بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
يكثر الكلام حول الموت وما بعده، ومع ذلك يبقى ذكره وصداه مخيفاً عند غالبيّة الناس؛ لأنّه انتقال إلى عالمٍ مجهول غير حسّيّ، يسرق منهم أحبّتهم وأعزّاءهم، مخلّفاً وراءه بكاءً، وحسرةً، وشوقاً، وألماً.
وللوقوف أكثر عند هذا الموضوع، بعض الناس لاستطلاع آرائهم حول فكرة الموت.
•آخر يوم من حياتك
هناك من رفض الحديث كلّيّاً عن الموضوع، وعاينّا في أعينهم التحفّظ من مجرّد ذكر كلمة "الموت"، لنُصَدّ فوراً بإجابات "دخيلكم شو هالسيرة"، "يي بعيد الشرّ". وهناك من طرحنا عليه سؤالاً: ماذا ستفعل إذا عرفتَ أنّ اليوم هو آخر أيّام حياتك؟ فلم يستطع حسن (30 سنة) إخفاء رجفة عينيه والتأتأة المرافقة لإجابته: "هناك أمور كثيرة يجب أن أقوم بها؛ طلب السماح من بعض الناس، زيارة أهلي، قضاء ما فاتني من صلاة..."، مبتسماً ابتسامةً جافةً ومكملاً حديثه: "بالفعل، يجب أن نتعامل مع هذه المسألة بجديّة".
•موتٌ جميل
وحول السؤال نفسه، لمعت عينا زينب (25 سنة)، وعلت محياها ابتسامة وقالت بثقة: "أتمنّى لو أذهب إلى مقام الإمام الحسين عليه السلام، وأموت هناك. هل هناك أجمل من ذلك؟!".
•"ما بدّي أعرف أيمتى بموت"
"أمّا إذا ما كنت مريضاً منهكاً، هل تفضّل أن تعرف توقيت موتك؟". هنا يجيبنا رجل في الخمسين من عمره، يعاني من مشاكل صحيّة كثيرة: "ما بكفّي وجعو الواحد، بدّو يقعد يعدّ كمان كم يوم بعدلّو بالدنيا؟!"، مرفقاً عبارته بضحكة فيها غصّة ألم لم يستطع إخفاءها.
•استغلال الأيّام بالعبادة
أمّا أم حسن في صراعها مع مرض عضال، فتخبرنا أنّها كلّ يوم تنام على أنّها لن تستيقظ في اليوم التالي، وهي تحاول استغلال أيّ لحظة في حياتها لتتزوّد منها لآخرتها، أكان بصلاة أو صدقة أو عمل خير، يرجّح كفّة حسناتها في العالم الآخر.
أمّا ما هي حقيقة الموت وفلسفته، فهو ما سنتعرّف إليه الآن.
•انتقالٌ من مكانٍ إلى آخر
يقول سماحة الشيخ إبراهيم السباعي: "إنّ من الصعب تقبُّل فكرة الموت، بسبب تعلّق الإنسان بمن حوله من أهل وأقارب، وإنّ كُرهه له ناتج من فكرة مفارقة هؤلاء الناس".
لذلك يدعو سماحة الشيخ إلى التعامل مع الموت كأنّه رحلة سفر من مكانٍ إلى مكانٍ آخر مجهول لنا، وأنّه لقاء بين العبد وربّه، "فهل يكره الحبيب لقاء حبيبه؟!".
أمّا الأستاذ عجرم عجرم، فشبّه الموت بحالة أخرى: "عندما تدخل الدودة في مرحلة الشرنقة وتتحوّل بعدها إلى فراشة، تنتقل من حياة إلى أخرى، هكذا هو الموت؛ مرحلة انتقاليّة من الحياة الدنيا إلى مكان آخر غير محسوس..". مكملاً كلامه أنّه: "كما تغيب الشمس في مكان لتشرق في مكان آخر، كذلك نحن عندما نموت، نغيب عن هذه الدنيا، لنشرق في مكانٍ آخر هو عالم الآخرة".
