الإستدلال : هو عملية إقامة الدليل.
هذا هو المعروف من تعريفه ، وسوف نرى‏ أنّه نقطة المركز التي تلتقي‏عندها التعريفات الاُخرى التي ستذكر فيما يأتي.
- ففي اللغة :
صيّغت كلمة ( استدلال ) على زنة ( استفعال ) التي تعني في الغالب‏الدلالة على الطلب.
فالإستدلال على هذا طلب الدليل ، وبه عُرّف في اللغة.
- وفي علم المنطق :
عُرّف الإستدلال بـ (( إقامة الدليل لإثبات المطلوب )).
ويقوم على المبادئ التالية :
· مبدأ التعاكس.
· مبدأ التناقض.
· مبدأ التقايس.
· مبدأ التماثل.
· مبدأ الاستقراء.
- وفي الفلسفة :
عَرّفه ( المعجم الفلسفي - مجمع اللغة العربية ) بما نصّه : (( الاستدلال‏Reasoning : فعل الذهن الذي يلمح علاقة مبدأ ونتيجة بين قضيّة واُخرى أوبين عدّة قضايا ، وينتهي إلى الحكم بالصدق أو الكذب ، أو إلى حكم‏بالضرورة أو الاحتمال )).
ويقوم على المبادئ التالية :
· مبدأ العلّية.
· مبدأ استحالة التناقض.
· مبدأ استحالة الدور.
· مبدأ استحالة التسلسل.
- وفي الكلام :
يقوم الإستدلال على المبدأين التاليين :
· مبدأ التلازم :
الذي يعني إذا ثبت اللازم ثبت الملزوم.
· مبدأ التمانع :
الذي يعني إذا بطل الملزوم بطل اللازم.
- وفي العلم الحديث :
يعرف الإستدلال بأنّه انتقال الذهن من أمر معلوم إلى أمر مجهول.
ويقسّم إلى نوعين أساسيّين ، هما :
1 - الاستنباط deduction
وعرّفوه ب(( انتقال الذهن من قضيّة أو عدّة قضايا ، هي المقدّمات ، إلى‏قضيّة اُخرى ، هي النتيجة - وفق قواعد المنطق )) - .
وليس بلازم أن يكون انتقالاً من العام إلى الخاص ، أو من الكلّي إلى‏الجزئي.
ومن أوضح صوره البرهنة الرياضيّة ، ففيها انتقال من الشي‏ء إلى‏مساوٍ له ، بل من الأخصّ إلى الأعمّ.
والقياس الارسطي باب منه ( الذي أساسه الانتقال من الكلّي إلى‏الجزئي ( - المعجم الفلسفي - مادّة : استنباط - .
وقسّموا الاستنباط إلى قسمين ، هما :
أ - الحملي :
وهو ما كانت مقدّماته مسلماً بصدقها بصفة نهائية.
ب - الفرضي :
وهو ما كانت مقدّماته مسلماً بصدقها بصفة مؤقتة.
2 - الاستقراء indction
وعَرّفوه بأنّه (( الحكم على الكلّي بما يوجد في جزئياته جميعها .
وهو الاستقراء الصوري الذي ذهب إليه ارسطو ، وحَدَّهُ وسمّاه(الايباجوجيا ).
أو الحكم على الكلّي بما يوجد في بعض أجزائه.
وهو الاستقراء القائم على التعميم.
وعلى الأخير اعتمد المنهج التجربي ، فهو ينتقل من الواقعة إلى‏القانون وممّا عُرِفَ في زمان أو مكان معيّن إلى ما هو صادق دائماً وفي‏كلّ مكان))(1) .
والخلاصة :
الإستدلال : هو إقامة الدليل للوصول إلى المطلوب.
وهو ما نعنيه - هنا - في اُصول الفقه الإمامي.
أقول هذا لأنّه اختلف عنه في اُصول الفقه السنّي ، فأُطلق بشكل عام على‏ما ذكرناه ، وأُطلق على الدليل نفسه ، وعلى أدلّة معيّنة بذاتها ، فعرّفوه‏بأنّه ( الدليل الذي ليس بنصّ ولا إجماع ولا قياس ).
وعنوا بذلك الأدلّة التالية :
- الاستحسان.
- المصالح المرسلة.
- سدّ الذرائع وفتحها.
- الاستصحاب.
- مذهب الصحابي.
- عمل أهل المدينة.
- شرع من قبلنا.
- العرف.
ولمعرفة معاني هذه الأدلّة وشؤونها الاُخرى ، يرجع إلى الكتابين‏التاليين :
- الاُصول العامّة للفقه المقارن ، السيّد محمّد تقي الحكيم.
- الإستدلال عند الاُصوليين ، الدكتور علي بن عبدالعزيز العميريني.
· خطوات الإستدلال الاُصولي :
أعني بخطوات الإستدلال في البحث الاُصولي المنهج الذي يتبعه العالم‏أو الباحث الاُصولي في دراسة قضايا ومسائل هذا العلم.
