سور الموصل
لما تولى الموصل بكر باشا بن إسماعيل بن يونس الموصلي، فإنه سعى بترميم سور الموصل، فرممه باللبن سنة (1035ه – 1625م)، ويذكر العمري أنه صار نافعاً في الجملة.
فالسور الذي رممه بكر باشا الموصلي لم يكن محكماً يقاوم الهجمات القوية التي يشنها الأعداء.
وفي سنة (1040ه – 1630م)، وصل الموصل السردار خسرو باشا، وشرع في عمارة سور الموصل ومنها توجه إلى ماردين، فكان السور أقوى مما كان عليه. وفي سلخ جمادي الأول سنة (1048ه – 1638م)، وصل الموصل السلطان مراد في طريقه إلى بغداد، وتفقد السور.
بقي السور على ما هو عليه بحالة غير مرضية، حتى تولى الموصل الحاج حسين باشا الجليلي، وفي سنة (1156ه – 1743م)، توجه إلى العراق نادر شاه قولي خان، وبعد أن احتل بغداد، توجه إلى الموصل، رأى الحاج حسين باشا حالة السور وما هو عليه لا يقاوم مدافع العدو، فجمع أهل البلد وحثهم على تجديد السور وأحكام بنائه، فهبوا في بناء ما أنهدم منه، وحفروا الخندق الذي يحف به، وقاموا بتسوية التلع والحفر التي ظاهر المدينة، وبلغ من اهتمامه بهذا أنه كان يشاركهم هو وأبناء أسرته في الحفر والبناء، ونقل الأنقاض، وبعد أن تم تحصين المدينة أمر بحفر آبار يبعد أحدها عن الآخر عشرة أذرع، حتى إذا حاول العدو نسف السور بواسطة ألغام تملأ بالبارود فإن قوة البارود تتسرب إلى الآبار ويسلم السور، وقد صدق ظنه فإن نادر شاه عندما حاصر الموصل سنة (1156ه)، حفر ألغاماً خلف السور، وملأها بالبارود ولما أشعلها، تسربت قوة البارود إلى الآبار وسلم السور.
ولما اشتد الحصار، أمطر نادر شاه المدينة بوابل من القنابل، وهدم أقسامها من السور في عدة مواقع منه، وكان المواصلة يتداركون الثلمات ببنائها، ويسدون غيرها بأكياس مملوءة بالتراب.
ولما رفع الحصار عن المدينة، وخرجت ظافرة منتصرة على العدو، صدته يجر أذيال الفشل، سعى الحاج حسين باشا في ترميم السور وأحكامه وذلك في سنة (1168ه – 1754م)، يقول العمري عن هذا:
"جدد الوزير الحاج حسين باشا الجليلي للموصل سوراً مكين البناء، راسخ الجوانب، ثابت القواعد والأساس ولم يتفق له تكملته لأنه صرف عن الموصل، وصارت عمارته قريباً من نصف السور، وبعده توقف أمر الترميم حتى ولي الموصل سليمان باشا الجليلي سنة (1190ه – 1776م)، فسعى بإكمال عمارة السور وذلك على عهد السلطان عبد الحميد خان بن السلطان أحمد خان، فبنى منه مقدار 300 ذراعاً وبرجاً واحداً، وباباً واحداً لدار الحكم هو باب السراي محكم البناء، ولم يتفق إتمامه لأنه أيضاً عزل".
وذكر أخوه ياسين العمري في حوادث (1216ه – 1801م)، ما يأتي عن عمارة السور:
"جاء الأمر السلطاني بإشارة والي بغداد، إن يعمر سور الموصل، وقام بهذا الأمر الوزير محمد باشا وأعطى من ماله عنه، وعن الشرفاء والعلماء خمسة عشر كيساً، وأخذوا من جميع الأعيان والتجار وأرباب الحرف من كل فرد ما يليق به وباشر بعمارة".
وفي سنة (1231ه – 1816م)، زار الموصل الرحالة الانجليزي (بوكنكهام) وذكر عن السور ما يأتي:
"لما يدخل المرء المدينة من الجهة الشمالية الغربية، يبدو له أنها كانت محاطة في وقت من الأوقات بخندق امتلأ الآن بالأتربة، أما السور فكان متهدماً وهو لم يعد يؤلف سوى عقبة تافهة أمام الجيش المزود بالمدفعية الذي يحاصر المدينة، ومع ذلك فقد يعتبر حاجزاً يكفي لصد الأعداء الذين كانوا يحاولون الظهور أمامه".
