رمضـان في الموصـل .. أيـام زمـان ...
(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) (البقرة /185).
لشهر رمضان عند أهل الموصل قدسية ومكانة مرموقة وسـمه إيمانية متميزة امتثالاً لأمر الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) (البقرة /183). وابتهاجاً بقوله صلى الله عليه وسلم :( إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين ) (رواه أبو هريرة /رض)، والحديث القدسي (الصوم لي وأنا أجزى به). هو شهر الصيام والقيام والتهليل والتكبير والتسبيح والتحميد والاستغفار والتراويح والقرآن ونوال الجنة والعتق من النار.
ولهذا الشهر الفضيل طقوسه الموصلية من عادات وتقاليد اعتادوا على ممارستها والتمسك بها خلال هذا الشهر الكريم وتعظيما شعائره (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب). وفي المألوف الشعبي الموصلي طعما خاصا من تقديسه والاحتفال به سـواء من الشيوخ والشباب وحتى الأطفال، فقراء وأغنياء متوارثين ذلك الأبناء عن الآباء والأجداد .
يبدأ استقبال رمضان من شهر رجب ، فقد أعتاد الكثير من أهل الموصل صيام أيام عديدة من شهري رجب وشعبان ، خاصة يومي الاثنين والخميس منهما تطوعاً أو إيفاء لما أفطروه من رمضان السنة الماضية بعذر شرعي.
تتهيأ العائلة الموصلية لمقدمه بتوفير المواد الغذائية الخاصة به كالتمن (غز العقغ ) والدهن الحر والتمـر والسكر والشاي والقهوة ونوم البصرة والزبيب والتوابل والعطور وغيرها، إضافة لمّا هو متوفر لديها من المؤونة السنوية من البرغل والرشتة والحبية ( الكشكا ) والعدس والحمص والطحين وغيرها.
وقبيل رمضان تقوم العائلة بخبز كميات كبيرة من خبز الرقاق (أقاق) ، بما يكفي شهر رمضان ، إذ يصعب على المرأة خبز كميات من الخبز وهي صائمة، ووضعه في ( الدن ) وهو وعاء كبير من الطين غير المفخور شكله نصف كروي بقطر وارتفاع حوالي متر ونصف . وتقوم العائلة التي تمكنها حالتها المادية من عمل البقلاوة ( شـد بقلاوة ) والشكرلمة والحجي بادة الخ .. وكبس الطرشي والمخللا بنوعيها (الناعمة والطزوز) والفليفلا الناعمة والخشنة والباذنجان الناعم والطماطة الخضراء وحشي ذلك بالكزبرة والثوم ولفهم بالكرافس وكبس اللهانة والقرنبيط والزيتون الأسود والأخضر ،وثوم العجم والخيار والترعوز وكبس الخل وكل ذلك حسب الموسم , وحفظ هذه المكبوسات في الرهرة أو السرداب في الدنان والبراني الخاصة بذلك.
