سبق أطباء الإغريق ومن بعدهم أطباء العرب والمسلمين الطبَّ الحديث بعدَّة قرون حين عدُّوا بعض الحالات النفسيَّة أمراضًا جسميَّة، وبعض الأمراض الجسميَّة حالات نفسيَّة، وأخضعوها للتشخيص والعلاج.

وقد تجاوز هؤلاء وأولئك نظرة الحضارات القديمة إلى الأمراض النفسيَّة على أنَّها حالات ناتجة من تسلُّط الأرواح الشريرة على الجسم، وهي نظرةٌ استمرَّت في أوروبا العصور الوسطى؛ إذ كانت مُعالَجة المصابين بهذه الأمراض تتمُّ بالتقييد بالأغلال والأصفاد والمبالغة في الضرب؛ أملًا في إخراج الأرواح الشريرة من أجساد أولئك المرضى، بل إنَّهم كانوا في العصور المظلمة يلجأون إلى إحراق المرضى النفسيِّين الذين يُستعصَى شفاؤهم بدعوى استقرار تلك الأرواح فيهم.
حقَّق أطباء الإغريق نقلةً نوعيَّةً في تشخيص الأمراض النفسيَّة، وفي محاولتهم معالجتها بعيدًا عن ممارسة الكهانة والشعوذة، ومن هؤلاء: "أبقراط، وجالينو، وثيوفراستس، والإسكندر الأفروديسي"، وقد حقَّق ثيوفراستس والأفروديسي شهرةً واسعةً في ميدان الأمراض النفسيَّة، خصوصًا فيما وصفاه من كتابات عن (المالينخوليا Melancholia) أو مرض السوداء أو الاكتئاب.

وإذا كنا لا نعرف كثيرًا عن الأمراض النفسيَّة عند العرب قبل الإسلام فإنَّ بعض الأخبار المتعلِّقة بطبِّهم وفراستهم تدلُّ على معرفتهم بعض هذه الأمراض، ومحاولة علاجها، كما كان يفعل الحارث بن كلدة، وضماد بن ثعلبة الأزدي، ويُروَى في هذا الصدد أنَّ أحد الأمراء اضطربت نفس زوجته، وعجز الأطباء في بلاده عن علاجها، وتبيَّن للطبيب العربي بعد المعاينة الدقيقة أنَّ مرض المرأة يُمكن علاجه بالحيلة والإيحاء، فوصف لها دواءً، وعزلها في قصرٍ وحدها، واشترط أن يقوم مساعده بالعناية بالمرأة المريضة، فرفض الأمير في أوَّل الأمر هذا الشرط، لكنَّه عاد وقبله عندما تمسَّك الطبيب العربي برأيه؛ أملًا في شفاء زوجته.

وفي اليوم التالي توجَّه مساعد الطبيب إلى المريضة في القصر، وأخذ يقوم بأعمال التدليك، فاستهجنت مهمَّته، واستجمعت قواها، وأخذت تلطم الشاب، ثم نهضت مسرعةً نحو النافذة، وأخذت تصرخ وتستغيث، فهبَّ ذووها إلى نجدتها، وكادوا يفتكون بالمساعد لولا أن طلب منهم إرساله إلى الأمير حيث كان الطبيب العربي موجودًا، وهناك كشف الطبيب عن هويَّة مساعده فإذا هي ابنته، وقال: إنَّ ما أقدم عليه كان حيلةً نفسيَّةً لشفاء الأميرة؛ فأكبر الجميع بُعْدَ نظر الطبيب العربي، وأجزلوا له المكافأة.


المسلمون وعلم النفس
واصل الأطباء العرب والمسلمون بعد ظهور الإسلام جهودهم في تطوير طبِّ الإغريق في شتَّى الميادين، ومنها الطب النفسي، وسجَّلوا في ذلك إنجازات طبِّيَّة رائعة، ويرجع ذلك في الدرجة الأولى إلى موقف الإسلام ومبادئه من العلم والعلماء، وحثِّه على طلب العلم من مصادره كافَّةً، ونظرته إلى الأمراض على أنَّها ظاهرةٌ حياتيَّةٌ طبيعيَّة، ودعوته إلى مداواتها، والتماس الشفاء منها بالأساليب الطبِّيَّة العلميَّة؛ فقد رُوِي عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثمائة حديث تتعلَّق بقواعد الصِّحَّة العامَّة، منها: «تداووا عباد الله؛ فإنَّ لكلِّ داءٍ دواء إلَّا الهرم»[1].

ومع أن الأطباء العرب والمسلمين اعتمدوا على نظريات الأمزجة والطبائع والأخلاط اليونانية، التي تقوم على أساس تحقيق التوازن والاعتدال بين وظائف الجسد وقواه من ناحية، وظروف بيئته الصحية من ناحية أخرى، إلا أنهم توصّلوا من خلال مطالعتهم وأبحاثهم وتجاربهم إلى نتائج فاقت تلك التي توصّل إليها الإغريق، بل صحّحوا كثيرًا منها.

ومن استقرائنا تاريخ العلوم الطبية، ومؤلفات التراث العربي، وجدنا أن علم النفس تشكّل في التراث الإسلامي كما تشكّلت معارف المسلمين بموجّهات الوحي، وإذا كان القرآن الكريم خاصةً يعدّ قاعدةً لجميع العلوم الإنسانية في التراث الإسلامي فإن علم النفس كان نتاجًا لجهد بشري تبلورت من خلاله موضوعات ومناهج وقيم بحثية وأطر نظرية ميّزت هذا المجال، سواء من المعارف الإسلامية الشرعية أو من اجتهادات بشرية طبية.

وقد يشكِّك بعض الباحثين في وجود علم النفس أصلًا في التراث الإسلامي؛ بسبب أنه لم يكن حينئذٍ علمًا مستقلًا قائمًا بذاته، يجتمع حوله المتخصّصون، والحقّ يُقال: إن علم النفس في التراث الإسلامي لم يكن صنعةً يجتمع عليها فئة من الدارسين، كما كان النحو صنعةً تجمع النحويين، والشعر صنعةً تجمع الشعراء، لكن ذلك ليس حجةً للتدليل على عدم وجود علم النفس في التراث الإسلامي؛ لأن هذا الأمر ينطبق على علم النفس في أيّ مرحلة تاريخية، وهذه الحقيقة لم تكن أكثر وضوحًا وجلاءً عما هي عليه اليوم؛ فقد اتّجه إلى علم النفس المعاصر علماء من تخصّصات متفرّقة قد لا يجمع بينها جامع سوى شمولية المعرفة، ويواجه علم النفس المعاصر أزمة هوية، بالمستوى نفسه الذي واجهها به علم النفس في التراث الإسلامي، ومع ذلك يتمتّع بنوع من التماسك الداخلي يمنع تفكّكه إلى علوم نفسية متعددة.

شمل علم النفس الإسلامي -كما نجد تجلِّيَّاته عند مختلف العلماء والمفكِّرين المسلمين- موضوعات كثيرة، أهمها: بيولوجيا السلوك، والوظائف الذهنيَّة، والنمو والدوافع، والشخصيَّة والصحَّة النفسيَّة، وسيكولوجيا الاجتماع، بل -بالإضافة إلى ذلك- هو علم نفس من حيث مناهجه؛ إذ استخدم علماء التراث المناهج التي تُسمَّى معاصرةً في هذا العلم؛ كالاستبطان، والملاحظة، ودراسة الحالة، والمنهج التجريبي الذي استكمل لدى بعضهم عناصره كافَّةً التي نعرفها اليوم من فرضيَّات وتحكُّم ورصد النتائج وتفسيرها.

