وسط أبنية مدينة نيويورك الفخمة وأزقة العالم المتهالك بحي الكيت كات دارت قصتين لشخصين ضريرا العينين، الأولى بطلها العقيد المتقاعد فرانك سلايد “آل باتشينو” والثانية بطلها الشيخ حسني “محمود عبد العزيز” وكلاهما قاما بالدورين كأعظم ما يكون، وكعادة السينما لا تمر على عين محب إلا وتركت مشاهد تظل عالقة بالأذهان. ففي هذا المقال سنتحدث عن جانب من الشخصيتين بمشهدين أحدهما طغت فيه الفرحة على قلب فرانك الحائر بأحد المطاعم الفاخرة بنيويورك، والأخر خيم فيه الحزن على قلب الشيخ حسني الذي سالت دموعه بأحد ممرات الحي الفقير بالقاهرة.
Scent Of a woman – عطر إمرأة 1992
بطولة: Al pacino
إخراج: Martin brest
“لا أخطاء في التانجو”
فرانك سلايد ذلك العقيد المتقاعد الساخط على واقعه المظلم كما شبهه، الذي أختار إنهاء حياته بالطريقة التي يرغبها هو، أنطلق إلى رحلة رفقة مراهق عُين كمساعد له، أخذ يحدثه كثيرًا عن فلسفته الخاصة وعشقه للنساء ووصفه لهن بأسلوبه الجذاب.
صنع هروبًا خاصًا كي يعيش لحظات التحرر من واقعه بأسلوب لا مكان فيه للعجز، لا مكان فيه لماضيه الباقي في حاضره المظلم، لا مكان فيه سوى للجنون الذي تحرر به من ماضيه وحاضره وأراد أن يكون نهاية لمستقبله الذي أراد.
ذلك العطر الذي فاح من الجميلة دونا عابرًا من أنف الكلونيل إلى قلبه مما حركه نحو الهروب إلى رفقة تلك الجميلة على ألحان التانجو.
سار فرانك خلف جنونه متسلحًا بأسلوبه الجذاب وأخذ يمارس لغته الخاصة في الإقناع كي تقبل صاحبة العطر مشاركتة رقصة على تلك الأنغام التي تملأ المكان، الكفيف ذو الملامح الساكنة التي أستطاعت تحريك إنتباه الحاضرين نحو ساحة رقص بها عجوز كفيف وفتاة أرادت خوض الغمار وهي التي خشت أن تُخطئ لولا رغبته الجامحة في فعل شئ مجنون تلك الليلة والتي لم تقوى على مجابهتها مما تسبب في إنتاج أجمل ما يمكن للعين أن تراه.
طلب الكلونيل من مساعده شرح أبعاد المكان، أخذ بذراع الفتاة نحو ساحة الرقص بخطى واثقة، ضمها إليه وترك روحه للموسيقى، الموسيقى وكأنها أمتزجت بالأوكسجين الذي يتنفسه فرانك، قاد الرقصة وكأنه يسبح في الفراغ دون الحاجة إلى رؤية شئ، فقط كان يشعر كل حركة فينفذها على النحو الصحيح هكذا الخيال الذي هو فن رؤية ما لا يمكن للأخرين رؤيته، وهكذا هو التانجو، بلا أخطاء.
الكيت كات (1991)
بطولة : محمود عبد العزيز
إخراج : داود عبد السيد
“الحشيش هو الذنب الوحيد في حياتي”
أتجه الشيخ حسني بأقدام تتحسس تلك الحارة التي تشبه مسالك القبور نحو صديق والده بائع الفول عم مجاهد كأي زبون، أخذ يتحدث كعادته المرحة وهو ممسكًا بمغرفة الفول يعبأ طبقه، وقبل ذلك كان قد قُبل باللوم لبيع منزل والده مقابل ثمن بخس، الأمر الذي جعل الشيخ حسني يلقي باللوم منفعلًا على البشر وعلى الحياة التي صارت أصعب من أن يواجهها وهو ليس تحت تأثير الحشيش، ذلك الذنب الذي دفعه للتخبط في حياته وكأنه هرب به من واقع لم يعد يُدرك ماذا يفعل كي يتعامل معه، الذنب الذي يعتبره السبيل للهروب به من وحدته رفقة أصداقاء لا يجتمع بهم إلا على دائرة ذلك الغبار المنبعث من الجوزة إلى صدورهم.
محمود عبد العزيز في أحد أعظم المشاهد في تاريخ السينما المصرية، كسر حاجز التقمص ووصل إلى درجة أنه ربما كان حقيقيًا في تلك اللحظات.
حديثه إلى عم مجاهد الذي أستعاذ فيه من هروبه للغياب عن واقعه بالحشيش، وصدمته حين عاد ليقبل يده معتذرًا، حينها صُدم بأنه يقبل جسد قد فارقته الروح منذ لحظات، وقتها تملكت الصدمة والإرتباك من الشيخ حسني الذي حمل العجوز الراحل ووضعه في عربة الفول المهرتئة وغطى جسده النحيل بعبائته وقاد العربة باكيا لا يعلم أين يذهب في هذا الحي العشوائي الملئ بالأنقاض وكأنه مقبرة قديمة يقطنها الأموات الأحياء، لا يعلم أين يمكن وضع ما تحمله تلك العربة من ذكريات الصداقة والحنان والماضي الطيب البسيط.
في هذين المشهدين أظهرت كلا الشخصيتين رغبتهما في الإنسلاخ من واقعهما، ورغم أن العمى الشئ الجامع بينهما إلا أن دوافعهما نحو ذلك مختلفة، فلم يكن العمى هو الدافع للشيخ حسني إنما كانت مشاكله كباقي الناس من حوله، أما فرانك كانت مشاكله مع نفسه المتمردة، أراد أن يهرب إلى السعادة بفعل أشياء من المفترض ألا يستطيع مثله القيام بها، أراد أن يشعر أنه بلا نقص، نفس الأشياء فعلها الشيخ حسني لكنها كانت على سبيل المرح الذي يصعب على أمثاله الحصول عليه، في كلا الشخصيتين عجز عن التكيف مع الظروف لذلك أختارا الهروب، أحدهما هرب من الحزن إلى السعادة لكنه يرفض أن يستمر في ممارسة حياة تثير إنتباه الآخرين فقط لأنه أعمى، وأخر يعترف أن هروبه هو ذنبه الأعظم، في كلا الحالتين الهروب لم يكن حلًا، فما نحتاجه ليس الرحيل عما يؤرقنا لمكان مختلف، بل الحل في أن نكون نحن أشخصّا مختلفين.
أحمد يوسف الصياد - اراجيك