الترحيب بشـهر رمضان
يجري الترحيب بقدوم هذا الشهر المبارك في عشاء آخر جمعة من شهر شعبان ، إذ يجتمع عدد من المصليين في الجوامع قبيل صلاة العشاء للترحيب بشهر رمضان على المنائر وحول القباب وأسطح الجوامع والمساجد إعلاماً بقرب قدوم هذا الكريم ، ويصدح بعض القراء والمداحين بالتمجيد والتهليل والتكبير وإنشاد بعض المدائح النبوية الشريفة على ضرب الدفوف وأضوية الفوانيس و(اللوكسات) (قبل شيوع الكهرباء) ثم يبدأ أحد القراء بالترحيب برمضان ويردد معه بعض الحاضرين :
مرحباً مرحباً يا رمضـان يا شهر المغفرة والقـرآن
مرحباً مرحباً يا رمضـان يا شهر الطاعـة والغفران
مرحباً مرحباً يا رمضـان يا شـهر التسابيح والإيمان
مرحباً مرحباً يا رمضـان يا شـهر العتق من النيران
مرحباً مرحباً يا رمضـان يا شهر التراويح والإحسان
بعدها يرفع أذان العشاء فينزل الجميع لأداء صلاة العشاء ، ومن خلال هذه الترحيبات الإيمانية تبرز أصواتاً عذبة طرية من افواه الأطفال المرحبين ليعطيها طعما إيمانيا لطيفا، فالكل فرحون مستبشرون بشهر رمضان الخير. وعادة في خطبه آخر جمعة من شعبان يركز خطباء الجوامع على أهمية شهر رمضان والحث على صيامه وقيامه موضحين ماله من الأجر والثواب والفضيلة شارحين أحكامه العام
مراقبة رؤية هلال رمضان
في اليوم التاسع والعشرون من شهر شعبان وقبيل الغروب يخرج العديد من الناس إلى أحواض المنائر وأسطح المساجد والمنازل العالية والأماكن المرتفعة لمراقبة الهلال مركزين أنظارهم نحو مغرب الشمس لرؤية هلال رمضان ، ومنهم من تخصص برؤية الهلال عن طريق (طست الماء) حيث ينعكس الهلال فيه عند طلوعه فإذا ما رأى أحدهم الهلال يعلن الرؤية بفرح وسرور مكبراً حامداً الله تعالى رافعاً اكفه إلى السماء داعياً بالدعاء المأثور (اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام ، ربي وربك الله ، هلال رشد وخير)..
ما أن تثبت الرؤية حتى تتعالى البشائر وتطفح الوجوه بالبشرى وتعمر القلوب بالإيمان ويكثر التهليل والتكبير والتحميد والتمجيد. ثم يهرع عدد ممن ثبتت لديهم الرؤية إلى المحكمة الشرعية التي فتحت أبوابها من المغرب لاستقبال من يشهد برؤية الهلال وبعد أداء الشهادة من الشهود العدول، يعلن القاضي الشرعي عن ميلاد الشهر، كانت ولا زالت رؤية الهلال في معظم الأعوام في العراق تتم في الموصل , ثم يؤمر بإطلاق (طوب غمضان ) (وهو مدفع ينصب على حافة نهر دجلة قرب الجسر الحديدي القديم). وإذا لم يكن في قرية محكمة شرعية يقسم الشاهد على رؤيته الهلال عند أمام الجامع في منطقته ويبلغ الإمام المحكمة الشرعية برؤية الهلال.
وتصدح المنائر والقباب والمساجد بالتهليل والتكبير وتنار بالفوانيس ( قبل شيوع الكهرباء) والقناديل الكهرباء بعد انتشارها وتبدأ صلاة التراويح وقيام رمضان . وفي حالة عدم رؤية الهلال بعد أن يجدوا في التماسه مما يعيق الرؤية من غيم وغيره وبعد انتظار القاضي وقتاً كافياً يعلن عدم الرؤية وإكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً لقوله صلى الله عليه وسلم (الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه فان غم عليكم فاكملوا العدة ثلاثين )..
التمجيــد
من الشعائر في رمضان بالموصل (التمجيد) وهو التعظيم . حيث كانت اغلب الجوامع يشـدو فيها من أعلى المنارة قبل وقت السحور بساعة صوت الشادي ممجداً لله تعالى معظماً لرسوله صلى الله عليه وسلم. لتنبيه الناس بوقت السـحور .
