في التاريخ الإسلامي كثيرًا من الأسماء الامعة التي نالت قدرًا عاليًا من الشهرة في شتى العلوم والمجالات المختلفة مثل الرازي وشهرته في الطب وابن خلدون وشهرته في علم الاجتماع، والشافعي وشهرته في الفقه، والزهراوي وشهرته في علم الجراحة والمتنبي وشهرته في الشعر، غير أنْ هناك الكثير ممن كانوا على القدر ذاته من الشهرة والمكانة، ولكنهم تواروا في بطون التاريخ، ولعل من هؤلاء النابغين رجلًا كان من الأكابر في صناعة الطب، وله القدم والاشتهار والذكر الشائع عند الخواص والعوام، ولم يزل مبجلًا عند الملوك وغيرهم، وكان كبير النفس عالي الهمة، كثير التحقيق حسن السيرة، محبًا للخير وأهله، شديد الاجتهاد في مداواة المرضى، رؤوفًا بالخلق، طاهر اللسان، ما عُرف منه في سائر عمره أنه آذى أحدًا ولا تكلم في عرض غيره بسوء، ذلك هو الشيخ الحكيم الإمام العالم رضي الدين أبو الحجاج يوسف بن حيدرة بن الحسين الرحبي.
مولد رضي الدين الرحبي ونشأته.. ورحلاته في طلب العلم
ولد رضي الدين الرحبي في عام 534هـ= 1140م بجزيرة ابن عمر شمال الموصل والتي تقع ضمن الحدود الجنوبية لتركيا اليوم، وكان أبوه من مدينة الرحبة التي تقع قلعتها على الضفة الشرقية من نهر الفرات شمال مدينة دير الزور السورية الآن، ونشأ محبًا ومتخصصًا في علم الكحالة (طب العيون والرمد)، وتعلم على يد والده وغيره مبادئ صنعة الطب واستهوته.
حرص رضي الدين الرحبي على النبوغ في مهنة الطب ولهذا الغرض سافر إلى الكثير من الأقطار والبلدان من أجل التعلم على أيدي كبار العلماء والشيوخ، وبدأ رحلته بسفره إلى نصيبين وتعلم على يد كبار علمائها، ومن نصيبين سافر إلى بغداد وتعلم على كبار العلماء والشيوخ بها ثم بدأ في ممارسة هذه المهنة ومهر فيها، حتى نال شهرة لا بأس بها.
ثم بعد ذلك انتقل رضي الدين الرحبي من بغداد إلى القاهرة التي مكث بها بعض الوقت، وتعلم على كبار أطبائها، ومنها انتقل إلى دمشق التي يحكمها حينذاك السلطان نور الدين محمود زنكي، وهنالك في دمشق حط رضي الدين الرحبي رحاله مع والده في عام 555هـ= 1160م.
رضي الدين الرحبي وحياته في دمشق
استهوت دمشق رضي الدين الرحبي حتى ولِهَ بها وأحبّها وقرّر المكوث فيها، فعمل في بيمارستان دمشق الذي ابتناه السلطان نور الدين محمود في سنة 1154م، وإلى جانب امتهان الطب، عكف رضي الدين الرحبي على قراءة كل ما وصلت إليه يداه من علوم الطب ونسخها بيده، كما لازم العديد من أطباء دمشق الذين تعلّم على أيديهم.
سرعان ما اشتهر رضي الدين الرحبي كأحد أكبر أطباء دمشق، حتى أنَّه اجتمع بالسلطان صلاح الدين الأيوبي الذي أطلق له في كل شهر ثلاثين دينارًا على أن يكون ملازمًا للقلعة والبيمارستان، فاستمر في مكانته مدة دولة صلاح الدين بأسرها.
