سنة 1802، أعتزم القنصل الأول بونابرت أن يوزع أوسمة على جنوده، فقامت فى وجه هذا المشروع معارضة حادة: أفليس هذا عودة إلى أحدى ممارسات " النظام القديم "؟؟؟ ولكن نابليون صرف النظر عن ذلك.
وبعد أن أصبح أمبراطوراً، ترأس فى 15 تموز ( يوليو ) سنة 1804، فى " الأنفاليد "، أحتفال تسليم أوسمة جوقة الشرف. وذلك بعد قراءة هذا القسم : " أيها القادة
و الظباط و الجنود، هل تقسمون بأن تتفانوا فى خدمة الأمبراطورية ... و أن تساهموا فى الحفاظ على الحرية و المساواة، اللتين هما قاعدة مؤسساتنا. وهل تقسمون على ذلك !!! " و يهتف الجميع : " إننا نقسم على ذلك ".
حدثت الثورة، و حصل الفرنسيون على حريات جديدة و تحرر صغار الفلاحين من النير الإقطاعى و من ضرائب " العشور "، إلا أنهم أصيبوا بخيبة أمل : فعوضاً عن أن يصبحوا ملاكين صغاراً، رأو البرجوازيين أو كبار الفلاحين يستأثرون بكل الخيرات الوطنية و يشكلون ملكيات كبرى. وجميع هؤلاء، بكبارهم و صغارهم كانوا يطمحون إلى نهاية التدهور الأقتصادى و البلبة السياسة و أضطراب الأمن فى الأرياف.
ومثل هذا الجو كان ملائماً لمشاريع رجل يطمح إلى فرض نفسه. وهذا ما حاوله و توصل إليه بونابرت فى التاسع من تشرين الثانى ( نوفمبر ) سنة 1799. إذ أعلن بغير تردد أمام قواته : " ترسخت الثورة فى المبادئ التى أطلقتها : ولقد أنتهت !!! ".
وخلال الأشهر التالية، صدر بونابرت دستور العام الثامن من التاريخ الثورى. وهى يقضى بأن تكون السلطة التنفيذية فى يد " القنصل الأول " بلا منازع، مما يحجم مسؤولية القنصليين الأخرين كامباسيريس و لو برون : فله الحق وحده فى أن يعين الوزراء، أو يعلن الحرب أو يبرم المعاهدات.
و أما السلطة التشريعية فقد أضعفها قدر المستطاع : مجلس الشعب المؤلف من 100 عضو، يناقش المشاريع و لكن لا يقترع عليها، مكتفياً بالأعلان عن رفضه أو قبوله بصيغة التوصية، فى حين أن مجلس الهيئة التشريعية كان يقترع، ولكن أعضاءه الـــ300 لم يكن لهم الحق فى المناقشة. فما أبرع هذا النظام حيث من يناقشون لا يقترعون و من يقترعون لا يناقشون ! وكان يسمح للوزراء بأن يدلوا بآرائهم، ولكن " القنصل الأول " لم يكن يتقبل المعارضة، وثورات غضبه مشهورة :
فى إحدى النقاشات وجه رفسة عنيفة إلى بطن السناتور العجوز " فولى "، الذى كان ذنبه الوحيد أنه لم يوافقه الرأى ".
أن التاريخ الداخلى لعهد القنصلية، من 1799 إلى 1804، كان تاريخ إعادة تنظيم سريعة و فعالة لإدارة الأراضى الوطنية. وقبل كل شئ كان لابد من إعادة الأستقرار إلى البلاد : فمشطت الشرطة مناطق " البروفانس "، و " اللانغدوك " و وادى الرون حيث كانت تسود اللصوصية على أنواعها، ووجدت الشرطة فى كل مكان.
هذه التدابير الصارمة، سرعان ما أصبحت لا تطاق، لأنه بحجة المحافقظة على الأمن، ألقى 2500 شخص فى السجون، وبرغم هذه الإجراءات، لم تتوقف أعمال اللصوصية.
مع إن طرق المواصلات تحسنت : فقد شقت طرقات جديدة - 14 طريقاً أمبراطورية تطلق من باريس نحو الحدود، و أصلحت الطرقات القديمة. وكانت لهذه الطرقات أهمية أستراتيجية كبرى بالنسبة إلى بونابرت لأنها كانت تؤمن التحرك السريع لجيوشه.