المسـحّر أبو السحوغ
قبيل ساعة من وقت الإمساك يدور في كل محلة أو حارة شخص أو أكثر يضرب على دف أو نقارة أو غير ذلك منادياً على الناس
(اقعدوا عالسحوغ، يرحمكم الله ،لا إله إلا الله ، أقعدوا عالسحوغ)
وبعضهم يمدح من بعض المدائح النبوية الشريفة ، وقد يطرق بعض الأبواب حسب طلبهم. يؤدي ذلك بهمة ونشاط لا يثنيه برد ومطر الشتاء ولا حر الصيف، وقد ينقده بعض الموسرين شيئاً من المال قبيل العيد وأكثرهم لا يقبل أي مال لقيامه بذلك حسبة لوجه الله تعالى. كما يضرب ( طوب ) السـحور هو الآخر لتنبيـه الناس بوقت السحور .
السـّــحور
يحرص أهل الموصل على طعام السحور لقوله صلى الله عليه وسلم (السحور بركه فلا تدعوه ولو أن يتجرع أحدكم جرعة ماء فان الله وملائكته يصلون على المتسحرين) رواه أحمد، ووقت السحور الشرعي من منتصف الليل إلى طلوع الفجر، ومن الأفضل تأخير السحور، وشرعاً هو تأكيد فعلي لنية الصيام التي مكانها القلب.
أول من ينهض من النوم عند سماع صوت الممجد والمسحّر أو (طوب) السحور أو منبه الساعة (إن كان لديهم ساعة ذات جرس منبه) ربة البيت لتسرع هي ومن يساعدها من بناتها وكنائنها في إحضار سـفرة السحور التي سبق أن تم تهيئة معظمها من العشاء ، ويستيقظ باقي أفراد العائلة ، ويحاول الأهل إيقاظ أطفالهم لمشاركة أهلهم طعام السحور لينالوا بركتهوتعويدهم على ذلك رغم أنهم غير مكلفين لصغر سنهم .
وعادة يكون طعام السحور حسب مقدرة العائلة المالية ورغبة الشخص . والقليل من يفضل الأطعمة الدسمة والبعض يتناول الأطعمة العادية كالتمّن والمرق والأكثر شيوعاً تناول الأطعمة الخفيفة كالألبان ومشـتقـاتها من أجبان وغيرها، ويتجنب تناول الطعام الذي يسبب العطش.
عند اقتراب وقت الإمساك بغسل كل منهم فمه وأسنانه والتسوك وشرب قدر حاجته من الماء ناوي الصيام ، وبعد سماع مدفع الإمساك ( طوب الاحترام ) وإطفاء قناديل المنائر وصدوح أصوات المؤذنين معلنين وقت الإمساك (احترام ، أمة محمد ، احترام)، ويمـد صوته في كلمة احترام يردد ذلك ثلاث مرات.
بعد الإمساك يقوم كل منهم بالوضوء استعداداً لصلاة الصبح سواء في الجامع القريب بالنسبة للرجال والفتيان ، وخلال الفترة ما بين الإمساك وأذان الفجر ينشغل الكثير منهم في قراءة ما تيسر من القرآن الكريم أو التسبيح والاستغفار والدعاء فالكل في صلة روحية بين الخالق والمخلوق وبين العبد وربه.
التفجيــر
بعد السحور يهرع الناس إلى المساجد لحضور دعاء التفجير ويكون قبل صلاة الفجر قرابة أربعين دقيقة ، وهو حمد وتسبيح وذكر ودعاء وصلوات واستغفار بصورة جماعية ، لقوله تعالى (والمستغفرين بالأسحار) ويستمر ذلك لحين أذان الفجر وبعد صلاة الفجر يعودون إلى دورهم .
معالم رمضان
من بداية رمضان المبارك يظهر تغير واضح في حياة الناس لقدسية الشهر وتمييزه عن باقي الأشهر، يسود الهدوء والسكينة والسمو الروحي والإشعاع الإيماني، إمساك عن الأكل والشرب والمفطرات، فالمطاعم والمقاهي مغلقة خلال النهار ولا تفتح أبوابها إلا قبيل المغرب عدا بعض المطاعم المجازة من البلدية وقد سترت مداخلها وشـرفاتها بقماش سـميك، وعدم المجاهرة بالإفطار سـواء من المفطرين لعذر شـرعي ومن أبناء الطوائف الأخرى . ومن أنجز عماله وله متسع من الوقت يأخذ قسطاً من القيلولة بعد صلاة الظهر خاصة في الصيف لتعينه على صلاة التراويح وقيام الليل وقراءة القرآن الكريم.
