حمامات الموصل ,,,موروث شعبي عريق ولحظات من الهناء الجميل
يتذكر أبناء مدينة الموصل العديد من المهن والحرف التي تميزت بها هذه المدينة العريقة وهي أعمال موروثة قدمها جيل بعد جيل اشتهرت بها العديد من العائلات التي اشتهرت هي الاخرى بأسماء تلك الحرف والمهن.. و كانت مصدر رزق لها وقد حافظ الآباء والأبناء على احترام مفردات المهنة ومنحوها جل اهتمامهم وقدموا خدماتها بدقة وإخلاص اكسبهم رزقا وفيرا ومكانة دافئة في قلوب الناس.
وقد شكلت مجموعة الأعمال والمهن علامات مميزة وماركات مسجلة للموروث الشعبي للمدينة ولسكانها عبر عشرات السنين.. ومن هذه المهن مهنة (الحمامجية) وهم أصحاب الحمامات العامة التي كانت منتشرة في مدينتنا منذ القرن الماضي ولحد الان.. حيث كانت الدور تفتقر للحمامات النظامية في تلك الفترة خاصة أيام فصل الشتاء القارس وعدم وجود طرق يسيرة لإيقاد نار للتدفئة أو لغليان الماء الضروري للاستحمام وهذا ما اقتصر على نفر قليل من أبناء المدينة من أعيانها وتجارها ووجهائها.
أما الريف فلم يكن أحسن حالا قديما من المدينة في هذا الجانب فوجود الحمام النظامي فيه كان معدوما وقلة من أبنائه تحصل على فرصة الاستحمام في حمامات المدينة اذا تيسرت الفرصة والمال النادر.
ومدينة الموصل كان لها حظ وافر بوجود عدد من الحمامات العامة التي انطلقت خدماتها قبل أكثر من مئة عام وتعاقب على أدارتها العديد من أبناء العائلات المعروفة بإتقان أدارة هذه الصنعة.
دارسين وحامض
حين كان في منطقة باب لكش كان هناك اسم يتردد كثيراً بين الناس وخاصة الرجال هو (حمام الصالحية) في منطقة باب السراي وفي باب لكش كانت تحتضن حماما آخر وهو حمام (باب لكش). كان حمام (باب لكش) ينقسم الى جزئين الأول داخل الفرع السكني وهو مخصص للنساء ويفتح ابوابه منذ الصباح الباكر وحتى ساعات ما بعد الظهر والجزء الثاني خصص للرجال حيث كان بمواجهة محال القصابين ويفتح ابوابه منذ الفجر وحتى اذان العشاء.
وقد تحول موقعه اليوم الى عدد من محال بيع الأجهزة المنزلية.. وكان للحمام قبة بنيت بالطابوق الأحمر والطين ومادة النورة المتكونة من رماد النار بإضافة صفار البيض كمادة لاصقة لتماسك البناء وهذه القبة تعمل على تجميع البخار المتصاعد من الحمام وصحنه الدائري المرتفع بمسافة متر واحد عن الأرض الذي توقد تحته النار ويستخدم للتدليك، كما يشكل داخل الحمام مجموعة الايونات وهي شبيه بالغرف المفتوحة تحتضن حوض الماء الصغير يستخدمها الزبون للاستحمام.
ان الماء المغلي والبارد كان يجري قديما في ساقية داخل الحمام تغذى من خزينة الماء خلف الحمام لينهل منه الزبون للاستحمام لعدم وجود أنابيب نقل المياه المعروفة، أما استحمام الزبون فكان بسعر عانة وهي عملة من العملات المتداولة سابقا وتساوي ( 4 ) فلوس ثم تحول السعر إلى ( 5 ) فلوس ثم ارتفعت التسعيرة بمرور الزمن إلى (25) فلسا وبالتدريج ارتفعت مع ارتفاع تكاليف أدارة الحمام وديمومته لتصل إلى ثلاثة آلاف دينار في الوقت الحاضر.
وبعد استحمام الزبون تقدم له المشروبات الدافئة كالدارسين في الشتاء لتزويده بالطاقة وتكسب جهازه المناعي مقاومة للبرد والنزلات لما للدارسين من فائدة على الجهاز التنفسي . والحامض الذي يصنع من نوم البصرة صيفا ليهدأ الأعصاب من سخونة الحمام كما إن الزبون يزود بعد الاستحمام بمنشفتين يخرج بهما إلى مكان أدراج الملابس التي وضعت بها ملابسه برقم معين. والموصليون اعتادوا على استخدام مناشفهم الخاصة التي يتم جلبها معهم إلى الحمام.
ان موسم ازدهار عمل الحمام هو فصل الشتاء خاصة الأيام التي تسبق الأعياد وأيام الخميس والجمعة وفي مناسبات الأعراس حيث كانت تقاليد الناس تقضي باستحمام العريس مع عدد من أصدقائه على حساب أهل العريس فيما تنتظرهم خارج الحمام فرقة موسيقية شعبية لتأخذ العريس ومعيته إلى منزله تحت إيقاعها وأنغامها.
