في الحديث عن التطرف كظاهرة اختزلت مجمل المشهد الحواري والتواصلي الإسلامي مؤخراً نستذكر ما درسناه في مادة التاريخ حول ظاهرة خسوف القمر وكيف ظلت هذه الظاهرة مخيفة ومرعبة للإنسان البدائي الذي لم يستطع تفسيرها تفسيراً علمياً لفترات تاريخية طويلة , ترى ما السبب وراء هذا الجهل وكيف تمَّ للإنسان أن يتعرف هذه الظاهرة ؟ وماذا لو أنه بقي داخل حيز مكانه الأرضي هل كان يمكن أن يتعرف على هذه الظاهرة ؟ لست هنا بصدد تفسير ظاهرة كونية باتت معروفة لدى الجميع , لكنّ ما يعنيني هنا هو تحقيق مثال فيزياوي عن ما نحن بصدده , فكل جسم مهما كان صغيراً بإمكانه حجب أجسام تفوقه حجماً استناداً لمدى قربه من العين , بإمكان قصاصة ورق صغيرة أن تحجب عنك الأفق لو كانت شديدة القرب من عينيك , ولا يمكن أن يدعي أي أحد أن فعل التقريب أو المباعدة هنا مقرون بقصدية غير قصدية الفاعل وهو هنا الإنسان بوصفه ذاتاً مدركة واعية , أنت وأنا من نقصد تقريب الأشياء للانضواء خلفها ونحن من نباعدها قليلاً لنرى ما تحجبه خلفها .
غالباً ما يصف الكثير من الكتّاب والمثقفين الفكر المتطرف بأنه فكر ( إتباعي ) أي أنه مرتكز لفكر السلف , والحق أنه ليس كذلك , إذ لو صح لكان معنياً بفكرة ( القبلية ) أي القبلية لما هو ( آني ) بوصف الآني هو الفكر المتطرف وإرث السلف بأنه قَبْلِي , وإني لأجد المثال السابق في مقدمة حديثنا صالحاً تماماً لبيان خطأ ما ذهب إليه الكثير من كون هذا الفكر فكر إتباعي , فالمدونة الإرثية للسلف تثبت بأن عملية انتقاء ممنهجة مورست من قبل رواد فكر التطرف , فهم معنيون فقط ببوصلة ( شديد العقاب ) دون الحاجة إلى ( رؤوف رحيم ) وهذا ما أثبتوه بجدارة طيلة سنوات المحنة التي مرت وتمر بنا , وكأن هذا الفكر يقرِّب سطراً واحداً من الصفحة كي يحجب غيره , إنه فكر الملاقط , فمع دقة هذه الملاقط هي قادرة على التقاط الجزء متناهي الصغر ثم يتم تكبيره في مختبرات التكفير بفعل وسائل التهجين الوراثي , إنه فكر يعلن قطيعته مع مفهوم القبلية التي تعني الرجوع لإرث السلف كله لا على وفق (( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض )) ، وإذا كان خروج الإنسان من حيزه الأرضي الضيق نحو تصوره للكون هو من مكّنه التعرف على ظاهرة الخسوف فإن ذلك الخروج هو من مكّنه من معرفة النتائج المتوقعة لهذه الظاهرة كمفهوم بعدي , وبالضرورة فإن القطيعة مع مفهوم القبلية لا يبني نتائج سليمة وبالتالي فإنه لا يحقق مفهوم البعدية .
ولعل أبرز ما نلمحه من هذا الفكر ـ الفكر المتطرف ـ هو مفهوم ( اليقينية ) يقينية ما يعتقده وبطلان ما يعتقده الغير , وأتساءل هل اطلعوا حقاً على الجدل الفلسفي حول أصل هذه الفكرة ؟ وربما أذهب للجزم بالعدم , مع تحريمهم وتجريمهم لكل مظهر حداثي تفرضه سنن التطور , فكل ما لم يكن حادثاً في زمن الرسول ص محرّم ويتم التجريم على وفقه , أن تقود امرأة سيارة في بلد ما فهذا يعني الخروج على السنة الشريفة !! فكيف يمكن مناقشتهم حول مفهوم اليقينية , ولعلي أجد الحاجة لمناقشة مفهوم اليقينية من خلال أن هذه المقالة تحاور الكل ممن هو غير محدود برواد فكر التطرف .