والحقيقة أنَّنا لا يُمكن أن نُنْكر أنَّ الدراسات النفسيَّة في التراث الإسلامي لم تكن مجموعةً في مجال معرفي واحد، كما هو معروفٌ اليوم باسم (السيكولوجيا)، لكن هذا العلم توزَّع بين المؤلَّفات التراثيَّة المعنيَّة بأسس السلوك البيولوجيَّة، والكتب النفسية والفيزيائية والرياضية، أو ما يُعرف اليوم بـ(السيكوفيزياء)، بالإضافة إلى مؤلَّفات المتصوِّفة، وكتب اللغة وفقهها، وغيرها.

عالج علماء التراث الظاهرات النفسيَّة كلٌّ من زاوية اهتمامه العلمي، لكنَّهم دون استثناء عالجوها على وعيٍ تامٍّ بأنَّها وظائف وعمليَّات وعلاقات في النفس الإنسانيَّة، وقد يُصادف أن يجمع العالم التراث في النفس عبر صفةٍ، فتتَّسع معالجاته القضايا النفسيَّة بقدر تنوُّع اهتماماته؛ فمنهم مَن عالج الإحساس والإدراك والتعلُّم وبيولوجيا السلوك في كتابٍ واحدٍ مثل [ابن سينا]، ومنهم مَن جمع علم كلِّ ذلك (النمو) مثل [ابن طفيل]، ومنهم مَن اهتمَّ بالإدراك والتعلُّم والدافعيَّة والوظائف الوجدانيَّة مثل [الغزالي]، ومنهم مَن تخصَّص في فرعية سيكولوجيَّة دقيقة مثل [ابن الهيثم] في البصريَّات.

ويتضمَّن التراث الإسلامي في مجال الدراسات النفسيَّة دُررًا لم يُكشَف عن كثيرٍ منها إلى الآن، وما ظهر منها ينطوي على قيمة كبرى من الناحية العلميَّة، وقد أثَّرت دراسات ابن سينا والفارابي والغزالي وغيرهم تأثيرًا كبيرًا في علماء الغرب، خصوصًا في بداية النهضة الغربيَّة الحديثة.


تأثير ابن سينا في علماء الغرب
لابن سينا قصيدة طويلة مشهورة في النفس وارتباطها بالبدن، ودراسات كثيرة منفصلة عن مؤلَّفاته الكبرى، وهو ما كان له تأثيرٌ كبيرٌ في دراسات فلاسفة الغرب وعلمائه، وفي مقدِّمتهم ديكارت.
وكانت لابن سينا دراسةٌ مهمَّةٌ في مجال الإدراك النفسي، والعلاج النفسي، والتخيُّل، والانفعالات، وغيرها، وهي دراساتٌ تُرجمت إلى اللغة اللاتينيَّة الأوروبِّيَّة الحديثة.
وقد اهتمَّ ابن سينا بالنفس منذ شبابه؛ إيمانًا تامًّا منه بأنَّه مَن عرف نفسه فقد عرف ربَّه، وألَّف كتابًا سمَّاه (رسالة في النفس).
وعالج ابن سينا ما نُطلق عليه اليوم (الإدراك الحسي)، وأوضح كيف يُؤدِّي الخيال عنده دورًا مهمًّا في عمليَّة الإدراك الحسي؛ لأنَّه هو الذي يفصل الصورة عن المادَّة، وعن طريقه يُمكن الوصول إلى الكلِّيَّات؛ فنستعين بالخيال للارتفاع من الجزئيَّات المدركة إلى الكلِّيَّات المتعقِّلة.


الأمراض النفسجسمية
لم يقتصر ابن سينا على معالجة الإدراك الحسي والتخيُّل، لكنَّه عالج موضوعات مهمَّة من موضوعات علم النفس الحديث، وهي الانفعالات؛ مثل: (الضحك، والتعجُّب، والبكاء، والخجل)، وسمَّاها (الأحوال النفسيَّة)، وهي خصائص للنفس دون البدن.

وعالج ابن سينا موضوعًا من أحدث موضوعات علم النفس، وهو موضوع الأمراض النفسيَّة الجسميَّة أو النفسجسميَّة Psychosomatic Medicine (السيكوسوماتيك)؛ أي: الأمراض الجسميَّة التي ترجع أسبابها إلى أصول نفسيَّة، وأورد في كتابه (القانون) العواملَ التي تشفي المريض بالعشق، وذكر فيه تجارب كثيرة أجراها لعلاج بعض المصابين بالأمراض النفسيَّة.

وتابع كثيرٌ من العلماء والمفكِّرين المسلمين هذا الاتِّجاه السينوي في تناول تلك الأمراض النفسجسميَّة وشرحها وتحليلها؛ فيذكر الطبيب ابن العباس المجوسي (تُوفِّي سنة 384هـ) في كتابه (الكامل في الصناعة الطبِّيَّة) بعض النصائح التي تقي الإنسان شرَّ الأمراض النفسيَّة والجسميَّة على حدٍّ سواء، منها: بُعد الإنسان من الغمِّ، وألَّا يغضب، أو يكثر من الهمِّ والفكر، أو يحسد؛ فإنَّ ذلك كلَّه ممَّا يُغيِّر مزاج البدن، ويعمل على إنهاكه، وإضعاف الحرارة الغريزيَّة، ومَن كان مزاجه حادًّا فإنَّ هذه الأعراض تُولِّد الحميات الرديئة؛ كحمَّى الدق، وقرحة السل، وما يجري هذا المجرى؛ لذلك ينبغي أن يتجنَّب الإنسان الأعراض النفسيَّة كلَّها، وأن يُلْهِم نفسه الفرح والسرور؛ فإنَّهما يُقوِّيان الحرارة الغريزيَّة ويُحرِّكانها على ظاهر البدن، ويزيدان من النشاط، ويُقوِّيان النفس.

وعالج أبو نصر الفارابي -أيضًا- في دراسته المشهورة (آراء أهل المدينة الفاضلة) السمات النفسيَّة والاجتماعيَّة التي يجب أن تتوافر للقائد أو رئيس المدينة، كما عالج أحد الموضوعات المهمَّة في علم النفس الاجتماعي، وهو موضوع الأسس النفسيَّة لتماسك الجماعة.


أثر الحالة النفسية في أجهزة الجسم
سنجد كثيرًا من العلماء والمفكرين المسلمين يُعالجون موضوعات الطبِّ النفسي في علاقتها بالجسم وأمراضه، وقد أدرك الطبُّ العربي آثار الحالة النفسيَّة للإنسان في وظائف أجهزة الجسم المختلفة؛ فالحالة النفسيَّة في الانقباض، والفرح، والهم، والغم، والخجل، تُؤثِّر تأثيرًا مباشرًا في سلوك الإنسان، وقد تُؤدِّي إلى الجنون وفقدان العقل والأمراض النفسيَّة الشديدة التي يحتاج علاجها إلى بحثٍ دقيقٍ وعميق، وهو ما فعله الأطباء العرب المسلمون، وطبَّقوه في أقسام الأمراض العقليَّة في البيمارستانات؛ إذ فطنوا إلى ضرورة تخصيص أمكنة خاصَّة لمعالجة أصحاب الأمراض العقليَّة، فكان يُخصَّص لهم قسمٌ في كلِّ بيمارستان، يتلقَّى فيه المريض عنايةً خاصَّةً من أطباء حاذقين ومهرة في فنون العلاج النفسي.