مع إن بونابرت كان يعمل بين أثنتى عشرة ساعة و ثمانى عشرة ساعة يومياً، فإنه لم يكن يستطيع التواجد فى كل مكان. وفى المقاطعات كان لا بد من إداريين لكى يقوموا بأعباء السلطة : وهكذا نشأ منصب المدراء فى شباط ( فبراير ) سنة 1800. وقد كانوا مكلفين بحراسة و إدارة مقاطعتهم، يساعدهم فى ذلك نواب مدراء،
و يعينون المحافظين فى القرى التى تعد أقل من 5000. ولكن " القنصل الأول " كان ينفرد بتعيين هذا المحافظ فى القرى التى تتجاوز هذا العدد. أما إعادة تنظيم القضاء، فقد تمت عبر قانون الثامن عشر من آذار ( مارس ) 1800.
وكانت مصالحة الفرنسيين فيما بينهم تفترض قبل كل شئ الإنتهاء من العداء بين الثورة الفرنسية و الكنيسة.
و أستطاع القنصل الاول، بقليل من التنازلات وكثير من اللباقة، ان يبرم معاهدة مع البابا بيوس السابع، تعيد للكنيسة مكانها المرموق فى المجتمع الفرنسى، ولكن تعطى، فى المقابل للدولة سلطات واسعة على الكنيسة الفرنسية : فالحكومة هى التى تعين الأساقفة و تدفع أجور رجال الدين أسوة بالموظفين.
عام 1800، عين القنصل الأول لجنة مكلفة بوضع بديل للقانون الموروثة، و غالباً كان يشارك فى أعمالها شخصياً. و اصدرت فى آذار ( مارس ) سنة 1804 مجموعة قوانين مؤلفة من 36 قانوناً. كانت تؤخذ بعين الأعتبار التغيرات التى أحدثتها الثورة، و لكنها تحافظ على، أو تعيد إدخال بعض المبادئ المستقاة مباشرة من " النظام القديم ".
وهكذا فإن اقانون المدنى الذى يثبت إلغاء الإقطاعية، و يضمن الحريات الشخصية ( حرية التفكير و العمل ... )، و المساواة بين المواطنين أمام القانون، وعلمانية الدولة. ولكنه فى المقابل يعيد فرض السلطة الابوية على العائلة، ويسمح للوالد بأن يأسر أولاده و يستأثر بأملاكهم، و يعلن أم المرأة ملزمة مهما كانت الظروف
بـــ " الطاعة لزوجها ". و أخيراً دعم القانون المدنى سلطة البرجوازية بتدعيم حق الملكية.
ومنع كل تكتل عمالى، أى الإضراب و تشكيل النقابات. وأجبر العمال على حمل سجل توزعه الشرطة و يسجل عليه رب العمل تقويمات تتعلق " بحسنات "
و " سيئات " حامله.
الأزدهار الأقتصادى :
ظهرت عبقرية نابليون فى إعادة تنظيم مالية البلاد، وهو الشرط الأساسى لأزدهارها الأقتصادى. فقد طبق نظام جباية للضرائب ثابتاً و نتساوياً بين الجميع، و ألف هيئة من الجباة و المراقبين. و عهد بأمر سك العملة إلى أتحاد لمصرفيين خاصين، أعيد تنظيمه ليشكل " بنك فرنسا " فى 13 شباط " ( فبراير ) 1800. وفى سنة 1803، حصل هذا المصرف على الأمتياز الوحيد لأصدار العملة. وجاء قانون 7 " جريمنال " 1803 ليخلق عملة جديدة هى الفرنك " الجريمانالى ". و أغلق الحدود على المنتجات الأجنبية أبتداء من سنة 1803، لكى يشجع الإنتاج المحلى. وكانت الصناعات القطنية هى المستفيد الأكبر من هذا القرار. و أشتهر صناعيون كبار من أمثال " دولفوس " أو " ريشار " فى باريس، بأعتمادهم الآلات المستوردة من إنجلترا. و عرفت صناعة الأصواف توسعاً سريعاً.
