مرحبا
التنويم الإيحائي
يرجع أصل التسمية hypnosis بالمعنى السائد اليوم إلى الجراح الإنجليزي جيمس برايد James Braid من مانشيستر في عام 1842، نسبة إلى هيبنوس إله النوم عند الإغريق. إلا أن الاهتمام العملي بهذه الظاهرة التي يعبر عنها هذا المفهوم يعود إلى وقت أبكر من ذلك بكثير، إذ إنَّها تمتد عبر الحضارات الصينية والهندية والفارسية والآشورية والبابلية والكلدانية والمصرية واليونانية والرومانية والعربية، وكانت ممارستها تعدُّ سرَّاً من أسرار رجال الدين أو الكهنة أو الأطباء أو بعض الجماعات الدينية أو ما شابه.
أما الطبيب النمساوي فرانس مسمر Franz Mesmer فقد أسماها في عام 1766 «المغنطيسية الحيوانية»، اعتقاداً منه أن سيالة المغنطيس تنتقل من المنوِّم إلى النائم، واستخدم المغنطيس في التنويم، وتخلّى عنه منذ عام 1777، وجاء الطبيب الفرنسي هيبوليت بيرنهايم (1843-1914) Hipolyte Bernheim الأستاذ في جامعة نانسي ليطلق عليها تسمية «الإيحاء» sugestion، إذ حدَّد طبيعة الإيحاء بدقة، وعدَّ أنَّ الإيحاء اللفظي الغيري verbal heterosugestion أي التأثير الانفعالي المكثَّف من خلال الآخرين، هو مفتاح التنويم. ويعود الفضل لأعمال بيرنهايم في نشوء أول مدرسة للتنويم الإيحائي المعروفة بمدرسة نانسي الأولى للتنويم Hypnosisschool of nancy I التي يرجع إليها فضل جعل التنويم طريقة رسمية في الشفاء ووضع البذور الأولى للعلاج النفسي المعياري.
وبدءاً من عام 1875 بدأت تنشر أعمال المدرسة الباريسية برئاسة شاركو J.M.Charcot إذ فهمت مدرسة باريس جوهر التنويم في حالة جسدية قابلة للمقارنة مع الهيستيريا وصفته على أنه «استعداد مميز غير مألوف للارتكاس» أي إنَّها انطلقت في محاولتها لفهم جوهر التنويم من خلال خصائص أو سمات المنوِّم، وذلك على عكس مدرسة نانسي التي فهمت جوهر التنويم في التأثير النفسي الذي يمارسه القائم بالإيحاء.
وحدث صراع بين مدرستي نانسي وباريس، ففي حين كانت مدرسة نانسي ترى أن العامل الحاسم في التنويم هو الإيحاء النفسي كانت مدرسة باريس ترى أنها منعكسات جسدية، وانتهى بعد مدّة قصيرة بانتصار مدرسة نانسي إلى أن برهن باحث الدماغ والطبيب النفسي الهنغاري كارل شيفر Karl Schaffer تجريبياً أنه حتى الإيحاء هو عبارة عن سلسلة مثيرات يمكنه أن يثير ارتكاسات في مسارات الترابط العصبية وفي الأجزاء الدماغية تحت القشرية. وعزت مدرسة بافلوف الحالة إلى أسباب فيزيولوجية تتعلق بالمثير (المنبه) والاستجابة، ويتم الإشراط باستخدام مثيرات حرارية أو لمسية أو سمعية وكلامية أو ضوئية لتوليد حالة التنويم الإيحائي.
ومنذ عام 1904 بدأت المدرسة الفيزيولوجية العصبية البافلوفية تهتم بالتنويم. فمن خلال تجارب فيزيوعصبية دقيقة عبر عقود استطاع بافلوف أن يقدم فهماً أفضل للتنويم الحيواني والإنساني لا يمكننا اليوم تجاهله. وترى نظرية الإشراط البافلوفي أن التنويم الإيحائي هو كف متعلم مديد، يصيب مراكز القشرة الدماغية يجعل الشخص المنوم في حالة متوسطة بين النوم واليقظة، ولذلك قد يفيد النوم الإيحائي في تفسير النوم العادي، وقد ينبه النوم بمثيرات لفظية ، هي من النظام الإشاري الثاني عند بافلوف، وتصبح بعد التدريب لها قوة مادية شأن المثيرات المادية.
ويرى بافلوف أن الكف الداخلي والتنويم والنوم عبارة عن العملية الفيزيولوجية نفسها، وأنه من المثبت أن المثير الحيادي المتكرر على الوتيرة نفسها لنقطة ما من محيط الدماغ سوف يقود عاجلاً أم آجلاً إلى الكف الداخلي وبعد ذلك إلى النعاس، ومن ثم التنويم وأخيراً إلى النوم العميق.
وأقرت الهيئات الطبية الفرنسية والبريطانية والأمريكية استخدام التنويم الإيحائي في العلاج بعد عام 1955، إلا أن كثيراً من المشعوذين مازالوا ينسبونه إلى قوى سحرية تُيسِّر سير الإيحاء في الجسد.