التطبيقات العملية للطب النفسي الإسلامي
أخذ علم النفس المعاصر مدَّة طويلة من الزمن حتى نال الاعتراف العلمي والشعبي -أيضًا- بعد تحوُّله من النظريَّة إلى الممارسة العمليَّة. ويستطيع المهتمُّ بهذا المجال الكشف عن أسبقيَّة التطبيقات العمليَّة لعلم النفس لدى العلماء العرب المسلمين؛ إذ عالج هؤلاء العلماء كثيرًا من الحالات منذ قرونٍ مضت بأساليب تعدُّ من نتاج علم النفس المعاصر. ومن أهمِّ علماء النفس المسلمين الذين عالجوا بعمقٍ شديدٍ موضوعات تخصُّ علم النفس والطب النفسي العالم ابن سينا.

على الرغم من متابعة ابن سينا أرسطو في بعض جوانب معالجاته للنفس من حيث تعريفها بأنَّها «كمال أوَّل لجسم طبيعي آلي»، أو تقسيمه قوى النفس أو وظائفها إلى: نفس نباتيَّة أو حيوانيَّة، وناطقة. وتقسيمه وظائف العقل إلى: عقل عملي، وآخر نظري، وتقسيمه القوى النفسانيَّة المدركة وغيرها من الموضوعات التي تخصُّ النفس الإنسانيَّة، إلَّا أنَّنا نجد له تميُّزًا من فكر أرسطو الفلسفي والنفسي في كلِّ الموضوعات السابقة بشكلٍ أو بآخر، ويزداد هذا التميُّز في بعض الموضوعات، خصوصًا تلك التي نحا فيها منحًى علميًّا تجريبيًّا في معالجاته النفس، وتناوله قواها ووظائفها وخصائصها، وتوظيفه بعض الحقائق والمناهج العلميَّة في العلاج النفسي؛ فقد استطاع بحدَّة ذكائه، ودقَّة ملاحظته، أن يصل إلى معرفة طبيعة عمليَّة الارتباط الشرطي Conditioning قبل أن يكتشفها بافلوف الفسيولوجي الروسي في العصر الحديث نتيجة البحوث التجريبيَّة التي قام بها، وهو تفسير لم يصل إليه علماء النفس المحدثين إلَّا في أوائل القرن العشرين.

كما استطاع ابن سينا قياس الانفعال على أساس قياس التغيُّرات الفسيولوجيَّة التي تحدث مصاحبةً للانفعال قبل علماء الفسيولوجيا المحدثين، وهو ما سنتبيَّنه في علاجه أحد مرضاه من (حالة عشق) شديد، وهو الأساس العلمي نفسه الذي يُستخدم في جهاز كشف الكذب، والطريقة العلميَّة نفسها التي يتبعها المعالجون النفسانيُّون المعاصرون.

كما وصل ابن سينا في دراسته الأحلام إلى كثيرٍ من الحقائق التي سبق بها العلماء المحدثين، خصوصًا دور الأحلام في إشباع الدوافع والرغبات التي سيقول بها سيجموند فرويد في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي؛ لذلك فليس غريبًا أن يُعَدَّ ابن سينا طبيبًا نفسانيًّا من الطراز الأوَّل، لا يقلُّ في براعته واشتهاره عن براعته في فروع الطب الأخرى، من العلاجي أو الوقائي أو الصيدلي.

اتَّخذ ابن سينا التحليل النفسي أسلوبًا جديدًا من أساليب العلاج الطبي، ومارسه ممارسة ناجحة أكسبته شهرةً واسعةً في عصره، وتدلُّ أساليبه في ذلك على أنَّه كان على درجةٍ كبيرةٍ من الخبرة بعلم النفس، وقد ربط في فلسفته -خصوصًا في كتابه (القانون)- بين الطبِّ وعلم النفس، فاستغلَّ علم النفس، وهو جزء من الفلسفة آنذاك، في التطبيب، ويذهب النفسيُّون في عصرنا هذا إلى أنَّ الغرض من التحليل النفسي هو الوصول إلى ما يتكوَّن في العقل الباطن، ثم العمل على إخراج هذه المكوِّنات إلى العقل الظاهر، والحكمة في ذلك تخفيف الضغط على النفس، وبذلك يُمكن أن يتخلَّص المريض من أمراضه العقليَّة أو النفسيَّة.

ومن المعروف الآن أنَّ فرويد يذهب إلى أنَّ العقل الباطن يتكوَّن من مجموعةٍ من الرغبات الشخصيَّة المكبوتة المودعة في أعماق النفس منذ الطفولة، ثم أُرْغِمت على الانتقال من الناحية الشعوريَّة إلى الناحية اللاشعوريَّة؛ فلم تجد لها مأوًى إذ ذاك إلَّا في حظيرة العقل الباطن.

أمَّا السبب في هذا الانتقال، فيرجع إلى أنَّ هذه الرغبات المكبوتة، وتلك الذكريات، لا تلائم الحياة الاجتماعيَّة، ولا تتَّفق مع آداب المجتمع وتقاليده.

والتحليل النفسي بهذا المعنى الذي يشرحه فرويد لم يكن غريبًا على ابن سينا؛ فقد كان على علمٍ به؛ إذ اتَّخذه طريقة من طرائق العلاج، حتى اشتهر في عصره بقدرته العظيمة على معالجة المرضى بطريقة التحليل النفسي؛ فقد أُصيب في يومٍ ما رجلٌ بمرض (المالينخوليا)، واستبدَّ به المرض إلى درجةٍ جعلته يعتقد أنَّه أصبح بقرة؛ لذلك امتنع عن الطعام والشراب مع بني الإنسان، ونتيجةً لذلك أخذ الرجل يُقلِّد الأبقار، فيخور مثلها، ويذهب إلى الإقامة بحظائرها، ويتناول الأكل معها.

استمرَّ الرجل على هذا النحو زمنًا حتى ضعفت قواه، وهزل جسمه، وشحب لونه، فعرضه ذووه على الأطباء، لكنَّهم عجزوا عن علاجه. وكان ابن سينا آنئذٍ قد طار صيته في الآفاق، وعُرِف بتطبيب مرضى العقول، فلمَّا عُرِض عليه هذا الرجل، وفحص عن حاله، قال له: ما بالك أيُّها الرجل؟ وما الذي حلَّ بك؟ فقال المريض: ليس بي شيءٌ إلَّا أنَّني أصبحتُ بقرةً تخور، آكل ما تأكل، وأفعل ما تفعل، فقال ابن سينا: إذا كنت حقًّا كذلك، وأنت بقرةٌ بالفعل، فإنِّي سأذبحك، فقال المريض: افعل ما تشاء؛ فإنِّي بقرة.

فأمر ابن سينا بتقييد المريض بحبلٍ متين، وألقاه على الأرض، وأحضر سكِّينًا حادًّا، ثم تقدَّم إلى المريض، وأراد أن يهوي بالسكين على رقبته، لكنَّه عندما قرَّب السكين من نحره قال: ما بال هذه البقرة هزيلة ضعيفة، إنَّها لا تصلح للذبح. فقال المريض: إنَّها تصلح للذبح فاذبح. فقال ابن سينا: كلَّا، لا نذبحها حتى تمتلئ شحمًا ولحمًا. فقال المريض: وماذا أفعل حتى أصير كذلك؟ فقال ابن سينا: تأكل وتشرب كما يأكل الناس ويشربون. فقال المريض: أوتذبحني بعد ذلك؟ قال ابن سينا: نعم، ثم أخذ الرجل على نفسه عهدًا وميثاقًا ليفعلنَّ ذلك، وأخذ يأكل ويشرب كما يفعل الناس، فعادت إليه صحَّته، وقوي جسمه، وبذلك ارتدَّ إليه عقله، وزايله المرض، وشفي تمامًا. ثم زار ابن سينا بعد ذلك، فلمَّا رآه سليم الجسم والعقل قال له مداعبًا: ما بال البقرة قد سمنت؟ قال: نعم، وقد أصبحت عاقلة.