•الروح لا تموت
هنا الكلام الأهمّ، حيث يقول الأستاذ عجرم إنّ الروح تخرج من الجسد لتنتقل إلى مكانٍ آخرٍ. ربّما يبقى طيفها حولنا، وربّما تغادر إلى أماكن أخرى، لكنّها لا تفنى ولا تتعطّل. وبما أنّ جوهر الإنسان هو الروح، فهذا يعني أنّه لا يموت أيضاً، بل الأمر أنّ جسده قد توقّف عن العمل وصار قابلاً للتلف، فيتمّ وضعه في القبر، أمّا روحه (ذاته المطلقة) وهي جوهر الإنسان، فتبقى موجودة؛ وبالتالي، فإنّ وجوده لا يتأثّر بموت الجسد، بل هو انتقال الروح لتعيش في عالم آخر.
•كالريح الطيّب
وفي الحديث عن توصيف الموت، يذكر الشيخ السباعي حديثاً عن الإمام العسكريّ عليه السلام، عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام، أنّهُ قَالَ: "قِيلَ لِلصَّادِقِ عليه السلام: صِفْ لَنَا الْمَوْتَ؟ قَالَ عليه السلام: لِلْمُؤْمِنِ كَأَطْيَبِ رِيحٍ يَشَمُّهُ، فَيَنْعَسُ لِطِيبِهِ، وَيَنْقَطِعُ التَّعَبُ وَالأَلَمُ كُلُّهُ عَنْهُ، وَلِلْكَافِرِ كَلَسْعِ الأَفَاعِي، وَلَدْغِ الْعَقَارِبِ، أَوْ أَشَدَّ.
قِيلَ: فَإِنَّ قَوْماً يَقُولُونَ إِنَّهُ أَشَدُّ مِنْ نَشْرٍ بِالْمَنَاشِيرِ، وَقَرْضٍ بِالْمَقَارِيضِ، وَرَضْخٍ بِالأَحْجَارِ، وَتَدْوِيرِ قُطْبِ الأَرْحِيَةِ عَلَى الْأَحْدَاقِ؟!
قَالَ: كَذَلِكَ هُوَ عَلَى بَعْضِ الْكَافِرِينَ وَالْفَاجِرِينَ، أَلا تَرَوْنَ مِنْهُمْ مَنْ يُعَايِنُ تِلْكَ الشَّدَائِدَ، فَذَلِكُمُ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا لا مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا.
قِيلَ: فَمَا بَالُنَا نَرَى كَافِراً يَسْهُلُ عَلَيْهِ النَّزْعُ، فَيَنْطَفِئُ وَهُوَ يُحَدِّثُ وَيَضْحَكُ وَيَتَكَلَّمُ، وَفِي الْمُؤْمِنِينَ أَيْضاً مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَفِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مَنْ يُقَاسِي عِنْدَ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ هَذِهِ الشَّدَائِدَ؟!
فَقَالَ عليه السلام: مَا كَانَ مِنْ رَاحَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ هُنَاكَ فَهُوَ عَاجِلُ ثَوَابِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ شَدِيدَةٍ فَتَمْحِيصُهُ مِنْ ذُنُوبِهِ لِيَرِدَ الآخِرَةَ نَقِيّاً نَظِيفاً، مُسْتَحِقّاً لِثَوَابِ الأَبَدِ لا مَانِعَ لَهُ دُونَهُ، وَمَا كَانَ مِنْ سُهُولَةٍ هُنَاكَ عَلَى الْكَافِرِ فَلِيُوَفَّى أَجْرَ حَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، لِيَرِدَ الْآخِرَةَ وَلَيْسَ لَهُ إِلّا مَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْعَذَابَ، وَمَا كَانَ مِنْ شِدَّةٍ عَلَى الْكَافِرِ هُنَاكَ فَهُوَ ابْتِدَاءُ عَذَابِ اللَّهِ لَهُ بَعْدَ نَفَادِ حَسَنَاتِهِ، ذَلِكُمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَدْلٌ لَا يَجُورُ"(1).
•إخفاء توقيت الموت، نعمة أم نقمة؟
أخفى الله عن عبده توقيت الموت، لأنّه -بحسب فضيلة الشيخ- إذا ما أخبر الله عبده أنّه سيموت بعد مدّة محدّدة، حينها سينشغل العبد يوميّاً في تعداد أيّام حياته المتبقّية، وينسى ما أرسله الله من أجله وما هو يتوجّب عليه ككسب الرزق، وممارسة حياته الطبيعيّة. بالتالي، فإنّ إخفاء توقيت الموت عن العبد هو رحمة له. نعم، يبقى في يد الإنسان أن يزيد في عمره أو ينقصه، كعمل الحسنات، وصلة الرحم، ودفع الصدقات، مصداقاً لكلام أمير المؤمنين عليه السلام: "الدنيا مزرعة الآخرة"(2).
