فى القرن السادس عشر، تنظمت الأمم الأوروبية الأساسية فى دول أتحادية يحكمها ملوك عن طريق الوراثة، و بسطت نفوذها على مختلف المقاطعات و المدن الحرة و على الدويلات المتحالفة.
هذا النفوذ لم يلق تجاوباً من قبل الأسياد الكبار الذين كانوا يحاولون إعادة قوتهم السابقة. ثم أن الدول الملكية الشابة تحالفت فيما بينها تحت منطقة البورجوازيين الذين ضمنوا حماية الحاكم التى كانت تضعهم فى مأمن من الأضطرابات الأقطاعية، و تسمح لهم بتوسيع أعمالهم و التنعم بالنظام و الهدوء. ثم أنهم أستفادوا أيضاً من الخدمات التى كانت تقدمها لهم الإدارة الملكية فى أوج توسعها : فى عملة ثابتة و محاكم أكثر نزاهة إلى حماية أكبر للطرقات و بناء القنوات ...إلخ وفى ظل حكم قوى، فإن البرجوازية التى كانت تربح أكثر من أى تجمع آخر من الغنى الإجمالى الراجع إلى أتساع المبادلات الأقتصادية، رأت أهميتها تزداد.
أنطلاق الملكية الفرنسية :
أستمرت الملكية الفرنسيةب تقوية نفسها طيلة النصف الأول من القرن السادس عشر رغم الحروب الكثيرة. وبفضل الحاق دوقية " بيتانيا " عن طريق زواج الملك شارل الثامن من الدوقة " آن " (1491) وسنة 1523 تمت السيطرة على اقطاعية قائد جيش " بوربون " الشاسعة.
و إن الحكام " الفالوا " الذى تعقبوا على الحكم من لويس الحادى عشر ( 1461 - 1483) حتى هنرى الثانى (1547 - 1559) قد حكموا أكثر فأكثر دون أستشارة كبار الإقطاعيين حسب مزاجهم. وقد وسعوا الجهاز الحكومى و أوجدوا الوزراء أو سكرتيرى الدولة وراقبوا المقاطعات بواسطة المفتشين.
إيطاليا و ألمانيا :
إذا كانت مختلف الدول الحالية قد تكونت أو تحالفت بين نهاية العصور الوسطى وبداية عصرنا الحالى فإن دولتين كبيرتين شذتا عن القاعدة هما إيطاليا و ألمانيا.
فهذان البلدان كانا مقسومين إلى إمارات كثيرة على درجة متفاوتة من الأهمية بدءاً " بالمدن - الدول " البسيطة ( ستراسبورغ ) إلى الدويقات ( ميلانو ) مروراً بالمدن الحرة المنضوبة ضمن وحدة ( الوحدة الهانسباتيكية ) حتى الممالك المتوسطة المساحة ( نابولى). أن أياً من تلك الأمارات لم تكن على درجة كافية من القوة لتفرض قوتها على الأمارات الأخرى. ولكنها كانت تفرض ذلك على أرضها لتمنع الأمارات الباقية من بسط سلطتها عليها. إن الأمبراطورية فى ألمانيا و الباباوية فى إيطاليا كانتا تدخلان تدخلاً فاعلاً لأحباط الجهود المنصبة على توحيد البلاد.
أن الأمبراطورية الألمانية التى غدت أرضاً مخصصة لعائلة " هابسبورغ " النمساوية لم تكن تمارس أى حكم مباشر بل كانت تكتفى بنوع من الحماية السياسية لعدد من الدويلات الصغيرة.
بطبيعة الحال، فإن الإبقاء على التمزق فى ألمانيا كان لمصلحة آل " هابسبورغ ". و بدرجات متفاوتة، كان الوضع فى إيطاليا مشابهاً لوضع ألمانيا، فمنذ أندثار الأمبراطورية الرومانية عرفت البابوية كيف تتجنب دائماً قيام دولة تمتد من جبال الألب إلى صقلية. كانت تعى أن دولة كهذه تحد من أستقلالها السياسى.
وهكذا، و بالرغم من لغتهما و ثقافتهما و تقاليدهما الموحدة، و حياتهما الأقتصادية الأخذة بالتمركز، لم تتوصل هاتان الدولتان إلى تحقيق وحدتهما : لذلك ينبغى أنتظار نصف القرن التاسع عشر حتى تتم الوحدة.
وفى عام 1469م أحتفل بزواج " أيزابيل دو كاستيل " و " فرديناند الأرغوانى ". هذا الحدث ستولد عنه نتائج مهمة. فى أسبانيا أولاً ثم فى أوروبا. عندما حكم
" الملكان الكاثوليكيان " مملكتيهما بعد عشر سنوات من زواجهما، كانا يعبران بوحدتهما عن وحدة أسبانيا. وفى الوقت عينه، أمتلك " الكونكيستادور :مملكتيهما بعد عشر سنوات من زواجهما، كانا يعبران بوحدتهما عن وحدة أسبانيا. وفى الوقت عينه، أمتلك " الكونكيستادور " أمبراطورية أستعمارية مترامية الأطراف فى أمريكا الجنوبية. ثم قام زواج أخر ليزيد من قدرة أسبانيا. وفى سنة 1469، خطبت الأميرة " جان " وريثة عرش " كاستيليا " فيليب الجميل الهابسبورغى، فوجد أبنهما
" شارل " نفسه عنده مجيشه، على رأس أمبراطورية شاسعة لا تغيب عنها الشمس.