لذلك يقول قدري حافظ طوقان في كتابه (تراث العرب العلمي في الرياضيَّات والفلك): «درس ابن سينا الاضطرابات العصبيَّة، وعرف بعض الحقائق النفسيَّة والمرضيَّة عن طريق التحليل النفسي، وكان ابن سينا يرى أنَّ للعوامل النفسيَّة والعقليَّة؛ كالحزن والخوف والقلق والفرح وغيرها، تأثيرًا كبيرًا على أعضاء الجسم ووظائفه؛ ولهذا لجأ إلى الأساليب النفسيَّة في معالجته لمرضاه».

وإذا أردنا أن نتبيَّن تلك الظواهر النفسيَّة التي عالجها ابن سينا، وتوصَّل فيها إلى حقائق وقوانين تشبه تلك التي وصل إليها علماء النفس المحدثون، فسنجد أنَّه عرف التكيُّف، وظاهرة الحجب؛ فهو يذهب إلى أنَّ المحسوس الخارجي -أي: المؤثِّر الحسي- الشديد أو المتكرِّر يُحدِث في أعضاء الحواس الخارجيَّة أثرًا يستمرُّ بعض الوقت ويصعب معه أن تحسَّ بشيءٍ آخر، يقول ابن سينا: «المحسوسات الشاقَّة والمتكرِّرة تُضعِف الحس، وربَّما أفسدته؛ كالضوء للبصر، والرعد الشديد للسمع، ولا يقوى الحسُّ عند إدراك القويِّ على إدراك الضعيف؛ فإنَّ المبصر ضوءًا عظيمًا لا يبصر معه ولا عقبه نورًا ضعيفًا، والسامع صوتًا عظيمًا لا يسمع معه ولا عقبه صوتًا ضعيفًا، ومن ذاق الحلاوة الشديدة لا يحسُّ بعدها بالضعيفة». ويصف ابن سينا في هذه العبارات ظاهرة سيكولوجيَّة تناولتها الدراسات الفسيولوجيَّة والسيكولوجيَّة الحديثة، وهي ظاهرة (الحجب Masking)، ويُلاحَظ أنَّ أرسطو أشار أيضًا -دون توسُّع- إلى هذه الظاهرة.

وأشار ابن سينا -أيضًا- إلى ظاهرة (التكيُّف الحسِّي Sensory Adabtion)، وهي ضعف الحساسيَّة باستمرار التنبُّه الحسِّي، يقول ابن سينا: «القوى الداركة يعرض لها من إدامة العمل أن تكلَّ؛ لأجل أنَّ الآلات تكملها إدامة الحركة».


تفسير الأحلام سيكولوجيًّا
أشار ابن سينا إلى بعض الأسباب المهمَّة في حدوث الأحلام، التي تناولها علماء النفس المحدثون فيما بعد بالدراسة، ووصلوا فيها إلى نتائج مهمَّة تؤيِّد ما سبق أن قال به ابن سينا من قبل؛ فقد ذكر أنَّ بعض الأحلام تحدث نتيجة تأثير بعض المؤثِّرات الحسِّيَّة التي تقع على النائم، سواءٌ أكانت هذه المؤثرات الحسِّيَّة صادرةً من الخارج أم من داخل البدن، قال ابن سينا: «ومَن عرض لعضوٍ منه أن سخن أو برد بسب حرٍّ أو بردٍ، حُكِي له أنَّ ذلك العضو منه موضوعٌ في نارٍ أو ماءٍ بارد». ودلَّت البحوث التجريبيَّة الحديثة على صحَّة ما ذهب إليه ابن سينا من أنَّ للمؤثِّرات الحسِّيَّة التي تقع على النائم تأثيرًا في حدوث الأحلام، وأكَّد كلٌّ من: موري، وهرفي دي سان دنيس، وويجادند، أنَّ للإحساسات الخارجيَّة تأثيرًا في الأحلام؛ فمثلًا: قد يحلم النائم الذي بجانبه ضوءٌ أنَّه يُشاهد احتراق شيءٍ ما.


ابن سينا سَبَق فرويد
أشار ابن سينا -أيضًا- إلى دور الأحلام في إشباع الدوافع والرغبات؛ فإذا كان مزاج البدن في حالةٍ ما من شأنها أن تحدث نزوعًا إلى شيءٍ ما قامت المخيلة بمحاكاة الأفعال التي من شأنها أن تُشبع هذا الدافع، يقول ابن سينا: «مثلما يكون عندما تتحرَّك القوى الدافعة للمنيِّ إلى الدفع إلى المتخيِّلة تُحاكي صورًا من شأن النفس أن تميل إلى مجامعتها، ومن كان به جوعٌ حُكيَت له مأكولات»، وبذلك يكون ابن سينا قد سبق فرويد في تفسير بعض الأحلام بأنَّها إشباع الدوافع والرغبات.

وأشار ابن سينا في دراسته الأحلام إلى ظاهرة طبِّيَّة مهمَّة، وهي أنَّ بعض الأحلام ينشأ عن بعض التغيُّرات في مزاج البدن، أو عن بعض الإحساسات البدنيَّة الداخليَّة التي يُمكن أن يُستدلَّ منها على حالات مرضيَّة، أو على بداية ظهور حالات مرضيَّة خاصَّة ستظهر في المستقبل. واهتمَّ بعض الباحثين بدراسة هذا الموضوع، وبيَّنوا وجود أدلَّةٍ كثيرةٍ على علاقة الأحلام بالأمراض ودلالتها عليها.


التذكُّر والكفُّ الرجعي
يُفرِّق ابن سينا حين يتحدَّث عن (الحافظة الذاكرة) بين مفهومي الذكر والتذكُّر؛ فالذكر هو الاستعادة التلقائيَّة للصور والمعاني، وهو يحدث في الحيوان والإنسان، أمَّا التذكُّر فهو الاستعادة الإراديَّة للصور والمعاني، وهو خاصٌّ بالإنسان وحده.

وأشار ابن سينا إلى وجود فروقٍ كبيرةٍ بين الناس في قوَّة الذاكرة والتذكُّر، كما ناقش أسباب النسيان، واستطاع بدقَّة ملاحظته أن يصل إلى تفسيرٍ علميٍّ لم يصل إليه علماء النفس المحدثون إلَّا في القرن العشرين؛ فقد كانوا يُفسِّرون النسيان بأنَّه راجعٌ إلى زوال الآثار التي يتركها التعلُّم السابق نتيجة عدم الاستعمال، واستمرَّ هذا التفسير شائعًا مدَّةً طويلةً حتى قام جينكنز ودلنباخ عام 1924م بدراسة تجريبيَّة بيَّنت أنَّ النسيان لا يحدث بسبب مجرَّد مُضيِّ الزمن دون استعمال المعلومات؛ وإنَّما يحدث بسبب كثرة نشاط الإنسان وانشغاله بأمورٍ كثيرةٍ تُؤدِّي إلى تداخل معلوماته الجديدة وتعارضها مع معلومات سابقة، وسُمِّيت هذه الظاهرة بـ(التداخل الرجعي Retroactire Interference، والكف الرجعي Retroactire inhibition). وبيَّنت بعض الدراسات التجريبيَّة الحديثة أنَّ النسيان قد يحدث -أيضًا- نتيجة تداخل المعلومات السابقة مع المعلومات الحديثة، وسُمِّيت هذه الظاهرة بـ(التداخل اللاحق Proctive interence).