وقت العصـر
قبيل العصر تدب الحركة بين الناس كل حسب غايته وهدفه، معظم الرجال والفتيان يهرعون للجوامع لأداء صلاة العصر وسماع الدروس الدينية التي كانت تلقى في معظم الجوامع ًيوميا، وبعد الانتهاء من الصلاة والتسبيح، يبدأ القارئ بقراءة عشر من القران الكريم ، ثم يعتلي الشيخ كرسي الوعظ، ويستمر بدرسه إلى قرابة الغروب ، وبعد انتهاء الدرس يتلو القارئ ما تيسر من القرآن الكريم ، ويخرج المصلين من الجامع وقد استوعبوا الدرس الديني كل حسب ثقافته. ويتأخر الشيخ عن الخروج من المسجد للإجابة على بعض الأسئلة الشرعية ، ويبقى بعضهم لصلاة المغرب .
كما تنشط الحركة التجارية بعد العصر في الأسواق والمحلات والشوارع والباعة المتجولين وأصحاب البسطات على الأرصفة ومفترقات الطرق والأماكن المزدحمة، وتسمع نداءات الباعة على سلعهم مثل (فطورك يا صايم )، ويتسوق الناس من الطرشي والزيتون وشربت الزبيب واللبن الذي يكون مرغوباً فيه مع طعام الإفطار، (لعمل الشنينة )، والثلج إن كان الموسم صيفاً، قبل انتشار الثلاجات. والحلويات بأنواعها مثل البقلاوة والزلابيا . وغيرها من العوائل الفقيرة التي لا يمكنها من عمل (شد البقلاوة) في دورهم كالأثرياء و الحلاوة بأنواعها.
وكذلك أصحاب الكرزات بأشكالها والحلقوم والسجقات والتين المجفف وغيرها. وباعة الفواكه حسب مواسمها والألبان ومشتقاتها وهكذا تنشط الحركة التجارية من العصر إلى قبيل المغرب.
الأطفال في رمضان
اعتاد أهل الموصل حث وتعويد أطفالهم على الصيام منذ الصغر عند قدرتهم عليه ويشوقوهم إليه ويوقظوهم للسحور حتى من لم يصم منهم ليتعودوا ذلك ، وينالوا بركة السحور ويحثوهم لصيام ولو لجزء من النهار إلى الضحى أو الظهر ويمزحون معهم بأن (يشلل) أي يربط كل يوم بالآخر. ومما اعتادت عليه معظم العوائل الموصلية إذا بلغ الطفل سن السادسة أو دخل المدرسة الابتدائية يصوم خاصة إذا كان المناخ ملائماً وبارداً.
ومما يعجب الآباء والإخوان أخذ الأطفال معهم للجامع وقد ألبسوهم (الدشداشة والعرقجيين) لأداء صلاة العصر في الجامع وسماع الدرس الديني لتعويدهم على ذلك وإشغالهم عن معاناة الصيام، وبعد خروجهم من الجامع يتجمع أكثر أولاد المحلة قرب منازلهم وعند مفترقات الطرق في المحلة والصائمون منهم يلمزون المفطرين بكلمات فيها توبيخ لإفطارهم ويرددون بنغم خاص :
الصايم عالبـناغة .. والمفـطغ ياكل فاغـه
الصـايم شـيشـي .. والمفطغ اكديشــي
الصايم شيش كباب .. والمفطغ وسخ الدواب
الصايم بالعليي .. والمفطغ نفسـو دنيـي
وغير ذلك...