والتنويم الإيحائي هو حالة خاصة من حالات النوم النفسي العصبي. ويمكن للحالة التنويمية أو لعمق النوم أن يتدرج بدرجات مختلفة تتدرج من الطور شبه التنويمي، الذي يشبه النعاس مروراً بطور الجُمدة، الذي يحدث فيه تأثير واضح في التنظيم النفسي الحركي والسلوك وصولاً إلى طور الغشوة أو الغشية الذي يشبه النوم الشديد أو العميق، حيث يُظهر تخطيط الدماغ اختلافاً في الموجات الدماغية بين الشخص النائم نوماً عادياً وبين الشخص المنوَّم إيحائياً، حيث تشير الموجات الدماغية إلى حالة أقرب إلى اليقظة.
ويرى بعضهم في النوم المغنطيسي أنه حالة نوم تحدث بفضل النظر المطول إلى أشياء مضيئة. ويرى كثيرون أنه مجرد حالة نفسية جسمية، بينما يعد التنويم الإيحائي تقنية لإحداث تلك الحالة من النوم غير الكامل. وعرفته لجنة الجمعية الطبية البريطانية بأنه حالة عابرة من الانتباه المعدل لدى الفرد يمكن أن يحدثها شخص آخر، ويمكن خلالها لشتى الظاهرات أن تبدو تلقائياً استجابة لمنبهات لفظية وغير لفظية، وتزداد فيها قابلية المنوِّم للإيحاء.
تفسير طبيعة التنويم
مازالت طبيعة التنويم غير معروفة بدقة حتى الآن، غير أن كثيراً من الدلائل تشير أنه في الحالة التنويمية تكون المعطيات الفيزيولوجية، وبشكل خاص الأجزاء الدماغية الأقدم من الناحية النشوئية، متداخلة مع المعطيات النفسية، ومن خلال ذلك يحدث على ما يبدو حصار أو كف في محيط الدماغ، الأمر الذي يقود إلى سهولة التوجيه الحسي الحركي.
تنويم الحيوانات
تعود الجذور الأولى للتجارب العلمية في التنويم الإيحائي إلى تجارب أُجريت على الحيوان، ويعتبر دانييل شفينتر Daniel Schwenter أستاذ الرياضيات والاستشراق في جامعة ألت دورف Altdorf في ألمانية أول من وصف تجربة تنويم الدجاج في عام 1636، وبعد عشر سنوات من ذلك وصف الأب كيرشر في رومة في عام 1646 هذه التجربة التي تقوم على وضع دجاجة على لوح خشبي وربط رجليها وبسط منقارها إلى الأمام ثم القيام برسم خط مستقيم أمام عينها بالقلم أو الطباشير فتبقى الدجاجة ساكنة دون حراك حتى يتم تحريكها أو تنبيهها بمنبه صوتي قوي أو ما شابه. ويمكن أن يقوم بهذه التجربة أي فرد، على أن تجارب تنويم الحيوان لا تقتصر على هذه التقنية فقط، فمن خلال الضغط على مناطق عصبية معينة أو من خلال القيام بحركات معينة يمكن جعل الحيوانات حتى المفترسة منها تدخل في حالة تنويمية. وتفيد تجربة تنويم الحيوان في فهم تجربة تنويم الإنسان، لأن كلاً منهما يمثل حالة تكيف مع البيئة للحفاظ على بقائه، وتمارس كثير من الحيوانات تنويم غيرها لتفترسها، كالعنكبوت والحشرات الأخرى، أو الذكر الذي ينوم الأنثى في أثناء الجماع، أو عندما تصاب الفريسة بحالة شلل عندما تواجه خصماً عدواً يسعى لافتراسها.
قابلية التنويم الإيحائي
لا تتعلق قابلية الأفراد للتنويم بشخصية المنوِّم بمقدار ما تتعلق بطبيعة وبنية شخصية الشخص الخاضع للتنويم أو بقابلية شخصيته للإيحاء.
ويتفاوت الناس في قابلية النوم الإيحائي والوصول إلى حالة الغشية حسب درجة قابليتهم للإيحاء، وغالبية الراشدين يمكن الوصول بهم إلى المرحلة الخفيفة من التنويم، أما الأطوار الأشد عمقاً من التنويم فلا يصل إليها إلا 20-30? منهم تقريباً. والأطفال أسهل تنويماً من الكبار ولا توجد فروق في التنويم الإيحائي حسب الجنس، ولا يمكن تنويم المقاومين إرادياً للنوم.
تقنية التنويم الإيحائي
استخدم في التنويم الإيحائي ثلاثة طرق هي:
1ـ إعادة تربية المواقف بالاعتماد على الإقناع: وتستخدم هذه الطريقة على نطاق واسع لدى أشخاص يعانون الوزن الزائد وفرط التدخين وغير ذلك.