وقد سبق ابن سينا علماء النفس المحدثين في تفسير النسيان بسبب تداخل المعلومات؛ فهو يقول في هذا الصدد: «أكثر مَن يكون حافظًا هو الذي لا تكثر حركاته، ولا تتفنَّن هممه، ومَن كان كثير الحركات لم يتذكَّر جيِّدًا… ولذلك كان الصبيان مع رطوبتهم يحفظون جيِّدًا؛ لأنَّ نفوسهم غير مشغولةٍ بما تشتغل به نفوس البالغين، فلا تذهل عمَّا هي مقبلةٌ عليه بغيره».


الانفعالات والتغيُّرات الفسيولوجيَّة
يذهب ابن سينا إلى وجود علاقةٍ وثيقةٍ بين النفس والبدن؛ فالتغيُّرات في الحالات النفسانيَّة التي تحدث في حالات الانفعال مثلًا تُصاحبها أو تتبعها تغيُّرات في الحالة البدنيَّة، يقول ابن سينا: «جميع العوارض النفسانيَّة يتبعها أو يُصاحبها الروح، إمَّا إلى خارج، وإمَّا إلى داخل… والحركة إلى خارج إمَّا دافعة كما عند الغضب، وإمَّا أوَّلًا فأوَّلًا كما عند اللَّذَّة وعند الفرح المعتدل، والحركة إلى داخل إمَّا دفعة كما عند الفزع، وإمَّا أوَّلًا فأوَّلًا كما عند الحزن»..

ويعني ابن سينا بذلك حركات الروح وحركات الدم، وهو يُشير هنا إلى ما أثبتته البحوث الحديثة من أنَّ الانفعال تُصاحبه تغيُّرات فسيولوجيَّة كثيرة، من أهمِّها ما يحدث من تغيُّرات في الدورة الدمويَّة؛ إذ تزداد سرعة خفقان القلب وشدَّته، وتنتج من ذلك زيادة كميَّة الدمِّ التي يُرسلها القلب إلى أجزاء البدن، وتنقبض الأوعية الدمويَّة الموجودة في الأحشاء، وتتَّسع الأوعية الدمويَّة الموجودة في الجلد والأطراف؛ لذلك يشعر الإنسان عند الغضب بالحرارة تتدفَّق في وجهه وبدنه، ويحمرُّ وجهه.

ويُلاحظ كذلك أنَّ الإنسان في حالة الفزع الشديد يصفرُّ وجهه بسبب حركة دمه إلى الداخل، وهو ما عبَّر عنه ابن سينا بقوله: «والحركة إلى داخل إمَّا دفعة كما عند الفزع». وأشار ابن سينا في عبارته «جميع العوارض النفسانيَّة يتبعها أو يصاحبها الروح» إلى مشكلةٍ شغلت علماء الفسيولوجيا وعلماء النفس المحدثين، وهي: هل الشعور بالانفعال والتغيُّرات الفسيولوجيَّة المصاحبة له يحدثان معًا في الوقت نفسه أو أنَّ أحدهما يسبق الآخر؟ فقد ذهب كانون وبارد في العصر الحديث إلى أنَّ الشعور بالانفعال يحدث في الوقت نفسه الذي تحدث فيه التغيُّرات الفسيولوجيَّة والعضليَّة.

وقد أبدى ابن سينا رأيه في هذه المشكلة قبل أن تُثار في العصر الحديث، فذكر في الإجابة عنها احتمالين: أحدهما هو أنَّ الانفعال يحدث مصاحبًا للتغيُّرات الفسيولوجيَّة، وهو ما قال به كلٌّ من كانون وبارد، والثاني أنَّ الانفعال يحدث أوَّلًا، ثم تتبعه التغيُّرات الفسيولوجيَّة، وهو ما لا يقول به أحدٌ من علماء الفسيولوجيَّة والنفس المحدثين.
واستفاد ابن سينا بما يحدث من تغييرٍ في سرعة النبض وشدَّته في أثناء الانفعال في علاج شخصٍ مصابٍ بحالة عشقٍ شديد؛ فقد أراد ابن سينا أوَّلًا أن يعرف الفتاة التي يعشقها هذا الشخص حتى يُمكن بعد ذلك أن يتَّخذ خطوات عمليَّة في علاجه من عشقه، وابتكر طريقةً لتحقيق غرضه؛ فكان يضع إصبعه على نبض هذا الشخص، ثم يقول له كثيرًا من أسماء الفتيات والأمكنة والبلاد والأحياء، وكان يُلاحظ ما يحدث من تغيُّرات في سرعة النبض وشدَّته عندما سمع هذه الأسماء، واستطاع بهذه الطريقة أن يصل إلى معرفة الفتاة التي يعشقها هذا الشخص.

وصنَّف ابن سينا (حالة العشق) السابقة مع أمراض عقليَّة والسبات والأرق والنسيان، وذكر أنَّ من أعراض العشق عدم انتظام النبض، وأكَّد أنَّه «أصبح من الممكن التوصُّل إلى معرفة المعشوق إذا أصرَّ أحد العاشقين على عدم الكشف عنه، وهذا الكشف هو إحدى طرق العلاج». ويُؤكِّد ابن سينا جدوى هذه الطريقة التجريبيَّة التي كرَّرها كثيرًا، وحقَّقت نجاحًا؛ إذ يقول: «استعملت هذه الطريقة مرارًا وتكرارًا، واكتشفت بذلك اسم المعشوق عند ذكر أسماء المدن والشوارع والصفة في الوقت الذي يحسُّ فيه النبض؛ فإنَّ التغيُّر يدلُّ على العلاقة بين المكان والصفة والمعشوق، وبذلك يُمكن معرفة جملة أوصافه»..

ويمضي ابن سينا قائلًا: «جرَّبنا ذلك بأنفسنا، وتوصَّلنا لمعرفة معلومات مفيدة». ومن هنا يُؤكِّد الدكتور محمد عثمان نجاتي أنَّ ابن سينا سبق المحلِّلين النفسانيِّين وعلماء النفس في العصر الحديث في الاستعانة بالتغيُّرات الفسيولوجيَّة التي تطرأ على الإنسان لمعرفة ما يُصيبه من اضطرابات انفعاليَّة، وقد استخدم بعض المحلِّلين النفسانيِّين الطريقة التي استخدمها ابن سينا، وهي نطق كلمات معيَّنة، وملاحظة ما تُحدثه هذه الكلمات من اضطراب انفعالي في الفرد، والاستدلال من ذلك على المشكلة النفسانيَّة التي يُعانيها الفرد.
سبق ابن سينا بطريقته التي قاس بها التغيُّرات التي تحدث في سرعة النبض علماء الفسيولوجيا الذين يستعينون الآن بأجهزة دقيقة الصنع لقياس التغيُّرات الفسيولوجيَّة المصاحبة للاضطراب الانفعالي، وهي أجهزة حسَّاسة دقيقة لقياس مقاومة الجلد للتيارات الكهربيَّة الضعيفة التي تحدث في أثناء الانفعال (استجابة الجلد الجلفانيَّة Galvanic Skim response)، ويُطلق عليها (أجهزة كشف الكذب)؛ بسبب كثرة استخدامها في التحقيقات الجنائيَّة.