ولكن طموحات نابليون كانت تحمله على تجاوز التدابير المتخذة حتى الان : " يجب التنبؤ بالمستقبل، و يجب أن نلقى على أرض فرنسا بعض كتل الجرانيت ".
أو بتعبير آخر، يجب بناء أساس راسخ للنظام كما يجب توحيد أهل النخبة و اواسط الشعب، مع التثبت من طاعة العامة. وما لبثت الأنتصارات التى حققت فى ساحة الوغى وفى الساحة الداخلية أن فرضت النظام الأمبراطورى.
ومع أزدياد السلطة الأمبراطورية المطلقة، أنحسرت الحريات التى كانت سائدة منذ الثورة الفرنسية. وباتت الطاعة هى الفضيلة الكبرى. وفرضت رقابة صارمة على الصحافة. ففى باريس، لم يكن يسمح إلا بصدور أربع صحف فقط، وكان عليها أن تحجم أى تلميح سياسى. وكان المسرح و الأدب خاضعين للرقابة. ولذا كان على الكتاب الناقدين للنظام، من أمثال " دو شتال " أو " شاتوبريان "، أن ينفوا أنفسهم إلى الخارج أو أن يصمتوا.أما التعليم فلم يكن من واجبه أن يعلم الشعب، بل أن يربى النخبة القادرة و المنضبطة، التى ستشكل كوادر أمة.
و أهمل نابليون الدراسة الأبتدائية، إلا إنه نظم الثانويات بعناية. وجعل التعليم حكراً على الدولة، فى قلب هيئة واحدة هى الجامعة، يديرها معلم أكبر. و أسست شهادة حكومية هى الباكالوريا.
منذ سنة 1812، بدأت موجة من التململ تجتاح كافة الطبقات الأجتماعية : فالبرجوازية، التى كانت مدينة لنابليون بترسيخه سلطتها و توسيعه أسواقها عبر الفتوحات العديدة لأرض أجنبية، كان من الصعب عليها أن تتكيف لمدة طويلة مع الغياب التام للحرية و النقد.
و الحصار الأقتصادى لأوروبا الذى ساعد فى بادئ الأمر على تدعيم التفوق الأقتصادى الفرنسى فى السوق الأوروبية، ولكن وقف تصدير عدة منتجات زراعية إلى بريطانيا ومن ثم تعذر تأمين المواد الأولية للصناعة المحلية، أدى إلى مشاكل أقتصادية متزايدة.
أما الفلاحون، فقد سئموا من أعطاء أبنائهم لــ " غول " الحروب، التى باتت ساحتها أبعد فأبعد. و أما حالة العمل، فلم تشهد، هى الأخرى، أى تحسين يذكر : فإن نابليون، و ان منع أستخدام الأولاد ممن هم من دون العاشرة، فى العمل داخل المناجم، لم يكن ليهتم بشأن " أبناء الضواحى " الذين كان يعاملهم بحذر.
و الحروب التى كانت لمدة طويلة مصدراً للثراء، بدأت تكلف سنة 1813 أكثر مما تربح، زد على ذلك، سأم الجنود الذين باتوا يطوعون فى أعمار صغيرة.
و أخيراً و ليس أخراً، جاء الصراع مع البابوية، على أثر أحتلال روما سنة 1808، يحشد الأكليروس فى صفوف المعارضة، ومعهم عدد لا يستهان به من الكاثوليك.
وفى سنة 1812، وفى أوج الحملة على روسيا، قام الجنرال " ماليه "، بمحاولة أنقلاب ففشل. وتم إعدامه، إلا أن هذا لم يحل دون ظهور هشاشة النظام :
إذ لم يفكر أى وزير أو جنرال موجود بباريس، فى ولى العهد الأمبراطورى الملقب بملك روما. وحينما أجتاح الحلفاء فرنسا سنة 1814، سارع الشعب إلى القبول بعودة آل بوربون إلى سدة الحكم.
بعد وفاة الأمبراطور فى جزيرة القديسة هيلانة، سنة 1821، ما لبثت أسطورة نابليون، ان محت الأحقاد. وقد ساهمت ذكراه فى عودة أبن أخيه إلى العرش سنة 1852.