•إنّ القلوب لتصدأ
أمّا عن المراد من ذكر الموت، فالمقصود منه هو الخشية من الله. وإنّ ذكر الموت يأتي تصديقاً لكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء، قيل: وما جلاؤها؟ قال: كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن"(3). كما أنّ ذكر الموت يمنع عن المعصية، ويزيد من ذكر التوبة. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "اذكروا هادم اللّذّات، قيل: وما هو، يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: الموت"(4).
•ملك الموت عبدٌ لله
يملك ملك الموت صورة مخوفة لدى الناس، ويعود السبب لثقافة شائعة والرهبة من الموت بسبب تصوير الدراما له، بينما حقيقة ملك الموت في الإسلام، يوضحها فضيلة الشيخ إبراهيم، بأنّه أحد الملائكة الأربعة المقرّبين من الله تعالى، وهو متعارفٌ عليه في القرآن الكريم باسم "ملك الموت"، وهو الموكل بقبض الأرواح بإذن الله تعالى. أمّا عن اسم "عزرائيل"، فهو تسمية عبريّة لملك الموت، ومعناه عبد الله، وحرفيّاً تعني الذي يعيِّنه الله؛ أي الذي يوكله الله تعالى. وبالنسبة إلى هيئته، فهو يأتي للعبد بحسب أعماله، فإذا كان مؤمناً جاءه بجمال الشكل وطيب الرائحة، وإذا كان كافراً جاءه بأبشع صورة.
•عزرائيل عليه السلام بين الواقع والدراما
هنا نعود بحديثنا للأستاذ عجرم، الذي يحدّثنا عن ملك الموت وفكرة تجسيده في الدراما، ذاك الشكل المرعب ذو اللون الأسود، الذي يرمز إلى النهاية، وهو عبارة عن فناء الألوان كلّها، يتمّ تجسيده بهذا الشكل للسيطرة على مشاعر المشاهد. ويضيف الأستاذ عجرم: "ويختلف التجسيد حسب نوع الدراما، إذا ما كانت رعباً، أو اجتماعيّة، وفي كلتا الحالتين، فهي تعكس الحالات المعيشة".
وعليه، "فإنّ فكرة الموت أو الخوف منه وتقبّله تختلف من مجتمعٍ إلى الآخر بحسب نقل الدراما لهذه الفكرة. من هنا، تنعكس الصورة المرسومة لملك الموت ومشهديّة الموت أو الجنازة على المجتمع الذي يتابع تلك الدراما، فيتصرّف أفراده في المواقف المماثلة كما يشاهدون عبرها، وتترسّخ في أذهانهم صورة ملك الموت التي رسمتها لهم الدراما. لهذا، كثيراً ما نلاحظ أنّه إذا سألت أحدهم عن شكل ملك الموت، سيجيبك أنّه يلبس السواد حاملاً فأساً كبيرة، شكله مرعب وصوته رهيب. هذا كلّه من التأثير الذي تتركه الدراما في نفوس الجمهور المتلقّي".
•في حياةٍ أبديّة
هنا، ننهي حديثنا ولا تنتهي بنا الحياة، فإذا ما انتهت رحلتنا يوماً في هذه الدنيا، فلنا لقاء يتجدّد في عالم آخر عند ربّ رحيم، في حياةٍ لا فناء بعدها، ومكانٍ واسع سخّر فيه الله خيراته كلّها وجماله كلّه لعباده الصالحين، حيث الحبّ والخير والأمان والعدل الذي نطلبه جميعاً.
-----------------------------------------
1.عيون أخبار الرضا عليه السلام، الصدوق، ج1، ص248.
2.عوالي اللآلي، الأحسائيّ، ج1، ص267.
3.كنز العمّال، المتقي الهنديّ، ج15، ص550.
4.مستدرك الوسائل، الميرزا النوريّ، ج2، ص100.