قامت فكرة اليقينية ومفهومها الواسع ـ بعد ذلك ـ في الفلسفة وما زالت قائمة في التفكير والمنهج في الكثير من الممارسات الفكرية , ولعل الفكر الديني هو البيئة التي لا زالت تحتضن هذا المفهوم دون تفكير في حدود هذا المفهوم فقد دأب الكثير من منظري هذا الفكر على إطلاق اليقينية خارج حدودها التي يمكن الاستدلال عليها من خلال الكتب السماوية وسِير الأنبياء ع , فكان أن حدثت الفوضى , حتى شهدنا أن فكرة ( المقدس ) خرجت خارج حدودها التي بينتها الديانات , ليصبح قول غير المعصوم مقدساً , هكذا ومع استمرار هذه الفوضى يمكننا أن نشخص موضعاً رئيساً لعلة التفكير الديني الناتجة عن الممارِس وخطأ الممارسة لا عن أصل النص الديني , وأود لو استعرضت هذا المفهوم مستعيراً من الفلسفة الحديثة نقاشها .
ما هو الفرق بين المُدرك والمُتخيل ؟ مع أن كلاهما من فعاليات الوعي اللاحقة على فعل الإدراك للذات ؟ الوعي المتجه نحو الآخر المقابل للذات , فالذات تباشر وعيها للآخر كـــ ( مُدرك ) وكـــ ( مُتخيل ) ، مُدرك بوساطة الحواس , ومُتخيل بوساطة فعالية التصوير الذهني الذي يفعل التخيل فعله في تكوينه , والفارق يبرز في كون تحقق الأول تحت مسمى الملموس والمتحسس في حين أن الثاني يتحقق تحت مسمى المتخيل , ودرجة قرب وبعد الذات من المدرك والمتخيل هي من تحقق اشتراك الذات مع واحد منهما , إذ كثيراً ما يكون أحدنا جالساً في مكتبه لكنه ينتقل لمكان آخر قد يبعد الآف الأميال عن مكتبه ويتداخل مع ذلك المكان البعيد للدرجة التي تجعله لا يرى ما هو أمامه مباشرة , وهنا لنا أن نتساءل أي العالمين كان يوجد فيه ؟ أهو ما انقطع عنه مع كونه فيه أم هو العالم البعيد عنه الذي يعيش تفاصيله بدقة متناهية ؟ ثم بعد ذلك أين يقع الحلم إذا كان ليس بمدرك ولا متخيل ؟ وبدقة أكثر لو كان الحلم ليس بمحسوس ولا هو بمتخيل فأين يقع ؟ في أي عالم ؟ إن الفارق بين الحلم وبين المحسوس والمتخيل هو القصد , وأهمية البحث عن القصد أعمق من البحث في كينونة عالمه التي تفترض لها عدة افتراضات ممكنة , بمعنى أن المحسوس والمتخيل يتحققان بقصد الذات أو بقصد العالم الذي يسحبنا / يغرينا / يجرّنا .. إليه , في حين أن الحلم هو مثال على ضياع البوصلة , هو متحقق على غير قصد من الذات , القصد الوحيد فيه هو قصد العالم من غير اشتراك لقصد الذات , إنه أشبه بالثقب الذي يسحبنا دون قصد أو وعي بدئي من ذواتنا , وضرورة البحث في قصدية العالم في الحلم هو كون الحلم جزء من تجربتنا الكلية , لا أحد يمكنه سلخ الحلم عن تجربته , هو كالنص الأدبي وكالفيلم السينمائي نعايشهما لنخرج بعدهما بإضافة للتجربة الكلية , والهدف من الحديث عن المحسوس والمتخيل والحلم هو بيان أجزاء التجربة الكلية للذات , فكلهم هو مجموع التجربة الذاتية لأية ذات واعية مدركة , والمعرفة تتحقق بمفهومها الأوسع من خلالها جميعاً , وإذا كان التخيل يخرجنا ( آنياً ) من مفهوم مكاننا وزماننا الواقعي فإنه يدخلنا حيز مكان وزمان آخرين , في حين أن الحلم لا يتقيد بحدود معينة للزمان والمكان , ومفهوم المعرفة متحقق في كل من المحسوس والمتخيل والحلم , لا أدل عليه من حلم إبراهيم