ومن علامات الصائم لديهم إخراج ألسنتهم ، فإذا كان لون اللسان أبيض يعني أن صاحبه صائم ، ومن الجميل أن تعمد الفتاة الصائمة إلى التحجب أثناء صيامها وتعصب رأسها بغطاء الرأس بحيث لا يظهر منه إلاّ وجهها، وتذهب للمدرسة بذلك الحجاب وتبقى بحجابها لحين الإفطار.
وقبيل موعد الإفطار يصعد الأطفال على أسطح منازلهم لإعلام أهلهم وذويهم عند سماع مدفع الافطار (طوب)، وسماع الأذان ، وبعض الأطفال كان يأخذ معه طاسة ماء أو شربت ليفطر عليه في السطح ، وما أن يسمعوا صوت مدفع الإفطار وأذان المؤذنين (لان مكبرات الصوت لم تكن منتشرة في الموصل قبل الستينات) ، حتى يصيحوا بصوت واحد لا إرادي (هــااااايي .. هـااااايي ) بإطالة حرف الهاء. منادين من أعلى السطوح على أهلهم (طق الطوب ... أفطغوا ...أذّن ... أذّن ... أفطغوا) ويكثر صياحهم بذلك .. ما أجملها من دقائق روحانية عذبة تفرح الصائم بإحدى الفرحتين عند إفطاره وعند لقاء ربه.
فقد كان قبل انتشار مكبرات الصوت ونشر مواقيت الصلاة الاعتماد في المواقيت على جامع النبي جرجيس عليه السلام لأن فيه مزولة شمسية مثبتة في أحد أساطين فناء الجامع ، تعيّن مواقيت الصلاة فقد كان المؤذنون ينتظرون دوران العلم الأخضر الكبير في حوض المنارة عدة مرات ليعلموا دخول وقت المغرب وقد عرف أهل هذه الشعيرة باسم (بيت شيال العلم). وتنار المنائر كل ليالي رمضان وتظل منارة طيلة الليل إلى وقت الإمساك وإطفائها دلالة على بدء وقت الإمساك ووجوب الامتناع عن المفطرات.
صفـة الإفطـار
اعتاد كثير من الرجال والشباب وبعض الصبيان الذهاب إلى الجامع القريب قبيل أذان المغرب ، حيث يقدم في المسجد التمر أو الرطب مع اللبن الرائب والحلاوة ويفطرون في المسجد بعد دعاء الإفطار (اللهم لك صمت...) أو بما يحفظ وما يشرح الله له صدره على رشفات منها ، وبعد أداء صلاة الجماعة يرجعون إلى دورهم لتناول طعام الإفطار.
أدركنا في بعض مساجد الأحياء القديمة تقديم بعض الأطعمة المتنوعة من عدة دور للإفطار ويفطر كثير من أهل المحلة من الفقراء والموسرين الذين يقدمون هذه الموائد في فناء الجامع وذلك لإشاعة روح المحبة والألفة بين أهل المحلة. وهناك من يفطر في بيته مع عائلته بعد الأذان يدعو كل منهم بالأدعية المأثورة أو بالحفظ ويتناول ثلاث تمرات أو رشفات من الماء ثم يؤدون صلاة المغرب وبعدها يتناولون طعام الإفطار. ومنهم من يتناول طعام الإفطار ثم يؤدي صلاة المغرب .
مائــدة الأفطــار
تهيئ ربة البيت بمساعدة بناتها وكنّائنها طعام الإفطار الذي يحفل بالأكلات المتنوعة والعديدة وحسب الموسم الصيفي أو الشتوي ومقدرة العائلة المالية، حيث يجتمع كافة أفراد العائلة كبيرهم وصغيرهم على مائدة الإفطار. وفي العادة يتصدر طعام الإفطار شوربة العدس التي أول ما يتناولها الصائم بعد إفطاره على التمر لأنها تلين الجهاز الهضمي. وتقدم الأكلات الشهية والدسمة واللذيذة مثل التمن المعروف بجودته وهو رز عقرة (غز عقغ ) وكبة الموصل المشهورة أو الدولمة في الصيف (واليبرغ) في الشتاء ، والفرق بين الدولمة ان فيها القرع والباذنجان والفليفلة الخشنة المحشوة والطماطة المحشوة واوراق العنب(العريـش) والبصل و... أما اليبرغ فهو يقدم في الشتاء حيث يكون من ملفوف السلق والبصل فقط لعدم توفر الخضروات الصيفية آنذاك.