إن احمد باشا الجليلي عني ترميم السور وإصلاحه، وتجديد قلاعه وأبوابه، وذلك في سنة (1237ه – 1821م)، فإنه جدد باب سنجار، وباب البيض، والقلعة المستديرة التي في السور بجانب باب سنجار ويقول جون استر عندما زار الموصل سنة (1281ه – 1864م)، ان أسوارها عالية منيعة، لأنها مبنية بقطع كبيرة من الحجر، ومجهزة بعدد من الحصون والأبراج.
أهمل أمر السور، ولعبت به معاول الحجارين يهدمونه، ويتخذون من أنقاضه مواداً للجص، فهدموا بعض أقسامه وقلله، ولا من أحد ينهاهم، كما أن بعض رجال الدولة العثمانية إذا ما احتاجوا إلى مواد بناء فإنهم كانوا ينقضون قسماً من السور ويبنون بأنقاضه.
ويقول فليكس جونس عنه عندما زار الموصل سنة (1269هـ – 1852م)، "أما السور نفسه فإنه جدار بسيط منحن، لا مناعة حصينة فيه، مستند على أبراج، نصف هلالية غير منتظمة، تختلف في أحجامها، ووراء هذا السور خندق، معدل عمقه عشرون قدماً وعرضه خمسون قدماً".
والسور الذي أدركناه، والذي عمر في فترات متباينة، لم يكن كله على أساس السور الأتابكي، الذي شيدوه في القرن السادس للهجرة، وإنما عفوا آثار السور العقيلي الذي كان يمتد من باب المشرعة إلى باب سنجار، وجددوا السور الذي كان قد بناه عماد الدين زنكي من قلعة الموصل – باش طابية – إلى باب سنجار، والذي كان يحف بالميدان من الناحية الشمالية، كما أن الأبراج التي كانت في السور في العهد الأتابكي لم تعد صالحة لما عليه الأسلحة الحديثة كالمدافع والبنادق وغيرها، واتخذوا في كل برج ثلاث فتحات تتسع الواحدة منها لمدفع، واتخذوا به فتحات يرمى منها بالبنادق.
كما أن الحاج حسين باشا الجليلي عندما رمم سور الموصل سنة (1156هـ) فإنه لم يبين كل أقسام السور على ما كان عليه قبلاً وإنما دفعه إلى الخارج في بعض المواقع، كما أنه أدخله إلى جهة البلد في مواقع أخرى، حسب ما رآه صالحاً للدفاع أكثر مما كان عليه سابقاً.
وكان في السور أثنا عشر برجاً من جهات البر، ذكر العمري عن حصار نادر شاه للموصل ما يأتي:
"ونقل جنوده – أي نادر شاه – والأسرى الذين معه الحجارة والتراب، وأقام حول البلد أثني عشر برجاً، مقابلاً للبروج الاثني عشر، ونصب على تلك البروج المدافع و ...".
ونحن نعلم أن نادر شاه حاصر المدينة من جهاتها البرية الثلاث، أما جهة النهر فكان فيها بروج غير هذه، لم تزل بقايا بعضها باقية إلى اليوم.
ويذكر شمس الدين سامي في كتابه قاموس الأعلام: "أنه كان في سور الموصل ثماني عشرة قلة – أي برج – وعليه فقد كان في القسم المشرف على النهر ستة بروج.
أما الأبواب التي كانت في العهد الأتابكي فهي تسعة أبواب:
باب الجسر:
هو من أقدم أبواب المدينة يؤدي منها إلى الجسر، جاء في حوادث سنة (132هـ – 749م)، إن مروان بن محمد، آخر خلفاء الدولة الأموية، بعد أن انهزم من معركة الزاب جاء إلى الموصل وفيها أمواله وخزائنه فوقف مروان على الجسر، فاستفتح بابه، فقيل له: من أنت؟ قال: "أنا أمير المؤمنين، قال له هشام بن عمرو الزهيري: كذبت إن أمير المؤمنين لا يفر من الزحف، وأبى أن يفتح بابه".
ثم كثر ذكر هذا الباب، ومن ذلك ما ذكره ابن الأثير في حوادث سنة (575 هـ) قال: "وفيها قارب الجامع الذي بناه مجاهد الدين قيماز بظاهر الموصل من جهة باب الجسر الفراغ، وأقيمت فيه الصلوات الخمس والجمعة"، وكان أمام الجسر ساحة واسعة هي ساحة "باب الجسر"، وكان باب الجسر قائماً إلى قبيل الحرب العالمية الأولى، فهدم الباب، ولم يبق له أثر ولم يكن فوقه كتابة أو زخرفة عند العدم، ولعله عفي ما كان عليه منهل عندما جدد في زمن قريب.
