري بحمايتها وحراستها.
أقدم مدينة عراقية في التاريخ
تعد كركوك من أقدم مدن العالم وتشير التنقيبات الأثرية إلى أنها كانت مدينة الآلهة, اتخذت معبداً مقدساً, تقدم فيه قرابين الطاعة والغفران, كما أن خصوبة تربتها وموقعها الجغرافي جعلاها مركزاً للحركة التجارية ومعقلاً عسكرياً لصدَ الغارات الخارجية, وقاعدة للقيام بهجوم يشنَ منها إلى الخارج, وقد احتضنت عدة أجناس تبادلوا العادات والتقاليد راضين أو كارهين , حيث استونها اولا العراقيون الناطقون بالسومرية, ثم العراقيون الناطقون بالاكدية بلهجتها الآشورية. كذلك الجماعات المهاجرة مثل الحوريون والكاشيون والفرثيون والفرس , والآراميون ثم التركمان, وصولا الى العصر الحديث حيث قطنها الارمن وغيرهم , اضيف لذلك موجات الهجرة الكردية بعد انبثاق الصناعة النفطية في الاربعينات والخمسينات, حيث هاجر الكثير من الاكراد من الجبال المجاورة للعمل في النفط. لكن الحضور التركمانية في المدينة ظل هو الاقوى, بحيث ان اللغة التركمانية ظلت سائدة الى الآن حتى بين الفئات العراقية الاخرى من اكراد وعرب وسريان وارمن وغيرهم.
ان كركوك بؤرة حضارية عراقية اصيلة لها جذور تمتد إلى أقدم الحضارات والثقافات التي صنعها الإنسان على الكوكب الأرضي وهي رمز للتسامح بين سكانها الطيبين.
وأكدت التنقيبات الأثرية أن مدينة ـ عرفة, كانت مقدسة لدى الملوك والحكام العراقيين, بحيث اعتبرت ملجأ للآلهة. وكان ملك نينوى نيريجليسار, قد أعاد هيكل الآلهة(آني طوم) إلى مدينة سيبار, بعد اغتصاب يمتد إلى سنة 2600 ق. م, وقد اختلف المؤرخون والباحثون في اسم كركوك. ويرى الدكتور مصطفى جواد أن اجتماع ثلاث كافات في هذا الاسم أمر نادر من حيث الحروف, وتركيبه اللفظي يدل على أنه من الأسماء السامية الآرامية, ثم نقل عن ياقوت الحموي في معجم البلدان: ((كِرخيني, بكسر الخاء المعجمة ثم ياء ساكنة ونون وياء, هي قلعة في وطء من الأرض, حسنة حصينة بين دقوقا واربل رأيتها وهي على تل عال ولها ربض صغير)).
ثم خلص إلى أن هذا الوصف الجغرافي ينطبق تمام الانطباق على «كركوك» الحالية, وحدَد ـ الجواد ـ العصر الذي سُميت به بلدة كرخيني «كركوك», هو زمن الدولة التركمانية ألقراقوينليه». أي في حدود القرن التاسع للهجرة أي الخامس عشر للميلاد. وفي العهد العثماني اتخذت مدينة كركوك مركزا إداريا لمنطقة (شهرزور) التابعة لولاية الموصل, والتي ضمت السليمانية واربيل, باعتبارها جزءا من شمال العراق الذي شمي حينذاك بولاية الموصل. وفي الثلاثينات من القرن العشرين, بدأت أولى محاولات «تعريب» كركوك, ضد الحضور التركماني اولا, كذلك ضد الحضور الكردي.ومنذ سنة 1963, تحول «تعريب» هذه المدينة العريقة إلى منهج مرعب على يد علي المجيد (الكيماوي), الذي أقسم بـ (شواربه) على جعلها مدينة عربية خالصة خلال خمس سنوات, وهو في السجن اليوم ينتظر مصيره!.
قلعة كركوك .. رمز المدينة ومركزها
تعدَ قلعة كركوك مركزاً للمدينة الحالية, وتقع في المنطقة المحصورة بين الجسرين الواقعين على نهر الخاصة, كما انها نقطة مهمة بالنسبة للسهل المحيط بها حيث يبلغ ارتفاعها 18 مترا عن الشارع المحيط بها. أما أعلى نقطة فيها فيبلغ ارتفاعها 368 مترا من ضمنها ارتفاع الأبنية الموجودة على سطحها.
تتميز القلعة بأن سطحها مستوò, وتبلغ مساحتها (25 هكتارا), أما مساحة الجزء المستثمر كبيوت للسكن, فتبلغ مساحته 5 آلاف متر مربع.
تقسم القلعة إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي:
1 ـ محلة الميدان ـ تقع في الشمال.
