ما زالت البلاغة مراعاة مقتضى الحال قائمةً أو قادمةً، تدور دورانَها. والحال في مقامنا هذا إما حال أديب (مرسل)، وإما حال متأدب (مستقبل)، وليس يجمل بأيٍّ منهما في حَضْرَةِ هذا الانفجار الاجتماعي الأخير (التواصل الإلكتروني)، أن يراسل الناس مثلما كان قبل حَضْرَتِهِ يفعل!
من خلال نافذة إلكترونية في مثل حجم صفحة كتاب، يسمع المتأدب ويرى ويشهد شيئا واحدا مشهودا مرئيا مسموعا، أو أشياء متعددة مشهودا بعضها مرئيا بعضها مسموعا بعضها، قد أخذ هذا من تفكيره، وذاك، وذلك؛ حتى لم يعد يستطيع -ولا يريد- أن يستغني بأحدها عن غيره، فإذا نَعَيْنا عليه ذلك بأن جسم تفكيره الواحد قد ذهب شَذَرَ مَذَرَ، رَدَّ علينا نَعْيَنَا بأنه تتجمع له بعدئذ شَذَراتُه كَرَّةً أخرى، ولكن في سبيكة رسالة عجيبة، لم تنسبك قَطُّ لصائغ!
ولقد احتاج بلوغ سبيكة الرسالة الأدبية هذا المبلغ إلى علاج طويل، لم يغب عن مراحله الأديب قَطُّ، بل كان كلما ظهرت شَذْرة جديدة من شَذَراتها هَيَّأَ لها ما عنده، لتنسبك الشَّذْرتان فالشَّذَرات، حتى انتهى إلى شَذْرة نصه هذا الأدبي القصير الذي نشتغل الآن بنقده: فإنه إذا كان في أصله مشهودًا اضطُرَّ إلى مراعاة ما سيُرى ويُسمع، وإذا كان في أصله مرئيًّا اضطُرَّ إلى مراعاة ما سيُشهد ويُسمع، وإذا كان في أصله مسموعًا اضطُرَّ إلى مراعاة ما سيُشهد ويُرى؛ فإذا نصه هذا الأدبي ثُلُث أثلاث، ثم رُبُع أرباع، ثم خُمُس أخماس، ثم هَلُمَّ جَرًّا!
كيف نتداول فيها الآن النص قصيرا، مكتوبا على مشهد خَلفيّ، تصدح معه قطعة موسيقية، ربما خالطها صوتٌ يؤدي النص؛ فلا يتيسر لنا تلقي الرسالة منها كاملة حتى يكون النص قصيرا، يزيده اضطرارًا إلى القصر أحيانا إرادةُ تحريكه على ذلك المنظر الخلفي بما يلائم المراد، ثم ينبغي أن يُراعَى في تلك السبيكة كلها ألا يزيد ثقلُها الإلكتروني فيستحيل تَداوُلُها أو يُكره!