هنا يبرز سؤال مهم في هذا الصدد وهو: كيف لنا أن نختار؟ وما هي العوامل التي تكون في عوننا ساعة الاختيار، ولحظات اتخاذ القرار التي هي لحظات خطيرة ومصيرية وتمتاز بكونها محدودة وخاطفة؟
من هذه العوامل عاملا التربية والوراثة اللذان تؤكدهما تلك الصرخة الثورية التي أطلقها أبو عبد الله الحسين عليه السلام في وجه الإستكبار والانحراف والاستبداد الأموي، وهناك عوامل أخرى يمكن للإنسان الإمساك بزمامها والتحكم بها؛ منها عامل الثقافة، وعامل تاريخ الإنسان وماضيه. فالإنسان المنقاد إلى ربه بمواظبته على أداء الفرائض العبادية، والمنشغل ليله ونهاره بذكر الله العظيم، هذا الإنسان متوجه بدمه ولحمه وروحه ونفسه وعقله إلى الله سبحانه، لاهج لسانه بترديد الدعاء الشريف (ربي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً)10. ولذلك فإن يد الرحمة الغيبية ستكون في عونه لإنقاذه في لحظة الاختيار، فتثبت قدمه، وتطمئن قلبه، لا تدعه يتزلزل وينهار، ولا تهجره ليصبح عرضة لفتن وابتلاءات الزمان.
ولا عجب من أن تمتد يد الرحمة الإلهية لعون هذا العبد، ذلك لأنه قد ذكر ربه في السراء من العيش فأجابه ربه وذكره حين الضراء والشدة. قال الله تعالى:
(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ )(البقرة/152).
وعندما نقرأ تاريخ الإمام الحسين عليه السلام قراءة واعية وموضوعية، نجد أنه عليه السلام ولد ثانية في كربلاء ساعة نيله تلك المنزلة الرفيعة التي لم ينلها أحد من قبل، وهي منزلة ربانية اختارها الله تعالى له ليخلد مثالاً وضاءً في قلب التاريخ لا ينقطع شعاعه، ولا يخمد وهجه رغم كل محاولات الأمويين على امتداد هذا التاريخ.
الإمام الحسين عليه السلام مجمع الكرامات والفضائل
ترى لمَ هذا الاختيار الإلهي؟ ربما كان هناك من سبق الإمام الحسين عليه السلام من الأنبياء في الشهادة، وتلت قافلته مئات القوافل من المؤمنين الشهداء على طريقه، لكن شهادة الحسين عليه السلام تتجلى بنور خاص بها، إنها وسام رباني قلّ من نال شرفه.
ولعل أقدس المكرمات التي أعطيها الحسين عليه السلام أن جعل الله سبحانه منه استمرار ذرية الهداية والعصمة الطاهرة، ومنه عليه السلام أيضاً ينحدر أصل الإمام الحجة القائم المهدي (عجل الله فرجه الشريف) الذي يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، فهذه هي أعلى المكرمات بعد الشهادة.
ثم إن من تلك الكرامات أيضاً أن جعل سبحانه في تربته الشفاء من الآلام والأسقام؛ ولعلنا كلّنا قد لمسنا وجربنا هذه الحقيقة، فالكثير منا يروي خلاصة من أخطار جمة لأنه كان يحمل معه حبات من تلك التربة الطاهرة التي امتزجت بقطرات دم سيد الشهداء ودم أصحابه الأوفياء.
وأنا هنا لا أريد أن أزج نفسي والقارئ في مخاض غيـبي، ذلك لأن للغيب مقدماته وأصوله وحديثه المسهب، ثم إن كل امرئ ليس قادراً على استيعاب وتحمل معاني الغيب وآفاقه الواسعة إلا ذلك الذي رُزق الحكمة، وأوتي البصيرة والتدبير والوعي، ولكني أريد البحث هنا في المعاني البسيطة الظاهرة للأذهان والمستلهمة من الظاهرة التاريخية.
وبعد أن انتهت فصول تلك الملحمة العظيمة في التاريخ البشري باستشهاد الإمام الحسين عليه السلام وصحبه الأوفياء همّ نجل الإمام الحسين الشهيد الإمام زين العابدين عليه السلام بحمل جثمان أبيه سيد الشهداء فوجد على ظهره آثار جرح ليس كبقية الجراح، فقد كان يبدو عليه القدم، فقال الإمام عليه السلام : حاشا لله أن يكون والدي قد جُرح من ظهره، وقد صدق زين العابدين عليه السلام فالحسين ما وّلى ولم يول ظهراً لعدو طلبه حتى يصاب في ظهره، فهذا هو شأن الأئمة( لأن معنى الانهزام وتوليه الأدبار لم يك يوجد في قاموس شجاعتهم وفروسيتهم، فمن أين مصدر الجرح هذا إذن؟ إنه وكما تقول الروايات آثار ذلك الجُراب (الكيس) الذي كان يحمله في تلك الليالي المظلمة، فقد كان عليه السلام يحمل على ظهره تلك الجراب الملأى بالمساعدات فيؤدي خدمة للعباد، ابتغاء مرضاة الله، فهذه الخدمات التي قد يستنكف بعضنا عن أدائها قد أداها أئمتنا المعصومون عليه السلام ومنهم الإمام الحسين.
إن هذه الأعمال الصالحة، والخدمات الإسلامية العظيمة لا تضييع عند الله سبحانه وحاشا له ذلك، إنها لابد أن تتحول في يوم من الأيام إلى خدمة كبيرة، ومنزلة عظيمة، ودرجات علوية في الآخرة كما هي في الدنيا، فهذه هي مسيرة الكمال والرفعة درجة بعد درجة حتى بلوغ القمة.
السيد محمد تقي المدرسي