ع بخصوص ذبح ابنه , فالوحي بوصفه معرفة يقينية الوجوب يتحقق بكل من طرق الإدراك والتخيل والحلم , فهو ـ الوحي ـ يتحقق بالحلم والإلهام وما سواها من طرق معروفة تقع في حيز ما أشرنا إليه من تحقق المعرفة , ومع ملاحظة اختلاف الأمر مع غير المعصوم في تحقق المعرفة اليقينية في مستوى من مستوياتها يبقى الحلم والتخيل ضمن مفهوم تجربته الكلية , ولعلنا هنا نشير إلى سبب تكويني في الضرورة من اختزال العالم في ملفوظات عُبر عنها باللغة تجوزاً , وإلا فهي صورة من صور إمكان اللغة , بمعنى أن التشريع بوصفه معرفة جاء في القرآن الكريم مثلاً بوساطة اللغة الممثلة بالمنطوق والمكتوب , وهي صورة من صور الانتقال من العالم المعبر عنه بشكل مجحف بــ ( المعنى ) إلى عالم معبر عنه بــ ( اللفظ ) , ولعل صورة الفارق بين هذين العالمين يحقق لنا تصوراً بدائياً عن اختزال العوالم , وتبقى المعرفة أوسع من تحققها في صورة عالم أوحد , وهي مشروطة بالذات الفاعلة والمنفعلة بتحقق المعرفة , في حين أن ( المثال ) يمكّننا من اختزال العوالم عبره , فالحلم يمكن أن نمثّله في المنطوق حين نرويه لأحدهم كما يمكن تمثيله مسرحياً أو سينمائياً , ويبقى في إطار المثال المساوي للمثال لا حقيقة الحلم .
بعد ذلك نتساءل أين يكمن مفهوم اليقينية في كل ذلك ؟ ففي حين يبدو أن المعصوم يحقق المعرفة من كل تلك الطرائق فإن غيره يبقى مقيداً في فهمه للــ ( يقينية ) باختزال العالم عبر المدونة اللغوية وما وصله من تقريرات فعلية مضافة للتقريرات القولية , ومع الفكر المتطرف وفعالياته في إقصاء جزء هام من تلك المدونات أي يقين يمكنه أن يدّعي ؟!!! كل ما يمكن للبشر أن يحققه في سبيل اليقين ( الممكن ) في حدود تعاطيه مع الدين هو ( اختزال ) فكيف بمن يبتسر الاختزال ؟!! لك أن تتصور معي نتيجة الاشتغال ( الفكري ) المتطرف .
إن التجربة الذاتية للإنسان غير مقصورة على واحدة من طرائق تحقق المعرفة التي ذكرناها , ولا يمكنه ادعاء اليقين إلا بصورة الممكن المختزل منها , ولن أجاري الفلسفات التي تذهب إلى انعدام إمكان اليقين لأني أنطلق من ثقافة دينية تشير لهويتي الإسلامية , لكنّي أشعر بالغثيان ممن يدعي أن معرفته يقينية وينطلق من ذلك مكفراً غيره , وأنا أؤمن بأنه ( في الوقت الذي تمنحني ذاتي إدراكاً أو إمكاناً له فإنها تحجب عني إمكانات من تحقيق إدراكات لا متناهية ) لأني كل يوم أدرك بأني في مكان وزمان آخرين لم أكن فيهما قبلاً , كنت تحت ظل القمر المخيف .. واليوم أنا في إمكان إيجاد طرائق للانتفاع من الظواهر الكونية .. أنا الإنسان المؤمن بقوله تعالى (( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان )) هنا يكمن الفارق في ( السذاجة ) التي يتشاركها الفيلسوف مع الجاهل , إن تلك ( السذاجة ) ما هي إلا صورة للنفوذ إلى العالم , لكن الفارق يكمن في أن الفيلسوف قادر على النفاذ في حين يرضى الجاهل بنشوة الوقوف فقط , والفاجعة تكمن في أن الجاهل لا يدرك أنه واقف , إنه يتوهم الولوج في العالم الذي أراد الخالق لنا ولوجه , يقف ويضع على عينيه قصاصة تحجب عنه العالم , هذا هو الفكر المتطرف , جهل لا يدرك جهله .