و اعتاد العديدين من الموصليون أن يكونوا زبائنا دائميين في حمامات الموصل كونها تقدم أفضل الخدمات وأهمها نظافة الحمام ونظافة العمال والاحترام الكبير للزبون، وفي الماضي كان البعض لا نجلب المناشف معهم لتوفرها في الحمام والتي تسمى (الوزرة) ولكنها اختفت الآن بسبب انتشار الأمراض وصار الواحد يجلب مناشفه الخاصة به ويجلب (ليفته) الخاصة وكيس التدليك والصابون وغيرها من الحاجيات الخاصة به.
كان الناس يترددون على الحمام أسبوعياً وأحياناً بين يوم وآخر وخاصة عندما ترتفع درجات البرودة، ويجد الزبون في الحمام الراحة الجسدية والفكرية والاسترخاء الكامل بعد عناء طويل مع مشكلات الشارع والبيت..
أما بائع الدارسين والحامض يعد شراب الدارسين والليمون والعصائر كونها تعطي طاقة وحيوية للذين يخرجون من الحمام خاصة وأنهم يستهلكون طاقة كبيرة داخل الحمام، وكان المستحمين يقبلون على الدارسين أكثر من الشاي والعصائر الأخرى.
حكاية القبقاب الخشبي
يفضل البعض استخدام حمام السوق على الحمامات المنزلية لشعورهم بالارتياح في هذا النوع من الحمامات الذي قد يرتبط بذكريات كثيرة معهم، وقد عرفت مدينة الموصل بعدد من الحمامات في القرن الماضي وأصبحت جزءاً مهماً من تراث المدينة.
كان الحمام مكاناً للقاء الأصدقاء في مواسم الأعياد والعطل ومنها (حمام بور سعيد في منطقة رأس الكور وحمام العطارين (القمرية) في باب السراي والذي هدم قبل عدة سنوات وحمام الدواسة وحمام السراي أو الحدباء قرب الجامع الكبير وحمام المنقوشة في المحلة نفسها وحمام القلعة التي تركت بناءً مهدماً على أمل ترميمها وصيانتها وحمام الصابونجي أو الشيخ عمر في محلة الشيخ عمر وحمام النعيم في جوبة البكارة وحمام قرة علي في محلة الرابعية وحمام السجن في محلة السجن وحمام باب البيض وحمام عبيد أغا في محلة إمام عون الدين وحمام الخاتونية في محلة الخاتونية الحالية وحمام العكيدات في محلة العكيدات الحالية وحمام الاحمدية في محلة اليهود ومالكها امرأة اسمها خاتون خوقة أو هكذا يسميها الناس وحمام التك في سوق البرذعجية وحمام يونس في محلة سوق الشعارين وحمام العلا وتقع في سوق الصياغ (الصاغة) وحمام الزوية في شارع الفاروق وحمام زرياب قرب جامع الخضر (ع) وحمام آل حديد في محلة باب السراي وحمام الوادي في محلة الجولاق (الأوس أو الساعة حاليا).
المدلكجي.. مهارة وفن
المدلكجي.. مهارة وفن
المدلكي في العادة هو شاب يتميز بقوة الجسم والنشاط و هذه المهنة تحتاج إلى قوة ومهارة وفن كونها تقدم نوعاً من العلاج الطبيعي إلى الزبون إضافة إلى عنصر النظافة فاستخدام الكيس النسيجي الملون المصنوع من وبر الحيوانات يحتاج إلى خفة وقوة ومهارة لتنظيف جسم الزبون، كما يستخدم المدلكجي يديه لتدليك الزبون بعد استرخاء جسمه مع حرارة الحمام وبخاره المتصاعد لينتج عن ذلك راحة للأعصاب والقضاء على التشنجات التي يصاب بها المرء وخاصة الرياضي الذي يعاني من ألام التشنجات أو يرغب في تخفيض وزنه.
والبعض كان يستمتع بساعات الاسترخاء الجميلة مع البخار المتصاعد داخل الحمام بصحبة الأصدقاء حيث يتم التجمع أسبوعيا في ذلك المكان الذي يشكل طقوس نظافة ومتعة ومن الأمور التي لا تنسى هي سماع قرع الإناء المعدني المصنوع من النحاس بقوة على حافة حوض الماء وهو بمثابة إعلان من الزبون عن نهاية رحلة الاستحمام ليهرع له عامل الحمام حاملا المناشف الخاصة بخروجه.
ومن اعتاد زيارة الحمامات لا يمكنه نسيان صوت القبقاب الخشبي الذي ينتعله الزبون داخل الحمام وهو الخف المصنوعة قاعدته من خشب الصاج ويعتليها سيرين من الربل خصصت لمقاومة الماء والرطوبة، لكن البعض كان يصاب بحالات إغماء نتيجة بقائهم فترة طويلة داخل الحمام.