وعالج ابن سينا -أيضًا- بعض حالات الاضطرابات العقليَّة، وذكر في كتابه (القانون) بعض حالات المرض العقلي التي عالجها، ويُمكن تتبُّعها في كتابه لمن يُريد تعمُّق أمثال هذه الحالات الإكلينيكيَّة.
المهمُّ في كلِّ هذه المعالجات عند ابن سينا -التي سبق بها العلماء المحدثين- قوله دائمًا: «جرَّبنا ذلك بأنفسنا»؛ إذ يحتكم ابن سينا إلى التجربة لتقدير صحَّة فكرة من خطئها كما يُخبرنا أبو عبيد الجوزجاني عنه.
ويقرُّ ابن سينا بأهميَّة الملاحظات السريريَّة، فيقول: «تعهَّدْتُ المرضى، فانفتح عليَّ من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يُوصَف». ومن هنا يتبيَّن لنا كيف جمع ابن سينا بين نظرة العالم الطبيعي المدقِّق وبين رؤية الفيلسوف الشاملة والعميقة، فكان منهجه العلمي يستند إلى دعائم فلسفيَّة تشترك في تكوينه: النظرة العقليَّة المنطقيَّة، والرؤية الحسِّيَّة التجريبيَّة، اللَّتان تُشكِّلان عند جمعهما وتأليفهما مَعْلمَين رئيسين لمنهجه، وهما: المـَعْلم الاستقرائي التجريبي بجميع أبعاده، والمـَعْلم الاستنباطي العقلي بكلِّ ارتساماته.


الرازي وأمراض النفس

يذكر أبو بكر الرازي (تُوفِّي سنة 320هـ= 932م) في كتابه الشهير (الحاوي) في الطبِّ كثيرًا من الإشارات إلى الأمراض النفسيَّة، فضلًا عن المعالجات التي تضمَّنها كتابه (في الأوهام والحركات والعشق)، وتبيَّن له أنَّ سوء الهضم قد يكون نتيجةً لأسبابٍ نفسيَّة؛ إذ قال: «للنفس الشأن الأوَّل فيما بينها وبين البدن من صلة؛ ولذلك وجب على طبيب الجسم أن يكون أوَّلًا طبيبًا للنفس»، وأكَّد أكثر من مرَّة أهميَّة العامل النفسي في المعالجة، فقال: «ينبغي على الطبيب أن يُوهِم المريض أبدًا بالصِّحَّة، ويُحبِّبه بها، وإن كان غير واهمٍ بذلك؛ فمزاج الجسم تابعٌ لأخلاق النفس».
وقد طبَّق الرازي ذلك عمليًّا عندما عالج الأمير "منصور بن نوح الساماني" بالعلاج النفسي بعد إصابته بمرضٍ مزمنٍ أقعده.

ومن أشهر الأمراض التي عدَّها سابقوه مستحيلة البرء، وعالجها الرازي، الأمراض العقليَّة والنفسيَّة والعصبيَّة؛ فقد فعل معها ما يفعله مع الأمراض العضويَّة من تقديم وصفٍ مفصَّلٍ للمرض يشرح فيه علاماته وأعراضه، ثم يصف له العلاج المناسب.

ومن الأمثلة على ذلك قوله في كتابه (المنصوري): «الغمُّ الشديد الدائم الذي لا يُعرَف له سبب، وخبث النفس، وسوء الرجاء، يُنذِر بالمالينخوليا»، ثم نراه يُقدِّم وصفًا بليغًا لهذا المرض في (الحاوي) فيقول: «مِن العلامات الدالَّة على ابتداء المالينخوليا حيث التفرُّد والتخلِّي عن الناس على غير وجه حاجةٍ معروفةٍ أو علَّة، كما يعرض للأصحَّاء لحبِّهم البحث والستر للأمر الذي يجب ستره. وينبغي أن يُبادر بعلاجه؛ لأنَّه في ابتدائه أسهل ما يكون، وأعسر ما يكون إذا استحكم. وأوَّل ما يستدلُّ على وقوع الإنسان في المالينخوليا هو أن يُسْرِع إلى الغضب والحزن والفزع بأكثر من العادة، ويُحبُّ التفرُّد والتخلِّي». وينصح الرازي أصحاب هذا المرض بالسفر والانتقال إلى بلدٍ آخر مغايرٍ لبلدهم في المناخ؛ فيقول في كتابه (المرشد): «إذا أزمن بالمريض المرض وطال فانقله من بلده إلى بلدٍ مضادِّ المزاج لمزاج علَّته؛ فإنَّ الهواء الدوام لقاؤه يكون علاجًا تامًّا، وقد برأ خلقٌ كثيرٌ من المالينخوليا بطول السفر». ويقول الرازي عن أعراض مرض الصرع في كتابه (المنصوري): «الكابوس والدوار إذا داما وقويا يُنْذِران بالصرع؛ فلذلك ينبغي ألَّا يتغافل عنهما إذا حدثا، وبُودِر بعلاجهما على ما ذكرنا في موضوعه».

ومن أمثلة معالجات الرازي النفسيَّة في هذا الشأن ما يقوله في (الحاوي): «استُدعِي الرازي لعلاج أمير بخارى الذي كان يشكو من آلامٍ في المفاصل، لدرجة أنَّه كان لا يستطيع الوقوف، وعالجه الرازي بكلِّ ما لديه من أدوية، ولكن دون جدوى، وأخيرًا استقرَّ الرازي على العلاج النفسي، فقال للأمير: إنَّه سوف يجري علاجًا جديدًا غدًا، ولكن على شرط أن يضع الأمير أسرع جوادين لديه تحت تصرُّفه، فأجابه الأمير.

وفي اليوم التالي ربط الرازي الجوادين خارج الحمَّام بظاهر المدينة، ثم دخل هو والأمير غرفة الحمَّام الساخنة، وأخذ يصبُّ عليه الماء الساخن، وجرَّعه الدواء، ثم خرج ولبس ملابسه، وعاد شاهرًا سكِّينًا في وجه الأمير، مهدِّدًا إيَّاه بالقتل، فخاف الأمير، وغضب غضبًا شديدًا، وسرعان ما نهض واقفًا على قدميه بعد أن كان لا يستطيع، وهنا فرَّ الرازي من الحمَّام إلى حيث ينتظر خادم الأمير مع الجوادين، فركبا وانطلقا بسرعة.

وعندما وصل الرازي إلى بلده أرسل إلى الأمير رسالةً شارحًا فيها ما حدث من أنَّه لمـَّا تعسَّر علاجه بما أوحاه إليه ضميره، وخشي من طول مدَّة المرض، لجأ إلى العلاج النفساني.. واختتم الرسالة بأنَّه ليس من اللياقة أن يُقابل الأمير بعد ذلك، فلمَّا عزم الرازي على عدم الرجوع أرسل إليه الأمير مئتي حملٍ من الحنطة، وحُلَّةً نفيسة، وعبدًا وجارية، وجوادًا مطهمًا، وأجرى عليه ألفي دينار سنويًّا».


الرازي يسبق الأوروبيين
كان الرازي سبَّاقًا إلى الاهتمام بمعالجة أصحاب الأمراض النفسيَّة؛ فسجَّل بذلك للمسلمين والعرب أروع الصفحات في تاريخ الإنسانيَّة؛ فقد كان اليونانيُّون يأمرون أهل المريض الذي يُعاني ضعفًا في قواه العقليَّة بحبسه في منزله حتى يمنعوا ضرره عن المجتمع، وكانت أوروبا في العصور الوسطى تُعامل أصحاب العلل أسوأ معاملةٍ يُعامَل بها إنسان؛ فكان هؤلاء البشر المعذَّبون يُوضعون في سجونٍ مظلمةٍ مقيَّدةً أيديهم وأرجلهم مدى الحياة، أو يُعزلون عن العالم وعن أهلهم في مستشفى السجن، أو (البيت العجيب)، أو (برج المجانين)، أو (القفص العجيب)، كما كانوا يُسمُّونها آنذاك، ويُسلَّم أمرهم إلى رجالٍ أفظاظٍ لا يعرفون إلَّا لغة الضرب والشتم والتعذيب.