فرنسوا الأول :
كان من الطبيعى أن يطمع " شارل " بالحكم الأمبراطورى، ولكنه لم يكن الوحيد، إذ ان ملك فرنسا الجديد فرنسوا الأول الفرنجى وملك إنجلترا هنرى الثامن دخلا أيضاً فى حلبة الصراع. فملك فرنسا كان كللاً بأنتصاره فى " مارينيان " لأعلى الفلول الميلانية، و المرتزقة السوسرين الأشدا، وقد ظهروا فى ذلك الكثير من الشجاعة. بالنسبة لملك فرنسا، كان المقصود من دخوله ساحة الصراع منع التاج الأمبراطورى أن يزيد من سلطة " شارل " الذى كانت ممتلكاته تضع فرنسا فى كماشة خطرة.
هنرى الثامن :
أن ملك إنجلترا كان " الكبير " الثالث المتاح له الطمع بالدور الأوروبى. فخلال ثلاثين سنة ( 1455 - 1485 ) كانت إنجلترا تغرق فى حرب أهلية بين عائلات
" لانكاستر " و شعارها زهرة حمراء و عائلات " يورك " و شعارها زهرة بيضاء، وقد سميت بحرب " الزهرتين ". فى النهاية، لم ينتقل التاج لأى من العائلتين بل كان من حظ شاب " غالى " أسمه " هنرى تودور " حكم تحت أسم " هنرى السابع ". وقد عمل بكل حكمة و ترك لأبنه هنرى الثامن أمة وجدت جوهر سيادتها، وحق لهذا الأخير الطمع فى كل أوروبا.
شارلكان :
بفضل دعاية ماهرة و بهدف التأثير على الناخبيين. قدم مستشارو " شارل " هذا الأخير على أساس كونه المرشح الألمانى الوحيد. وقد أنتخب ملك أسبانيا و حكم تحت أسم " شارل الخامس" أو شارلكان. حاول شارلكان الأتفاق مع فرنسوا الأول لأنه كان ذا تربية فرنسية تلقاها فى بيئة فرنسية، فلم يكن يحسن التحدث جيداً باللغة الألمانية و يجهل الأسبانية. و لكن مصالحها ( بالأخص أمتلاك بورغونيا ) و أكثر من ذلك مصالحها السياسية التى كانت تضعهما دائماً على طرفى نقيض :
فقد كان شارلكان يحلم بدولة عالمية بينما كان فرنسوا الأول يراوده حلم هو أن يكون بطل الدولة الوطنى.
الصراع الطويل من أجل التفوق :
بدأت الحرب ضد الملك فرنسوا الأول سنة 1521. وكان الوقت الذى أختاره الأمبراطور للحرب مناسباً، إذ أن ملك فرنسا فشل فى محاولته جعل الملك هنرى الثامن يقف إلى جانبه، زذ على ذلك أن قائد الجيش الفرنسى القوى أنحاز إلى جانب شارلكان. وفى معركة " بافيزى " فى إيطاليا هزم فرنسوا الأول ووقع فى الأسر (1525)
و أخذ إلى أسبانيا حيث وقع هناك على " صلح مدريد " الذى تخلى بموجبه عن إيطاليا و " ارتوا " و " فلاندر " و " بورغونيا ". و بعد إطلاق سراحه بوقت قليل،
تراجع فرنسوا الأول عن إلتزماته وعاد إلى الحرب متحالفاً هذه المرة مع البابا و هنرى الثامن. فأجبر شارلكان على الخضوع للأتفاق و أعلن ملك فرنسا تنازله عن
" بوروغونيا " التى بادلها بإيطاليا بعد إعلان شارلكان تنازله عنها ( 1529) وفى أخر المطاف، أنتهى هذا الصراع المرير لمصلحة فرنسا. إذ خسر شارلكان
" بوروغونيا " نهائياً بعد أن انتهز الفرنسيون فرصة غرق الأمبراطور فى مشاكله فى ألمانيا.
الأتفاق الدينى :
جعل " شارلكان " نفسه حامياً للوحدة الدينية فى أوروبا وفاء منه للتقليد الأمبراطورى، ولكنه وجد متاعب فى هذا المجال أيضاً إذ أن الأمراء البروتستانت شكلوا معارضة قوية. وفى سنة 1555 فوض شارلكان أخاه فردىناند توقيع " سلام اوكسبورغ " الذى كرس أنقسام المانيا الدينى. وبعد أن أحس بالمرارة تنحى شارلكان عن الحكم سنة 1556 بعد أن قسم أمبراطوريته إلى أثنين، فقد أعطى أخاه " فيليب الثانى " أسبانيا و ممتلكاتها و اعطى أخاه فرديناند النمسا و هنغاريا أضافة إلى اللقب الأمبراطورى.