ومن أكلات رمضان الأخرى الكباب والمعلاق المشوي وعروق التنّور والسمك المقلي وكبب وسـماق وحامض شلغم وكبب التمن ( كبب غز) والشيخ محشي والتشريب وعروق الطاوة ( الشفتايات ) والقيسي وأنواع المرق ، والمقبلات مثل الزلاطة و(غز بحليب) المزين بالدارسين والمحلبية يرش فوقها الهيل. والطرشي والمخللا المكبوسة في البيت وشربت الزبيب الخالص والشنينة الباردة التي تكون من مزج الماء مع اللبن الرائب فتصبح شراباً جيداً والماء البارد.
ومن العادات التي كانت سائدة ترسل ربة البيت إلى الجيران (طعمي) من أجود ما أعدته ، ويقابل بالمثل من الجيران لتحفل مائدة الإفطار بعدة أنواع من الاطعمة اللذيذة .
وترسل طعاماً إلى الجيران الفقراء في المحلة صدقة وإكراماً لهم وطلباً لرضاء الله (عزّ وجل ). لقوله صلى الله عليه وسلم (من أفطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من اجر الصائم شيئاً ).. وان افطر عند أحدهم أو أكل طعامه يدعو لمن قدم له الإفطار بالدعاء المأثور (افطر عندكم الصائمون واكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة).. ومن آداب الإفطار عدم تناول الإفطار إلا بعد الأب أو رب الأسرة وان لا يكثر من الطعام عند الإفطار لانّ المعدة خاوية.
طعـام الفطــور
وبعد تناول طعام الإفطار وشرب القهوة والشاي المعد على الفحم أو السماور والحامض (نوم البصرة) لتصفية الرأس، ويشعر البعض بالاسترخاء ويتمدد على جنبه قائلاً: ويحد بعد الفطوغ يتفلّش. وبعد فترة مناسبة يتناول الحلويات من بقلاوة وزلابية ومشتقاتها والفواكه الشتوية كالتفاح والبرتقال والموز والرمان والخوخ والعرموط وغيرها، أوالصيفية كالشمزي والبطيخ والخيار والعنب كل حسب الموسم.
ليالي رمضـان
1- ـ بعد الانتهاء من الإفطار واقتراب وقت صلاة العشاء يذهب الرجال والشباب وبعض الأطفال إلى الجامع لأداء فريضة العشاء وصلاة التراويح جماعة حيث تكتظ المساجد والجوامع بالمصلين وكانوا يصلونها عشرين ركعة بعشر تسليمات ، وقلة من يصلي التراويح في بيته.
2- بعد الانتهاء من صلاة التراويح ينصرفون من المساجد إلاّ من نوى الاعتكاف في المسجد ومن الناس من يرجع إلى بيته والسمر مع أهله وأولاده ثم ينام لينهض إلى السحور. وأكثرهم يسهر طويلاً في قيام الليل وقراءة القرآن وتدارسه وتدبر معانيه وأحكامه وفي التسبيح وذكر الله تعالى.
3- مما هو سائد لدى الكثير من أهل الموصل ختم القرآن الكريم خلال شهر رمضان مرة على الأقل وعند اكتمال الختمة إهداء ثواب ذلك لآبائهم وأمهاتهم وذويهم وكافة المسلمين مع أنفسهم الذي لا ينقص كل هذا من أجرهم شيئاً لان رحمة الله واسعة.