وكان مبعث ذلك لدى الأوروبِّيِّين آنذاك هو الاعتقاد السائد بأنَّ هذا المريض قد لعنته السماء عقابًا له على إثمٍ ارتكبه، فأنزلت به هذا المرض، أو أنَّ شيطانًا ماكرًا ضاقت به الدنيا فحلَّ في جسم هذا المريض؛ لذلك فإنَّه يحلُّ تعذيب هذا الجسد؛ لأنَّه بمنزلة منزل شيطانٍ رجيم.
وظلَّت أوروبا على هذه الحال إلى قبيل القرن التاسع عشر الميلادي عندما طالب طبيبٌ فرنسيٌّ يُدعَى (بينل) مجلسَ الأديرة بتحرير المجانين السجناء، ووضعهم تحت عناية الأطباء ورعايتهم.


إسحاق بن عمران والمالينخوليا
كان الطبيب البغدادي الأصل، القيرواني المهجر، إسحاق بن عمران (تُوفِّي سنة 295هـ) من أشهر الأطباء المسلمين الذين تناولوا الأمراض النفسيَّة بالبحث والاستقصاء والمعالجة، وتصف كتب التراث الطبي الإسلامي رسالته (مقالة في المالينخوليا) بأنَّها لم يُسبق مثلها؛ فقد عدَّ المالينخوليا أو الاكتئاب مرضًا بدنيًّا له تأثيرٌ في صحَّة الإنسان، ووصف أعراض هذا المرض بشعور المصاب به بالكآبة والوحدة والوهم والخوف والحزن والفزع، بالإضافة إلى الأفكار الخياليَّة الرهيبة التي تنتاب المريض؛ إذ يتصوَّر أنَّ جماعةً من الزنوج يُريدون قتله، أو يتوهَّم أنَّه بلا رأس، وأنَّه يسمع صوتًا مثل خرير الماء، وقَرْع الرياح وعَصْفِها، وأصواتًا مهولةً في أذنه، وقد يفقد التمييز فيخشى من سقوط السماء على رأسه، ويتجنَّب السير تحتها، وأفاد ابن عمران أنَّ معظم المصابين بهذا المرض يَشْكُون من الأرق، ووجع الرأس، مع لمع العينين لدى بعضهم، وعزوفهم عن الطعام والشراب.
ويُعدُّ المريض الذي تظهر عليه الأعراض الأخيرة من المرضى الخطرين؛ لأنَّه يُصبح شديد النهم والتوثُّب والهياج والافتراس، وهو ما جعل الأطباء، ومنهم إسحاق بن عمران، يُسمُّون هذا النوع من الأمراض النفسيَّة بـ(المالينخوليا السبعي).
وعرض ابن عمران في مقالته معظم الحالات النفسيَّة التي تُصيب الرجال والنساء، خصوصًا عند حدوث صدماتٍ نفسيَّةٍ شديدةٍ ومتوالية، كما تناول بالتحليل حالات الذهول والاختلال الفكري التي تنتاب بعض النساء بسبب الحمل المتكرِّر أو الرضاعة الطائلة.

وأوصى بالاستعانة بالعلاج النفسي للمصابين بهذه الأمراض عن طريق الكلام الجميل المؤثِّر، والمواساة والتنزُّه، والاستماع إلى الموسيقا، واللجوء إلى الحيل المنطقيَّة والنفسيَّة، ويذكر في هذا الصدد أنَّ رجلًا أُصيب بالمالينخوليا على مقربةٍ من القيروان في تونس، وكان يتوهَّم أنَّه بلا رأس، «فأثقل ابن عمران رأسه بقلنسوةٍ من رصاص، وجعلها على رأسه في محلِّ الخوذة، فحينئذٍ صحَّ عنده أنَّ له رأسًا».

ولم يكتفِ إسحاق بن عمران بذلك، بل وصف أنواعًا أخرى من العلاج الطبيعي للمصابين بمثل هذا المرض؛ مثل: الدلك بالدهونات، والاستحمام، وتناول الأدوية والعقاقير، بل إنَّ هذا الطبيب لم يغفل الإشارة بوضوحٍ إلى أنَّ مرض المالينخوليا قد يكون مكتسبًا، وقد يكون فطريًّا؛ أي: وراثيًّا؛ إذ تكون لدى الشخص قابليَّةٌ للإصابة بهذا المرض.


أبو البركات أوحد زمانه
يُحدِّثنا صاحب (طبقات الأطباء) أنَّ هبة الله بن علي أبو البركات، من أهل القرن السادس الهجري، اشتهر بالعلوم الطبِّيَّة، ومنها الطبُّ النفسي، حتى عُرِف بأوحد الزمان في مهنته، وقد عُرِض عليه في بغداد يومًا مريضًا بالمالينخوليا حار الأطباء في علاجه؛ إذ كان يَعْتَقِدُ أنَّ على رأسه دُنًّا لا يُفارقه أبدًا، فكان كلَّما مشي تجنَّب المواضع ذات السقوف القصيرة، ويسير برفق، ولا يترك أحدًا يدنو منه حتى لا يميل الدُّنُّ، أو يقع عن رأسه، فعالجه أبو البركات بأن أوعز إلى أحد مساعديه أن ينتظر منه إشارةً يأخذ هو في محادثة المريض، وأن يُسارع عندها إلى خشبةٍ كبيرةٍ فيضرب بها فوق رأس المريض كأنَّه يُريد كسر الدُّنِّ المزعوم، وأوصى مساعدًا آخر كان قد أعدَّ معه دُنًّا في أعلى السطح أن يلقي بالدُّنِّ بسرعةٍ إلى الأرض عندما يرى ما فعله المساعد الأوَّل «فلمَّا عاين المريض ما فعل به، ورأى الدُّنَّ المنكسر، تأوَّه لكسرهم إيَّاه، ولم يشك أنَّه الدُّنُّ الذي كان على رأسه بزعمه، وأثَّر فيه الوهم أثرًا بَرِئ به من علَّته تلك».

وتُفسر حالة مريض بغداد هذه في علم النفس الحديث على أنها حالة أعراض هلاوس Halluacination (يُلاحظ هنا تأثّر المصطلح الإنجليزي للهلاوس بالتسمية العربية، ومن هذا القبيل أيضًا: Hysteria هيستريا، وHysteric هيستري، وMalancholia مالينخوليا)، وهي من الأعراض الشائعة لدى الذُّهانيين، والنادرة بين العصابيين. وتُعرّف الهلاوس بأنها مدركات حسية خاطئة؛ لأنها لا تنشأ عن موضوعات واقعية في العالم الخارجي، بل عن وضوح الخيالات والصور الذهنية ونصوعها نصوعًا شديدًا فيستجيب لها المريض على أنها وقائع بالفعل، وقد تكون هذه الهلاوس بصرية سمعية أو ذوقية أو حتى شمّية، وهي في حالتنا هلاوس بصرية. وقد استخدم أبو البركات في علاجه هذه الحالة ما يُعرف بـ(العلاج بالإيحاء)، وهي طريقة لعلاج أعراض المرض تساعد على تحرير المريض من اعتقاده الفاسد.


ثابت بن سنان وطب الأخلاق
هو حفيد أبي الحسن ثابت بن قرة الحراني (تُوفِّي سنة 288هـ)، كان أبوه سنان بن ثابت مكلّفًا ببيمارستان بغداد أيام الراضي، واعتنى بالسجون، فخصّص لها أطباء يعنون بصحة نزلائها، واهتم بـ(طب الأخلاق)، فكلّفه أحد الأمراء في زمانه بأن يتكلّف بإصلاح أخلاقه «إضافةً إلى معالجته بدنه»، فكتب له رسالةً شرح له فيها «جملة علاج ما أنكره من نفسه من صفات وأخلاق، وطلب فيها قراءتها والعمل بما فيها، وركّز في الرسالة على معالجة الغضب والغيظ بوصفهما أخطر الأمراض الخلقية بالنسبة للحاكم، ووصف العلاج على الجملة، وهو ضرورة التخلّق بضدهما: العفو، والصفح».

