يقول ابن الأثير - رحمه الله - في فوائد التاريخ :
ولقد رأيت جماعة ممن يدعي المعرفة والدراية ، ويظن بنفسه التبحر في العلم والرواية ، يحتقر التواريخ ويزدريها ، ويعرض عنها ويلغيها ، ظنا منه أن غاية فائدتها إنما هو القصص والأخبار ، ونهاية معرفتها الأحاديث والأسمار ؛ وهذه حال من اقتصر على القشر دون اللب نظره ، وأصبح مخشلباً جوهره ، ومن رزقه الله طبعا سليماً ، وهداه صراطا مستقيماً ، علم أن فوائدها كثيرة ، ومنافعها الدنيوية والأخروية جمة غزيرة ، وها نحن نذكر شيئا مما ظهر لنا فيها ، ونكل إلى قريحة الناظر فيه معرفة باقيها .
فأما فوائدها الدنيوية فمنها :
1) أن الإنسان لا يخفي أنه يحب البقاء ، ويؤثر أن يكون في زمرة الأحياء ، فيا ليت شعري ! أي فرق بين ما رآه أمس أو سمعه ، وبين ما قرأه في الكتب المتضمنة أخبار الماضين وحوادث المتقدمين ؟ فإذا طالعها فكأنه عاصرهم ، وإذا علمها فكأنه حاضرهم .
2) ومنها : أن الملوك ومن إليهم الأمر والنهي إذا وقفوا على ما فيها من سيرة أهل الجور والعدوان ، ورأوها مدونة في الكتب يتناقلها الناس فيرويها خلف عن سلف ، ونظروا إلى ما أعقبت من سوء الذكر ، وقبيح الأحدوثة ، وخراب البلاد ، وهلاك العباد ، وذهاب الأموال ، وفساد الأحوال : استقبحوها ، وأعرضوا عنها
واطرحوها .
وإذا رأوا سيرة الولاة العادلين وحسنها ، وما يتبعها من الذكر الجميل بعد ذهابهم ، وأن بلادهم وممالكهم عمرت ، وأموالها درت ، استحسنوا ذلك ورغبوا فيه ، وثابروا عليه وتركوا ما ينافيه ، هذا سوى ما يحصل لهم من معرفة الآراء الصائبة التي دفعوا بها مضرات الأعداء ، وخلصوا بها من المهالك ، واستصانوا نفائس المدن وعظيم الممالك . ولو لم يكن فيها غير هذا لكفى به فخرا .
3) ومنها : ما يحصل للإنسان من التجارب والمعرفة بالحوادث ، وما تصير إليه عواقبها ، فإنه لا يحدث أمر إلا قد تقدم هو أو نظيره ، فيزداد بذلك عقلا ، ويصبح لأن يقتدى به أهلا .
ولقد أحسن القائل حيث يقول :
رأيت العقل عقليــن فمطبوع ومسمــوع
فلا ينفع مسمــوع إذا لـم يـك مطبـوع
كما لا تنفع الشمس و ضوء العين ممنـــوع
يعني بالمطبوع : العقل الغريزي الذي خلقه الله تعالى للإنسان ، وبالمسموع : ما يزداد به العقل الغريزي من التجربة ، وجعله عقلاً ثانيا : توسعا وتعظيما له ، وإلا فهو زيادة في عقله الأول .
4) ومنها : ما يتجمل به الإنسان في المجالس والمحافل من ذكر شيء من معارفها ، ونقل طريفة من طرائفها ، فترى الأسماع مصغية إليه ، والوجوه مقبلة عليه ، والقلوب متأملة لما يورده ويصدره ، مستحسنة ما يذكره .
وأما الفوائد الأخروية :
1) فمنها : أن العاقل اللبيب إذا تفكر فيها ، ورأى تقلب الدنيا بأهلها ، وتتابع نكباتها إلى أعيان قاطنيها ، وأنها سلبت نفوسهم وذخائرهم ، وأعدمت أصاغرهم وأكابرهم، فلم تبق على جليل ولا حقير ، ولم يسلم من نكدها غني ولا فقير ، زهد فيها وأعرض عنها ، وأقبل على التزود للآخرة منها ، ورغب في دار تنزهت عن هذه الخصائص ، وسلم أهلها من هذه النقائص .
ولعل قائلا يقول : ما نرى ناظرا فيها زهد في الدنيا ، وأقبل على الآخرة ورغب في درجاتها العليا !!
فيا ليت شعري ! كم رأى هذا القائل قارئاً للقرآن العزيز- وهو سيد المواعظ وأفصح الكلام - يطلب به اليسير من هذا الحطام ؟! فإن القلوب مولعة بحب
العاجل .
2) ومنها : التخلق بالصبر والتأسي ، وهما من محاسن الأخلاق ، فإن العاقل إذا رأى أن مصاب الدنيا لم يسلم منه نبي مكرم ، ولا ملك معظم ، بل ولا أحد من البشر : علم أنه يصيبه ما أصابهم ، وينوبه ما نابهم .
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وأن ترشد غزية أرشد
ولهذه الحكمة وردت القصص في القرآن المجيد ، ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) .
فإنْ ظن هذا القائل أن الله سبحانه أراد بذكرها الحكايات والأسمار : فقد تمسك من أقوال الزيغ بمحكم سببها ، حيث قالوا : هذه أساطير الأولين اكتتبها .
نسأل الله تعالى أن يرزقنا قلباً عقولاً ولساناً صادقاً، ويوفقنا للسداد في القول والعمل وهو حسبنا ونعم الوكيل " .