4- كما جرت العادة في الموصل إقامة حفلات المولد (المولديات) في شهر رمضان خاصة أيام الخميس سواء في البيوت أو المساجد أو التكايا المنتشرة في الموصل والتي تبدأ من بعد صلاة التراويح تقام حلقات الذكر وقراءة المقامات والتنزيلات الموصلية والتواشيح الدينية وتستمر المدائح والضرب على الدفوف إلى وقت السحور .
5- كما تعمر في هذا الشهر مجالس في بيوتات بعض الشخصيات البارزة في المنطقة يحضرها الرجال الوقورون من علماء الدين والموظفين والمثقفين والأدباء والتجار والمزارعين وأصحاب الأعمال وتكون أحاديثهم في الأمور التي تناسب ميولهم .
6- بعضهم يزور أقربائه وذويه وأصدقائه لغرض السمر (التعليلة) إلى وقت متأخر مما يزيد من صله الرحم والألفة الاجتماعية .
7- يذهب البعض إلى المقهى المنظمة إلى حارات هذه للعبة الفـر وأخرى لمن يلعب النرد (الطاولة) أو الدومنة أو الدامة أو الشطرنج أو الحالوسي، وحارة خاصة يجلس فيها من يريد سماع القهوان قبل انتشار الراديو، وأخرى للمثقفين الأدباء يناقشون الدراسات والإصدارات والآراء الثقافية . ويحلو للشباب بعد الإفطار أن يمارسوا لعبة الفر في المقاهي، وهي لعبة شعبية موصلية . وتضم فريقين ، كل فريق يمثل محلة من محلات الموصل يتوزعان يميناً ويساراً، تتوسطهما صينية صغيرة تحتوي على أحد عشر فنجاناً نحاسياً. وللعبة قواعد خاصة بها . وبعد الانتهاء من اللعبة توزع على الحاضرين صينية بقلاوة أو زلابيا على حساب الفريق الخاسر وسط ضحك ومرح الجميع .
8- أما النساء فتراهن مشغولات بتهيئة وخياطة ملابس العيد عند الخياطة في المحلة التي يزداد الإقبال عليها في رمضان. وإدامة الفرش والستائر وبعض الأثاث. والأولاد والصبيان يلعبون مع إقرائهم في المحلة في العوجات مختلف الألعاب الصبيانية. وتقدم في بعض المقاهي الشعبية مثل (مقهى السويدية ومقهى المكاوي ومقهى المصبغة في شهر سوق وغيرها من المقاهي الشعبية ، راوية (العنترية) وينقسمون إلى فريقين مؤيد لعنترة أو مؤيد لخصومة .
في العشر الأواخر من رمضان
ما أن تقترب العشر الأواخر من رمضان إلا ويتهيأ بعض المسلمين للاعتكاف في المسجد الجامع أسوة برسول الله (صلى الله عليه وسلم). وهي من ليالي رمضان الحافلة بالتقوى والعبادة والقيام والتسبيح فيها ليلة القدر المباركة لقول صلى الله عليه وسلم (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) (رواه الخمسة) يكثر الناس من الصلاة والاستغفار والدعاء. ويحيي كثير من المصلين ليلة القدر في الجامع حتى وقت السحور يصلّون ويقرؤون القرآن الكريم. ويكثر الهبات والصدقات للفقراء والمعوزين.