ولأنّه سبق لي أن عرضت له نظرياً وتطبيقياً في كتابي ( اُصول البحث ) تحت عنوان ( الهيكل العام لعلم اُصول الفقه ) أكتفي بنقله هنا عن إعادةالبحث فيه ثانيةً لما فيه من وفاء بالمطلوب.

الهيكل العامّ لعلم اُصول الفقه‏
والهيكل العام لعلم اُصول الفقه المستخلص من واقع التجارب العلميّةفيما كتب فيه ، هو كالتالي :
1 - الهدف من البحث في اُصول الفقه :
هو استخلاص القواعد الاُصوليّة من مصادرها النقليّة أو العقليّة بغيةالإستفادة منها في مجال الإجتهاد الفقهي.
2 - مادّة البحث الاُصولي :
وتتمثّل في مصادر التشريع الإسلامي ( أو أدلّة الأحكام الفقهيّة ).
3 - خطوات البحث الاُصولي :
وتتلخّص في التالي :
أ - تعيين المصدر ( الدليل ).
ب - تعريف المصدر ( الدليل ).
ج - إقامة البرهان على حجيّة المصدر ( الدليل ) لإثبات شرعيّته.
د - تحديد مدى حجيّة المصدر ( الدليل ).
هـ- استخلاص القاعدة الاُصوليّة من المصدر ( الدليل ).
و - بيان دلالة القاعدة.
ز - بيان كيفيّة تطبيق القاعدة لاستفادة الحكم الفقهي.
4 - المنهج العامّ للبحث الاُصولي :
سنتبيّن من خلال التطبيق الآتي أنّ البحث الاُصولي يسير وفق‏المناهج العامّة التالية :
أ - المنهج النقلي في جملة من مسائله.
ب - المنهج العقلي في جملة اُخرى من مسائله.
ج - المنهج التكاملي ( من النقلي والعقلي ) في جملة ثالثة من مسائله.
وساُحاول - هنا - توضيح العناصر المذكورة من خلال التطبيق على‏بعض القواعد الاُصولية.
ولتكن القواعد التالية :
- قاعدة الظهور.
- قاعدة تعارض الخبرين.
- قاعدة الاستصحاب.
· قاعدة الظهور
سوف نتحدّث عن قاعدة الظهور ضمن النقاط التالية :
1 - الهدف من دراسة ظاهرة الظهور.
2 - الموضوع الذي تبحث فيه هذه الظاهرة اُصولياً.
3 - تعريف الظهور.
4 - مدى دلالة الظهور.
5 - الدليل على حجيّة الظهور.
6 - اُنموذج تطبيقي.

1 - يهدف الباحث الاُصولي من دراسة ظاهرة الظهور إلى استخلاص‏قاعدة هامّة تطبّق على ظواهر الكتاب والسنّة فقهيّاً لاستنباط الحكم‏الشرعي في ضوئها.
وإذا أردنا أن نستخدم لغة هذا العلم نقول : إنّ الغاية من إثبات حجيّةالظهور ، هي : تنقيح كبرى تصدق على صغرياتها من ظواهر الألفاظ ،وسيتّضح هذا أكثر في عرضنا للاُنموذج التطبيقي.
وإليه يشير اُستاذنا الشهيد الصدر بقوله : (( معنى حجيّة الظهوراتّخاذه أساساً لتفسير الدليل اللفظي على ضوئه))(2).
وتسمّى - كما رأينا - قاعدة الظهور ، وحجيّة الظهور.
وتعرف أيضاً ب ( أصالة الظهور ) ، (( لأنّها تجعل الظهور هو الأصل‏لتفسير الدليل اللفظي ))(3).
2 - ومحلّها من موضوعات علم اُصول الفقه هو موضوع دلالة ظواهرالكتاب الكريم وموضوع دلالة ظواهر السنّة الشريفة.
يقول اُستاذنا المظفّر : (( إنّ البحث عن حجيّة الظواهر من توابع البحث‏عن الكتاب والسنّة ، أعني انّ الظواهر ليست دليلاً قائماً بنفسه في مقابل‏الكتاب والسنّة ، بل إنّما نحتاج إلى إثبات حجيّتها لغرض الأخذ بالكتاب‏والسنّة ، فهي من متممات حجيّتهما ، إذ من الواضح انّه لا مجال للأخذ بهما دون أن تكون ظواهرهما حجّة ))(4).
3 - لكي نتعرّف معنى الظهور لابدّ لنا من تعرّف مدى دلالة اللفظ على‏معناه ، وهذا يقتضينا أن نقسّم الدلالة - هنا - إلى الأقسام الثلاثة التالية :
أ - الدلالة العلميّة ( القطعيّة ).
ب - الدلالة الظنّية.
ج - الدلالة الاحتمالية.
ذلك انّ اللفظ بحسب دلالته لغوياً أو اجتماعياً على معناه ينقسم إلى‏قسمين :
أ - ما يدلّ على معنى واحد فقط.