2 ـ محلة القلعة ـ تقع في الوسط.
3 ـ محلة الحمام ـ تقع في الجنوب.
وتضم مجموعة من المساجد ودور العبادة هي:
حسن باكيز, وشيخ نادكب, وحسن مكي, والعريان, واولو جامع, وملا توفيق, والنبي دانيال, وكنيسة الكلدان.. غير أن عددا منها تلاشى واندثر.
وللقلعة أربعة مداخل رئيسة:
1 ـ الباب حجرية ـ داش قابو.
2 ـ باب الطوب (طوب قابو) من الجهة الغربية.
3 ـ سبع بنات (يدي قزلار)
4 ـ باب الحلوجية ـ من الجهة الشرقية.
وحتى أواخر الثمانينات كانت تضم 560 وحدة سكنية, يسكنها 4 آلاف شخص. وتشتمل القلعة على العديد من المباني الأثرية, ذات القيمة التراثية والمعمارية المتميزة بعقودها وأقواسها وقبابها وزخارفها, وهي:
1 ـ جامع النبي دانيال:
يعتبر أقدم وأشهر جامع ذا منارة شاخصة تعود بتاريخها إلى أواخر العصر المغولي أو بداية العصر التيموري (أي حدود القرن التاسع الهجري ـ الخامس عشر الميلادي), مئذنة هذا الجامع بنيت من الطابوق وهي بمثابة نقطة استدلال تشاهد من جميع أجزاء القلعة. وفي الجامع أقواس وعقود لا تزال قائمة وجالسة على قاعدة مثمنة بجانبها المنارة, ويحتوي الجامع على مشهدين متجاورين ومصلى تطل على فناء مكشوف, وللجامع قيمة اجتماعية ـ روحية, حيث يحظى بزيارة الناس باستمرار, خاصة أيام السبت, ويعتقد العوام بأن الأنبياء حنين وعزرا ودانيال مدفونون فيه, وبني الجامع على أنقاض أقواس بناية قديمة.
2 ـ جامع العريان:
يقع في منتصف القلعة, يرجع تاريخ إنشائه إلى سنة 1142هـ, كما يستدل من قطعة الحجر المثبتة في مدخله. يتميز هذا الجامع بمحرابه المزيَن بزخارف نباتية وهندسية ملونة بألوان عديدة على شكل أزهار, بعد إزالة قسم من هذه الزخاف تبين أنها مجدَدة, حيث ظهرت تحتها زخارف نباتية, تعلوها كلمات آية قرآنية هي (وكفَلها زكريا كلَما دخل عليها زكريا المحراب) (آل عمران: 37).
أما منبر الجامع فقد بني بالجص والحجر وزخرفت جوانبه بزخرفة جصية تمثل أشكالاً هندسية منها نجوم سداسية يحيطها إطار من الرقش (التوريق).
يحتوي الجامع على قبتين مختلفتين في الحجم.
3 ـ الجامع الكبير (أولو جامع):
يعرف بجامع المرجانة, يتألف من أربعة أروقة ترتكز على دعامات تتصل الواحدة بالأخرى بمنافذ معقودة على شكل أقواس أنصاف دائرية.
زالت معظم بقايا هذا الجامع ولم يبق منه سوى بعض الأقبية ذات الأقواس المدببة وبقايا المئذنة, كان الاسم القديم لهذا الجامع يحمل اسم الأم مارية.
4 ـ جامع حسن باكيز:
عبارة عن مرتفع من الانقاض.
5 ـ بوابة (طوب قابو):
هي البوابة الوحيدة التي لا تزال ماثلة إلى العيان ويعود تاريخها إلى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي, وهي من البوابات الحجرية ذات أقواس مدببة الشكل ونصف دائرية.
6 ـ السوق القيصري:
يقع السوق في أسفل القلعة عبارة عن سوق قديم مسقف كان مركزاً تجارياً أساسياً للمدينة يشتمل على نحو 300 دكان فيه من المعالم المعمارية المتقنة من القبب والأقواس المدببة والزخارف. وخلال الثمانينات تم الحفاظ على قسم من أجزاء السوق, وتهدم الجزء الآخر.
7 ـ القبة الخضراء:
تقع في وسط القلعة وهي مثمنة الشكل من الخارج ومربعة من الداخل ولها طراز معماري متميز مبني من الطابوق والنورة والجص, تزين جدران القبة بزخارف آجرية بنائية وهندسية مطعَمة بالقاشاني الملون, وقد وردت لها عدة تسميات منها: يشيل قنبد ويشيل كومبت وتعني القبة الخضراء, وكوك كنبد وكوك كومبت وتعني القبة الزرقاء.
