فنُّ الضبطِ عند العرب
بقلم أ.د/رياض بن حسن الخوَّام
جامعة أم القرى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
لعلي لست بعيداً عن الحقيقة إن قررت ابتداء أن كل العلوم العقلية والنقلية يسعى أهلُها إلى ضبطِها، سالكينَ الطرقَ والوسائلَ المتنوعةَ للوصول إلى ضبطِ حقائقها ومعارفِها العامة، وأعني بالضبط هنا تلك الطرقَ والوسائلَ التي تجمعُ الجزئياتِ المتفرقةَ في مكانٍ واحدٍ، ضمنَ كلياتٍ جامعةٍ، وقد تكون هذه الجزئياتُ مفرداتٍ أو تراكيبَ أو مباحثَ علمٍ كاملٍ، كما قد تكون هذه الكلياتُ الجامعةُ شعراً أو نثراً، والغايةُ من ذلك كلِّه هو حفظُ المضبوطِ بدقةٍ وإتقانٍ، وفي الحق أن معاجمَنا اللغويةَ ألمحتْ إلى فن الضبط، حين أجمعَ أصحابُها على أن الضبطَ هو حفظُ الشيء بالحزمِ حفظاً بليغاً بإحكامٍ وإتقانٍ، فإذا قالوا: ضبطَ الكتابَ فمعناه أصلحَ الكتابَ من خَلَله، أو صحَّحَه، وشكَّله، فيصيرُ الكتابُ مضبوطاً، وقالوا: إن الضأنَ إذا تضبطتْ أي نالتْ من الكلأ، قويتْ وسمنت (1)، فجمعُ ما تفرقَ من المادة العلمية في كليات هو في حقيقته حفظٌ لهذا المجموعِ، تتجلَّى قوته في استظهارِه واستدعائِه في أي حال بدقةٍ تبدو في تشكيلهِ، حفاظاً على معناه، فإذا حُفِظَ بدقة، صار المحفوظُ مضبوطاً-شكلاً ومعنى- ، وحافظُه متمكناً مثلَ الضأن الذي سمَِنَ وقوي .وفي الحق أن تعريفي ووصفي لفن الضبطِ سجلته بعد تطوافي في وسائلِهِ التي اعتمدَها علماءُ العربية وهي تتفقُ مع كل أصحاب العلوم، لأن علماءَ كلِّ علم يحرِصون على ضبطِ حقائق علمهم بمعاييرَ، ووسائل تكفل لعلمهم الضبط َالدقيق المحكم، وليس أدل على ذلك من قوانين الرياضيات وقوانين الفيزياء ومعادلات الكيمياء وقس على ذلك بقيةَ العلوم العقلية، وكذا شأنُ أهلِ العربية فقد اعتنوا بضبط علومهم ومعارفهم ضبطاً محكماً دقيقاً.
لقد وهبَ اللهُ العقلَ العربيَّ الدقةَ والإتقانَ، وحبَّ البحثِ والتفتيشِ ثم إظهارَ الفكرةِ أو الصورةِ وتقديمها بدقائقها واضحةً بينةً، والأدلة على ذلك كثيرة ّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّ َّّ من ذلك وصفُ لبيدٍ للناقة في معلقته، أو وصف امرئ القيس للمطر والسيول في شعره، فما قدمه لبيدٌ يعدُّ صورةً دقيقةً متقنةً للناقة التي وصفها فبدا بذلك رساماً ماهراً عظيماً، أما امرؤ القيس في وصفه للسيل في تيماء فظهرَ وصافاً دقيقاً متفنناً لا يترك صغيرة ولا كبيرة في هذا المشهد إلا بينه وأوضحه في أجمل صورة وأعلى بيان، ثم أليس من الدقة التفريق بين التبسم والضحك، ثم أليست لفظةُ النكتةِ التي هي في الاصطلاح "مسألةٌ لطيفةٌ أُخرجت بدقةِ نظرٍ وإمعانِ فكرٍ (2)، وأصله أن الناكتَ ينْكُتُ في الأرض بقضيبٍ وهو يفكرُ ويحدِّثُ نفسَه(3).
فلعل هذا كلَّه يؤكد لنا أن العقلَ العربيَّ كان دقيقاً جداً، ومن أهم مستلزماتِ الضبطِ الدقةُ والتروي، وهذا يعني أنه وُجد عند العربِ ما يؤهلُهم لفن الضبط ، لاسيما بعد ولادةِ علوم الشريعة والعربية، وتطورِها، وتشعبها، ونضجِهَا، فاهتم علماؤهم بهذا الفن بل أبدعوا فيه غايةَ الإبداعِ على نحو ما سنرى من صنائعهم فيه، ولقد اتسع هذا الفنُّ لأهميته، لأن العلومَ بمجملها بحاجةٍ إليه، فترى آثاره واضحة ًفي كل العلوم العقلية والنقلية ولاسيما الشرعية واللغوية. ولا ننسى ما قدمه المحدثون خاصة في هذا الفن، إذ قدموا درساً في الضبط لا نظير له فيما أحسب بين علومنا كلها.