2ـ التنفيس: وهو بعث الاضطراب ثم تفريغه. ونجحت هذه الطريقة في علاج العسكريين في الحرب العالمية الأولى، إلا أنها أخفقت في علاج المدنيين بعد ذلك. وهي طريقة لم تعد تستخدم اليوم إلا فيما ندر.
3ـ التنويم التحليلي: ويقوم على إزالة الاضطراب بإزالة الأعراض والأسباب.
ويستخدم أطباء الأسنان تقنيات التنويم لتخفيف ألم المعالجة بآلات حفر الأسنان، ويستخدمه الأطباء الجراحون والمولدون وأطباء النساء والمخدرون لتخفيف ألم المتعالجين.
لابد من التدريب على ممارسة هذه الطرائق لأن استخدامها بطريقة خاطئة يؤدي إلى مخاطر كأن يصاب النائمون بإدمان على التنويم الإيحائي. وتختلف مدة ممارسة جلسة التنويم الإيحائي تبعاً للشخص المنوَّم والمهمة التي يقوم بها، ويختلف عمق الإيحاء تبعاً للشخص المنوِّم وطريقة التنويم. ولكن يمكن تصنيف النوم بحالات نوم خفيف وغشية (نوم عميق) أو خدار. وتفحص الشدة بمقدار (التخشب) أو الجمدة أي ارتخاء العضلة واختزالها إلى أدنى طاقة فيها فتتجمد في الوضعية التي توضع بها.
ولتنويم الشخص الآخر يعطى بعد موافقته وتحضيره الأوامر البسيطة التي تتكرر بنبرة الصوت نفسها، ويطلب من المنوم أن يركز انتباهه على شيء ثابت أو نقطة ثابتة أو يطلب إليه أن يسترخي وأن يتنفس بعمق، وأن يعود في شعوره وانتباهه إلى سن معينة فيتذكر أحداثها، ويتقمص نفسه في تلك السن التي يقدر المعالج أنها سبب المشكلة. وقد يطلب المنوِّم من النائم أن يتصور نفسه في مرحلة مقبلة. أو أن يعيد المتعالج تركيب أحداث حياتية معينة أو يطلب منه تبني أنماط سلوك معينة.
وتنتهي جلسة التنويم الإيحائي بأن يطلب المنوِّم من النائم أن يعد حتى الخمسة مثلاً، أو يصدر عن المنوِّم صوت لإعادة النائم إلى اليقظة، أو يصحو النائم بنفسه، وبعد ذلك تتم مناقشة الجلسة مع المتعالج. وتحتاج ممارسة إنهاء جلسة التنويم المغنطيسي إلى مهارة لا يستطيع القيام بها إلا الممارسون المحترفون الحاصلون على ترخيص خاص بمزاولة التنويم.
مجالات استخدام التنويم الإيحائي
استخدم التنويم الإيحائي في البحث العلمي لفهم عقل الإنسان والتمييز بين السلوك السوي والسلوك الشاذ. واستخدم في الطب النفسي والعلاج النفسي للتخفيف من الإرهاق وتهدئة الأعصاب المتوترة، أو التخفيف من الاكتئاب أو السيطرة على عادات ضارة كالتدخين أو تغيير العادات في الأكل والرياضة البدنية أو علاج مشكلات النطق، وقد استخدم في التخفيف من آلام الأمراض الخطيرة كالسرطان، والمزمنة كالتهاب المفاصل، والجلطة الدماغية. واستخدم في القضايا القانونية لاستعادة الذاكرة في شهود عيان، وتذكر ضحايا الجريمة. ولكن الشواهد منها لا تعد صادقة تماماً، لأن بعض الناس قد يميلون للكذب أو يرتكبون الأخطاء خلال جلسة التنويم الإيحائي.
غير أن المجال الرئيس لاستخدام التنويم الإيحائي هو المجال العلاجي، إذ يُستخدم كتقنية علاجية مساعدة، وليست أساسية، ضمن تقنيات علاجية أخرى للتخفيف من حدة أعراض معينة أو للسيطرة عليها، وخصوصاً في المجال النفسي الجسدي كالاضطرابات الوظيفية واضطرابات نقص التروية الدموية واضطرابات النوم وحالات الألم والسلوك الإدماني وسلوك الطعام واضطرابات القلق واضطرابات السلوك والاضطرابات الجنسية الوظيفية وغيرها.
مخاطر التنويم الإيحائي
ليس للتنويم الإيحائي أيُّ مخاطر أو أعراض أخرى جانبية إذا ما استخدمه متخصّص مؤهّل لهذا الغرض في المجالات التي يكون فيها التنويم فاعلاً. أما مجالات عدم الاستخدام التي يكون فيها التنويم ضاراً ولا يجوز استخدامه أبداً فهي: الذهانات داخلية المنشأ كالمرض الهوسي الاكتئابي أو الفصامات، وكذلك في الأعراض الذهانية خارجية المنشأ. ولا يجوز استخدام التنويم مع مرضى تعرضوا لاغتصاب، أو لهدف إقناع تربوي عند الأطفال، بسبب مخاطر حدوث كف في النمو لديهم.