واصطلح عليه الاُصوليون بأن سمّوه بـ ( النص ).
وعرّف ( المعجم الوسيط )(5) النصّ بـ (( ما لا يحتمل إلّا معنى واحداً ، أولايحتمل التأويل )).
ومن الطبيعي انّ دلالة مثل هذا اللفظ هي دلالة علميّة قطعيّة.
ولأنّها تفيد القطع ، والقطع حجيّته ذاتية - كما يعبّر الاُصوليون - لانحتاج إلى إقامة الدليل على حجيّتها.
ب - ما يدلّ على أكثر من معنى.
ويقسّم باعتبار تنوّع المعنى المدلول عليه إلى قسمين :
1 - فقد يكون المعنى المدلول عليه واضحاً بيّناً لا يحتاج في حمل اللفظعليه إلى تأويل.
وسمّاه الاُصوليون ب( الظاهر ) ، لأنّه المعنى الواضح البيّن من إطلاق‏اللفظ.
ولكن ، لأنّ اللفظ كما يدلّ عليه يدلّ على معنى آخر محتمل إرادته من قبل‏المتكلّم تكون دلالته ظنّية ، لأنّها الراجحة بالنسبة إلى الدلالة على المعنى‏الآخر المحتمل.
2 - وقد يكون المعنى المدلول عليه غير واضح ولا بيّن ، وإنّما يحتاج‏في صرف اللفظ إليه إلى مؤنة تأويل.
وسمّي في بعض الكتب الاُصولية ب ( المؤوّل )لافتقاره في فهمه من‏إطلاق اللفظ إلى التأويل.
ولأنّ صرف اللفظ في الدلالة يفتقر إلى التأويل يكون مرجوحاً بالنسبةإلى‏المعنى الظاهر الراجح ، فتكون دلالته - على هذا - احتمالية.
ونخلص من هذا إلى انّ الظهور : يعني دلالة اللفظ على المعنى الراجح‏من المعاني المشمولة بدلالته.
4 - وعرفنا من تقسيمنا الدلالة إلى الأقسام الثلاثة المذكورة في أعلاه ،ومن تعريفنا لمعنى الظهور انّ دلالة ما يعرف بـ ( الظاهر ) دلالة ظنّية لأنّ‏معناه المعنى الراجح ، والرجحان يعني الظنّ - كما هو معلوم - .
5 - امّا الدليل لإثبات حجيّة الظهور واعتباره شرعاً ، فيتلخّص بالتالي :
أ - انّ الأخذ بالظهور اللفظي من الظواهر الاجتماعيّة العامّة التي دأبت‏جميع المجتمعات البشريّة على الاعتماد عليها في ترتيب كافّة الآثارالاجتماعيّة والقانونيّة وغيرها.
ب - لم يثبت أنّ الشرع الإسلامي حظر الأخذ بها والاعتماد عليها ، بل‏الثابت انّه سار على ما سارت عليه المجتمعات البشريّة من الأخذ بهاوالاعتماد عليها.
وقد علم هذا بالوجدان.
وهذا يعني انّ الظهور كما هو حجّة عند الناس أقاموا عليه سيرتهم‏المعروفة بـ ( سيرة العقلاء ) ، هو حجّة في الشرع الإسلامي أيضاً.
فالدليل على حجيّة الظهور - باختصار - هو سيرة العقلاء وبناؤهم ، أوما أطلقت عليه ( العقل الاجتماعي ).
6 - ولنأخذ المثال التالي كنموذج تطبيقي.
أ - أن ( أقيموا ) في قوله تعالى : ( أقيموا الصلاة )(6) أمر مجرّد من القرينةالصارفة له عن الدلالة على الوجوب ، فهو ظاهر في الوجوب.
ب - ولأنّ ( أقيموا ) ظاهر في الوجوب نطبّق عليه قاعدة الظهور ، لتأتي‏النتيجة هي وجوب الصلاة ، أخذاً بظاهر هذه الآية الكريمة واعتماداً عليه.
ومتى أردنا أن نصوغ هذا صياغة علميّة في هدي تعليمات الشكل الأوّل‏من القياس المنطقي الذي يعتمد تطبيق الكبرى على صغرياتها للوصول‏إلى النتيجة المطلوبة ، نقول :
الصغرى الكبرى النتيجة
( أقيموا ) ظاهر قرآني + وكلّ ظاهر قرآني حجّة = فأقيموا حجّة.
7 - والنتيجة التي ننتهي إليها من هذا البحث : انّ ظاهرة الظهورالاجتماعية دليل شرعي يستند إليه في استفادة الحكم الفقهي من ظواهرالقرآن الكريم والسنّة الشريفة.
ـــــــــــــــــ
الهامش
1- مصباح الأصول 11 / 2 .
2- المعالم الجديدة 121.
3- المعالم الجديدة 124.
4- اُصول الفقه 137 / 2.
5- مادّة ( نصص ).