ويحدثنا الطبيب ثابت بن سنان عن أبيه، ومعالجته الأمير الذي لانت أخلاقه، وكفّ عن كثيرٍ مما كان يسرع إليه من القتل والعقوبات الغليظة، واستحلى ما كان يشير عليه من استعمال العدل والإنصاف ورفع الظلم والجور، وقد ألّف كتابًا في (تهذيب الأخلاق) سنة 295هـ، يذهب بـ(طبّ الأخلاق) إلى أبعد ما نجده عند جالينوس والرازي؛ فهو يتحدث في كتابه عن (علم الأخلاق)، وأحيانًا كثيرة عن (الطب النفساني) بوصفه علمًا ضروريًا، وأكثر شرفًا من الطب الجسماني نفسه، وهو لا يستعمل عبارة (الطب الروحاني) التي استعملها الرازي؛ لأن البحث في الروح هو في نظره من اختصاص الفلاسفة الذين اختلفوا في شأنها، ويتحدث عن جماع القوى الثلاث للنفس: الشهوانية في الكبد، والغضبية في القلب، والناطقة في الدماغ.

ويعطي ثابت بن سنان صورةً رائعةً ودقيقةً لما نُطلق عليه اليوم (الأمراض النفسجسمية/ السايكوسوماتية)، ويتحدث في كتابه عبر فصوله المتعددة عن الأخلاق الممدوحة والمذمومة، وعلاقة كلّ منها بالأنفس الثلاث، وعرض دور العائلة، وختم كتابه (تهذيب الأخلاق) بتوجيه نداء إلى الحكام بطلب إنشاء بيمارستان خاصّ لـ(طب الأخلاق) على غرار بيمارستان طب الأبدان، مؤكّدًا أن أمراض النفس معدية أكثر من أمراض البدن.


المشافي النفسية
تحدّثنا المصادر العربية وكتب التراث عن وجود مشافي وبيمارستانات نفسية متنوعة في المدن العربية والإسلامية كانت تفرد فيها غرف وقاعات خاصة بالمصابين بالأمراض النفسية والعصبية، ويروي المقريزي في (خططه) أن أحمد بن طولون صاحب مصر كان يزور نزلاء المستشفى أسبوعيًا، كما تذكر وقفية النوري بحلب أنه كان يخصِّص لكل مصاب بالأمراض النفسية خادمين ينزعان عنه ثيابه كل صباح، ويحمِّمانه ويلبسانه ثيابًا نظيفة، ويحملانه على أداء الصلاة، ويسمعانه قراءة القرآن من قارئ حسن الصوت، ثم يفسّحانه في الهواء الطلق، ويُسمعانه الأصوات الجميلة، والنغمات الموسيقية الطيبة. كما كانت المشافي الإسلامية تضم أقسامًا خاصةً برعاية المسنين، كُتبت على مداخلها الآية الكريمة: [وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا] (الإسراء: 24).

وتفتّق نبوغ الأطباء العرب والمسلمين عن طرائق وأساليب علمية ونفسية ناجعة في العلاج، مثلما تأتّى لهم أن يفعلوا في مضمار الطب العقلي والنفسي، والطب النفسي والجسمي (النفسجسمي Psychosomatic Medicine)، ومن ذلك استخدامهم السماع (الموسيقا والغناء) في تطبيب المصابين بضروب من الخبل أو العته، وكان المجانين وصرعى الأمراض النفسية في أوروبا في هذا الوقت يقيّدون بسلاسل الحديد، وكان العلاج الوحيد لهم هو الضرب عندما ترتفع أصواتهم بالصراخ..

ولا أدل على ذلك من أن أسامة بن منقذ (ت سنة 584هـ= 1188م) ذكر في كتابه (الاعتبار) أن الفرنجة سألوا عمّه أن يوفد إليهم طبيبًا، فبعث واحدًا نصرانيًا يُدعى ثابتًا، لم يغب غير عشرة أيام، ولما سألوه عن سبب رجوعه وشيكًا روى لهم أن الفرنجة أنكروا طبّه في علاجه امرأة أصابها نشاف؛ فقد استقدموا طبيبًا منهم، «فقال: هذه امرأة في رأسها شيطان قد عشقها، احلقوا شعرها، فحلقوه»، لكنها لم تبرأ، فقال: الشيطان قد دخل رأسها، فأخذ الموسى، وشقّ صليبًا، وسلخ وسطه حتى ظهر عظم الرأس، وحكّه بالملح، فماتت من وقتها».


العلاج بالموسيقى
ذكر إخوان الصفاء في إحدى رسائلهم أن من الموسيقا لحنًا كانوا يستعملونه في البيمارستان وقت الأسحار يخفّف ألم الأسقام والأمراض عن المريض، ويكسر سَوْرتها، ويشفي كثيرًا من الأمراض والأعلال. ويبدو أن هذا النمط في المعالجة ظل جزءًا من العلاج في البيمارستانات الإسلامية حتى العهود المتأخرة. وكان ابن سينا ينصح بالغناء والموسيقا، أو ما يُسمّى بـ(السماع)، للمصابين بآفات عقلية أو نفسية، ويُوصي بهما أيضًا في تسكين الأوجاع؛ إذ هما يُساعدان على النوم، كما يدرج في مؤلَّفاته الطبية (الموسيقا والغناء) في عداد الأدوية التي يُعالج بها الحميات؛ لذلك يذكر المستشرق فارمز أنه مما بلغ الحضارة الإسلامية ترجمة قدرة الموسيقا على الشفاء، وهو ما أثبته ابن سينا في مقالته التي كادت تذهب مثلًا في اللغة اللاتينية: Inter Omni excercitia santatis cantare Melius est؛ أي: خير تمرينات العافية الغناء، وهو قول قريب من قول إخوان الصفاء: «أمزجة الأبدان كثيرة الفنون، وطباع الحيوانات كثيرة الأنواع، ولكلٍّ مزاجه، ولكلٍّ طبيعة نغمة تشاكلها، ولحن يلائمها».

هكذا اتّضح لنا جانب من الجهود العلمية التي بذلها علماء العرب والمسلمين في ميدان الطب النفسي، ومعالجة الأمراض النفسية التي أصبحت من أمراض العصر الشائعة، وإن كانت نسبتها تظلّ في المجتمعات الإسلامية أقلّ منها في المجتمعات الغربية، ويرجع ذلك إلى طبيعة العقيدة الإسلامية، وما تكوّنه في شخصية المسلم من إيمان عميق، وتوازن نفسي، وعلاقات وطيدة راسخة بين الإنسان وربّه من ناحية، ونفسه ومجتمعه من ناحية ثانية.

د. بركات محمد مراد
مجلة فيصل العلمية.

[1] الحديث غير موجود بهذا اللفظ، وقد ورد معناه بعدة ألفاظ منها: "عن أسامةَ بنِ شَريكٍ، قال: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه كأنما على رءوسِهُم الطيرُ، فَسَلَّمتُ ثُمَّ قَعَدْتُ، فجاء الأعرابُ مِن هاهنا وهاهنا، فقالوا: يا رسولَ الله، أنتداوى؟ فقال: "تَدَاوَوْا، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يَضَعْ دَاءً إلا وضع له دَوَاءً غيرَ داءٍ واحدٍ الهرَمُ" انظر: سنن أبي داود 2/396، (3855)، وقال الألباني: صحيح، وسنن النسائي الكبرى 4/368، (7553)، وسنن ابن ماجه 2/1137، (3436)، ومسند أحمد 4/278، (18477).