وبعد دخول العشر الأواخر اعتاد أهل الموصل إلى المبادرة بإخراج زكاة الفطر المفروضة عن شخص رجل أو امرأة أو طفل حتى الجنين. في آخر عشاء أخر جمعة منه يودع هذا الضيف بحزن وأسىِ وقد يصل توديع رمضان إلى درجة الإجهاش بالبكاء ، حزناً وألماً ، ويرددون على المنائر وأسطح المساجد أو داخلها:
الوداع يا شـهر الطاعة والأيمـان
الوداع الوداع يا شهـر رمضــان
الوداع يا شـهر العتـق من النيران
الوداع الوداع يا شهر القيام والقرآن
ويركز خطباء الجمعة الأخيرة من رمضان على أحكام زكاة الفطر وشرح أحكامها والحث على اغتنام أيام العيد للمصالحة وحل المشاكل والخلافات فيما بينهم وعلى صلة الرحم ويحث الشباب على الاستمرار بالصلاة والعبادة كما هم عليه في رمضان وعدم تركها بعد رمضان. هكذا يغادر رمضان المبارك ، وبعد أن مارس الناس العبادة من صيام وقيام وقراءة القرآن الكريم وإحياء ليلة القدر ، تعلّموا فيها دروساً وعبراً يشعر المسلم بما يعانيه أخيه الفقير من شظف العيش.
كما تنشط في هذه الأيام عدد من المهن مثل الخياطين وباعة الملابس والأحذية والحلاقين والحمامات والأفران خاصة في خبز الكليجة ، وباعة الجرزات والحلويات لشراء جرزات العيد السعيد .وقد يعمل معظمهم حتى وقت السحور لانجاز طلبات زبائنهم، تقوم الأسرة بعمل كليجة العيد قبيل قدومه إذ تجتمع عدة نسوة من بعد السحور لعمل كليجة العيد وخبزها في التنور في البيت ، وفي بداية ستينات القرن الماضي اخذت بعض بعض العوائل ترسل صواني الكليجة لشيّها بالأفران .
العايــدة
تمارس هذه اللعبة مع قرب انتهاء رمضان ومجيء عيد الفطر المبارك أو عيد الأضحى المبارك من قبل الأطفال الصغار الذين يتراوح أعمارهم إلى حدود العشر سنوات، يتفق الذكور والإناث من الصبيان ويخرجون سوية بعد المغرب وهم يدورون على أبواب دور محلتهم مهنئين إياهم بقدوم العيد السعيد،
أملاً في الحصول مبلغ من المال وهم ينشدون :
يالعايدة يالعايدة باب الجبير ، باب الجبير .
عامودكم فضة ودايركم حرير، ودايركم حرير
جينا على بيت ابو ( فلان) ع يصلي ع يصلي
دستو جبير ومعشـي العصملي ، العصملي ...
تنـطونا لو ننـطيكم بيت مكة انوديـكم ،.
هذي مكة المعمـورة مبنيـة بجـص ونـوره
الله إيخلّي ( فلان ) ، آمين وبجاه الله وإسماعيل آمين ....
فلان يلعب على التينة ، يكبغ ويعطينـا
سبع بنات عالباب تلعب على التينة
خاتونة النسوان يم كردانة يم كردانة
كومي لحيلج وانطينة هالعانة هالعانة
فإذا لم يستجيبوا لهم رغم هذا المديح الطويل يعودون إلى الصياح :
هاون هاون ... تنطونا لو نتكاون ..
سغبس سغبس ... تنطونا لو نتكغبس.
فتهرع ربة البيت أو أحد الأولاد ينقدونهم مبلغ ما بين العانة والعشرة فلوس ، (والعانة هي عملة نقدية قيمتها أربعة فلوس) و( فلان) يذكر اسم ابن صاحب الدار ، والهاون أداة نحاسية تطحن فيها المواد ولها يدة قوية . والسغبس أداة تستخدم للف خيوط الصوف أثناء الغزل . وهي للقافية .وقد يسكب عليهم من السطح الماء من الشربات والطاسات (خاصة في الصيف ) عندها يصيح الأطفال وهم يتضاحكون ويتدافعون :
(هذا بيت الفقـغ طشـوا الماي علينا)..!
وعندئذ تذهب جوقة الأطفال إلى دار أخرى ويستمرون في لعبتهم هذه حتى وقت متأخر من الليل بعدها يقتسموا النقود المتجمعة لديهم من ذلك .