باب المشرعة:
يقع على نهر دجلة، جنوبي دور المملكة – قرة سراي – التي بناها الأتابكيون، والذي نراه أنه يقع في محل باب شط المكاوي الذي لم يزل قائماً.
جاء عن سيف الدين غازي بن عماد الدين زنكي المتوفى سنة (544 هـ – 1149م)، أنه دفن بالمدرسة التي أنشأها بالموصل، وبنى بالموصل المدرسة الأتابكية، وهي من أحسن المدارس وأوسعها، وجعلها وقفاً على الفقهاء الشافعية والحنفية نصفين، وبنى أيضاً رباطاً للصوفية بالموصل، وهو الرباط المجاور لباب المشرعة.
ويذكر ابن الأثير أيضاً في كتابه الكامل: "وبنى رباطاً للصوفية بالموصل على باب المشرعة"، والذي نراه أن مقام (عيسى دده) أنشئ على أنقاض الرباط المذكور.
أما باب شط المكاوي فإنه من أبواب المدينة التي تؤدي إلى النهر، وأكثر من يقصده السقاؤون قبل أنشاء مشروع الماء في الموصل وكان قد جدد هذا الباب سنة (1216هـ) وقد كان مكتوباً عليه: توكلنا على الله وذلك سنة (1216هـ).
الباب العمادي:
فتحه عماد الدين زنكي بن آق سنقر، وهو يؤدي من الميدان إلى ظاهر المدينة – الربض الأعلى – منها، وموقعه في المحل الذي عليه محطة تعبئة النفط المجاورة لمطبعة جامعة الموصل، ذكر أبو الفدا في حوادث سنة ( 570 هـ – 1174م)، "وفيها مات قطب الدين قيماز قبل أن يصل إلى الموصل، فحمل ودفن بظاهر الباب العمادي".
وذكر ابن الأثير عند كلامه عن حصار صلاح الدين الأيوبي للموصل سنة (581 هـ)، قال: "فلما قارب المدينة نزل على فرسخين منه، وامتد عسكره في تلك الصحراء بنواحي الحلة المراقية، وكان يجري بين العسكريين مناوشات في ظاهر الباب العمادي".
ولم ندرك أثراً للباب المذكور، ولعله سد أثناء ترميم السور، وكان أهل الموصل يطلقون اسم "باب العمادي" على باب فتحوه في أنقاض القلعة – باش طابيا – وهو خطأ، فالباب العمادي كان يؤدي من الميدان إلى المقام المعروف (ببنجة علي) والباب الذي فتح في جدران القلعة، لم يكن باباً مبنياً، وإنما فتحوا ثغرة في جدار باش طابيا وصار يسلكه الحجارون الذين كانت أكوار الجص ظاهر هذه الثغرة، كما فتحوا ثغرة أخرى قريبة من الاولى، وصادف بعد فتح الثغرة أن حل الوباء في الموصل فتشاءموا منه وسموه (باب الوباء) وسدوا الثغرة.
ولما تولى الحكم حزب الاتحاد والترقي في الدولة العثمانية، أعادوا فتحه وسموه "باب الحرية"، أدركنا هذه الثغرة يسلكها الناس إلى ظاهر البلد، وبعد بناء المستشفى الجمهوري، وانتشارا العمارة حوله، عُبِد الطريق الذي يصل بين الميدان وظاهر المدينة، وهو الذي يمر أمام بناية الميتم الإسلامي لجمعية البر الإسلامية.
باب سنجار:
وهو من الأبواب القديمة في سور الموصل، ذكره أبو زكريا الأزدي في حوادث سنة (129هـ) عند كلامه عن قبائل الموصل، فقال: "وممن قدم الموصل من أخوة سليمة، معن بن مالك، ومنازلهم في الموصل باب سنجار، والمسجد الذي فيه مسجدهم، وكان باب سنجار في أيديهم وأيدي سليمة".
وعليه فإن باب سنجار من بناء مروان بن محمد، عندما تولى الموصل، ووسع سورها الموقع الحالي عند نهاية شارع إبن الأثير من جهة المستشفى أي عام 1909م وجدده، جدد الباب في فترات متباينة، وممن جدده بدر الدين لؤلؤ – صاحب الموصل – سنة (641هـ)، ومن الكتابات التي كانت على الباب المذكور، والتي تعود إلى زمن بدر الدين لؤلؤ:
فوق قنطرة الباب من الطرفين صورة سبع، وأمامه حيوان يشابه الأرنب، وفيما بين الصورتين المذكورتين على يمين حجر زاوية القنطرة – أي مفتاحها صورة رجل متربع، ضمن هلال، كما في بعض المسكوكات الارتقية.