وقد طلب منه السلطان صلاح الدين الأيوبي أن يكون طبيبًا خاصًا له في أسفاره لكن رضي الدين أبى، وحين توفي صلاح الدين وانتقلت السلطنة إلى أخيه الملك العادل، أبقاه على مكانته ووظيفته كبيرًا للأطباء في قلعة دمشق والبيمارستان، بل طلب منه أيضًا أن يكون طبيبًا خاصًا له، الأمر الذي رفضه رضي الدين الرحبي مرة أخرى، وطلب أن يبقى في دمشق فأطلق له، الملك العادل ما كان مقررًا باسمه في أيام صلاح الدين، وبقي على ذلك إلى أن توفي الملك العادل وملك بعده الملك المعظّم عيسى بن العادل الذي قرّر تخفيض راتبه إلى النصف ليصبح خمسة عشر دينارًا، ورغم ذلك بقي الرحبي يؤدّي مهامه في معالجة المرضى إلى أن توفاه الله.
مكانة رضي الدين الرحبي وذكائه الطبي
صار الرحبي منذ النصف الثاني من القرن السادس الهجري "شيخ الطب بالشام، له القدم والاشتهار عند الخاص والعام، ولم يزل مُبجّلا عند الملوك، وكان كبير النفس، عالي الهمّة، كثير التحقيق، حسن السيرة، محبّا للخير، عديم الأذية"، كما قال عنه العلامة الذهبي في كتابه تاريخ الإسلام.
ومن أروع الأمثلة التي تدل على ذكائه ومهارته في الطب، أنَّ صفي الدين بن شُكر وزير الملك العادل الأيوبي كان يلازم أكل الدجاج، ولا يأكل غيره من اللحوم في أكثر الأوقات، فشكا إليه شحوبًا قد غلب على لونه، وكان الأطباء يصفون له كثيرا من الأدوية فلم تنفع معه، وبعد أنْ استمع رضي الدين من الوزير صفي الدين شكوته وعرف أنه لا يأكل إلا الدجاج ولا يعدل عن غيره من اللحوم، مضى لحظة وعاد ومعه قطعة من لحم الدجاج وأخرى من لحم الضأن، ثم قال له: ينبغي أنْ تترك أكل لحم الدجاج وتلازم أكل لحم الضأن فإنك تصلح وما تحتاج معه إلى علاج، فتناول صفي الدين بن شكر ما أوصاه به واستمر على ذلك فصلح لونه واعتدل مزاجه لأن لحم الضأن يتولّد منه دمٌ متين بخلاف الدجاج.
علم رضي الدين الرحبي وتلاميذه
ظل رضي الدين الرحبي متربعًا على عرش مشيخة الطب في دمشق عقود طويلة، وقد تتلمذ على يديه كثير من الأطباء الذين صاروا ملء السمع والبصر فيما بعد، يقول ابن أصيبعة في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء" واشتغل عليه بصناعة الطب خلق كثير، ونبغ منهم جماعة عدة وأقرأوا لغيرهم وصاروا من المشايخ المذكورين في صناعة الطب، ولو أُعتبر أحد جمهور الأطباء بالشام لوجد إما أنْ يكون منهم من قرأ على الرحبي، أو من قرأ على من قرأ عليه": كما يقول رضي الدين الرحبي نفسه "إن جميع مَن قرأ عليّ ولازمني فإنهم سعدوا وانتفع الناس بهم... قد تميزوا واشتهروا في صناعة الطب، منهم مَن قد مات، ومنهم مَن كان بعدُ في الحياة".
وفاة رضي الدين الرحبي
عاش رضي الدين الرحبي سبعًا وتسعين سنة، وقد توفي يوم عاشوراء المحرم سنة 634هـ= 1236م، بعد أنْ مرض لمدة شهر، ولكن مرضه لم يؤثر على شيء من سمعه وبصره، وإنما كان في الآخر يعتريه نسيانٌ للأشياء القريبة العهد المتجددة، وقد ترك ولدين هما شرف الدين عليًا وجمال الدين عثمان، وكلاهما طبيبٌ فاضلٌ[1].
[1] ابن أصيبعة عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق: نزار رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت، ص672- 675، والذهبي: تاريخ الإسلام، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، 46/ 90، 91، ورحاب خضر عكاوي: موسوعة عباقرة الإسلام في الطب والجغرافية والتاريخ والفلسفة، دار الفكر العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1993م، 2/ 84- 86.
قصة الإسلام