يعتقد سكان القلعة ان القاشاني المستخدم في زخرفتها اخضر اللون, لكن فحص الأجزاء الباقية من القاشاني بيَن بأنه أزرق اللون.
تقع هذه القبة على سطح قلعة كركوك, على مسافة قريبة من باب القلعة الشمالي, حيث يمكن الوصول إليها مشياً على الأقدام, ذلك بعد اجتياز باب القلعة بـ (200 متر), تقريبا يفترق الطريق فتسير في زقاق إلى الجهة اليمنى مقدار ثلاثين مترا تدخل في زقاق صغير ثان على اليمين ايضا, فتشاهد بعد الدخول مسافة (20 مترا) بيتا أمامه رواق على مدخله كتابة بارزة نصها (رأس الحكمة مخافة الله) عام 1280 هجرية). عند الوصول إليه تنظر الى اليسار تشاهد القبة الخضراء.
مبنى القبة قديم, وثمة شاهد على قبر سيَدة مؤرخ بعام 762 هجرية ومنه يتبين ان هذا المبنى يعود إلى عصر نهاية الايلخانيين وبداية الحكم الجلائري.
بناء القبة مثمن يبلغ قطره خمسة أمتار, ارتفاعه الكلي عشرة أمتار أما ارتفاع جداره فيبلغ ستة أمتار والمبنى مربع من الداخل ـ كما أسلفنا ـ يتكون من طابقين, الطابع الأرضي مربع من الداخل يحتوي على ثلاث نوافذ للإضاءة ومدخل ـ أما سقفه فيتكون من قبتين شيَدت إحداهما فوق الأخرى, فالقبة الأولى (من الداخل) ثمانية الأركان ترتكز على أربعة أقواس نصف دائرية, أما القبة الثانية فتكوَن ارضية الطابق الثاني.
يضم الطابق الأرضي في داخله حفرة مستطيلة الشكل طولها 3.20 متر, عرضها 2.5 متر, أما العمق فيبلغ مترين.
كانت القبة تضم رفات قبر السيدة, لكن العوام نهبوه ظناً منهم أنه يضم كنزاً ثميناً من الذهب.
الطابق الثاني مربع من الداخل يضم أربعة أقواس مدببة الشكل, فيها زخرفة نباتية عملت من الصبغ القهوائي, حيث ظهرت معالم بسيطة منها. وفي نهاية عقد الأقواس السفلى, ثمة افريز من القاشاني الأزرق يدور حول جسم القبة من الداخل مجتازا من أعلى أقواس النوافذ الأربع, حيث تظهر معالم بسيطة منه للعيان.
ثمة أربع نوافذ ذات أقواس نصف دائرية من الخارج ومدببة من الداخل, وتظهر في نهاية الطابق الثاني من الداخل في الأركان مقرنصات كانت ترتكز عليها القبة, ويحتمل أن تكون هذه القبة مدببة في قديم الزمن.
أما شكل بناء القبة من الخارج فهو مثمن يرتكز على قاعدة بنيت من الحجر والجص بارتفاع متر ونصف المتر, بني فوق القاعدة صفَ من الطابوق المنجور ارتفاعه 6 سم, يدور حول جسم القبة ويبلغ طوله الكلي نحو عشرين مترا ويعتبر محيط القبة من الخارج, بني فوقه صف من الحجر الأحمر المهندم قياس الواحد منه (5/ 35 * 30 سم), ويمتاز هذا النوع من الأحجار بأنه مقاوم ضد عوامل الطبيعة (كالأمطار مثلا), بني فوقه صف من الطابوق المنجور ارتفاعه (5 سم), يقع فوقه صف آخر من الطابوق بني بوضعية افقية ارتفاعه 28 سم, ثم تبدأ حافات الافريز وعددها 8 وحدات قياس الواحدة 181 * 80 سم, اما طول الزخرفة المعينية الشكل فتبلغ 140 سم, بني فوق زجاجة الوحدة الزخرفية صف من الطابوق المنجور ارتفاعه 28 سم وبوضعية افقية (كاز) تقع فوقه 8 وحدات زخرفية, أي في كل جهة من جهات القبة الثمانية وحدة زخرفية وهي مستطيلة الشكل وتتكون من إطار ذي أشكال معينية, داخله شكل نجمة رباعية الاضلاع.
في الجهة الثانية من الشكل المعيني, ثمة أشكال معينية اخرى من القاشاني الأزرق, هناك إطار ثان بعد الإطار الأول تقع داخله زخرفة مكونة من وردة ثمانية الاضلاع معمولة من الطابوق المنجور والمنحوت تمتد هذه الزخرفة إلى ما قبل بداية ارتكاز القبة.