وفي قنطرة باب سنجار رخامة مكتوب عليها ما يأتي: "أمر بعمارة (هذه الدركاه المعمورة)، مولانا بدر الدنيا والدين أبو الفضائل أتابك سنة إحدى وأربعين وستمائة".
وفي سنة (1237هـ – 1821م)، جدد بعض أقسام الباب المذكور، أحمد باشا الجليلي، كما جدد القلعة المستديرة التي في السور بجانب باب سنجار عن يمين الخارج منه، وكتب الأبيات التالية وهي من نظم قاسم حمدي بن يحيى آل محضر باشي يؤرخ العمارة.
عمر الوزير الشهم أحمد للورى وأقام أبراجاً لشمس سعوده قد حاز خير مناقب ومآثر شيدت قواعدها بهمته التي من بعد ما اندثرت بأدنى مدة لا غرو أن شمخت معالمها فقد ~ حصناً بعلياه الزمان يباهي أنىّ لرفعتها البروج تُباهي وحوى بها فخراً بغير تناهي تسمو على الجوزاء بالاكراه بلغت عمارتها الكمال كما هي نادى نادى المؤرخ: أمر ظل الله
والباب المذكور يقع في اللحف الغربي من (تل الكناسة)، أقرب ما يكون إلى الموضع الذي عليه تمثال أبي تمام الطائي، يقابل الطريق الحالي الذي يؤدي إلى "حي الزنجيلي" لأن الطريق المذكور كان الذي يسلكه الناس في سفرهم إلى الغرب، أما الطريق الحالي الذي يكون من تل الكناسة إلى حي الثورة والى الغرب، فإن السلطات البريطانية اتخذته بعد احتلال الموصل سنة (1918م).
نقل هذا التمثال لاحقاً الى شارع الكورنيش ولم يعد له وجود الآن.
وكانوا يطلقون اسم (باب الميدان) على باب سنجار، لأنه يؤدي من الميدان إلى ظاهر المدينة، وعرفت المقبرة المجاورة لمرقد الشيخ قضيب البان الموصلي (بمقبرة باب الميدان) ودفن فيها كثير من أعلام الموصل وممن دفن فيها: مجد الدين أبو الفضل عبد الله بن احمد بن محمد الطوسي المتوفى سنة (578 هـ – 1182م)، ودفن بمقبرة باب الميدان، ودفن فيها أيضاً عز الدين ابن الأثير المؤرخ المشهور المتوفى سنة (630 هـ)، وقبره لم يزل ظاهراً.
وكان باب سنجار من اكبر أبواب المدينة، وحوله من الداخل غرف ومرافق وإسطبلات للجيش وخيوله وعتاده وما يحتاجه، وفوق هذا غرف أخرى محكمة البناء والبروج.
وفي الحرب العالمية الأولى هدم الباب سليمان نظيف بك الوالي العثماني في الموصل، وبنى بأنقاضه أسس مدرسة في اللحف الغربي من تل الكناسة ليتخذها مدرسة صناعة، ولكنه نقل إلى بغداد وتوقف بناء المدرسة.
باب كندة:
الذي أراه أنه كان في محل الباب المسمى في الوقت الحاضر "باب البيض" ولم أعثر إلا على نص واحد يذكر هذا الباب، جاء في حوادث سنة (578 هـ – 1182م)، عن حصار صلاح الدين الأيوبي الموصل:
نزل صلاح الدين محاذي باب كندة، وأنزل صاحب حصن كيفا، محمد بن قرار على باب الجسر، وأنزل تاج الملوك عند باب العمادي"، فصلاح الدين حاصر الموصل من جهاتها الثلاث التي تشرف على البر، وأتخذ مكانه في وسط هذه الجهات، وعليه فإن باب كندة كان في محل باب البيض على ما نرى.
الباب الغربي:
وهو من الأبواب التي لم أتمكن من تعيين موقعه بالضبط، سوى أنه يقع غربي المدينة، جاء عن عز الدين مسعود الاول بن قطب الدين مودود المتوفى سنة (589 هـ – 1193م): "وهو الذي فتح الباب الغربي في الموصل وهو باب بين باب كندة وباب العراق ولم يكن هناك باب، فجاء حسناً وانتفع به أهل ذلك الصقع".
وكان قد أعلمني المرحوم الدكتور داؤد الجلبي (1879 – 1960 م) ، أنه قبل نقض السور كان قد شاهد آثار باب بين باب البيض – باب كندة – وباب العراق .