الموصل في عهد السلاجقة
أصبحت الموصل بعد سقوط دولة بني عقيل على يد القائد السلجوقي “قوام الدولة كربوقا” سنة 489هـ جزءاً من الدولة السلجوقية، وتولى على حكمها عدد من الامراء السلاجقة، استمر حكمهم حتى سنة 521هـ، حيث انتقل الحكم الى “عماد الدين زنكي” مؤسس دولة الأتابكية في الموصل التي استمرت حتى سنة 631هـ.
إن الدور الذي لعبته امارة الموصل في تلك المرحلة الخطيرة من التأريخ الاسلامي في العصر الوسيط، كان يتميز بالأهمية البالغة، ويبرز هذا الدور في علاقات أمراء الموصل مع سلاطين السلاجقة، عندما تفجر الصراع بين السلاجقة أنفسهم، بعد وفاة السلطان “ملكشاه” وتعقد الموقف السياسي، وهنا لم يزدد ولاة الموصل عن الاسهام في هذا الصراع بنصيب وافر، وفقا لما يتفق ومصالحهم الذاتية، وعلى هذا النحو، تذبذب وكلاؤهم لهذا السلطان أو ذاك بحسب رصيده في النصر أو الهزيمة حفاظا على نفوذهم وضمانا لاستمرار حكمهم على البلاد. وعلى الرغم من ارتباط ولاة الموصل المباشر بالسلطان السلجوقي في تلك المرحلة، إلا أن ذلك لم يمنع بعض هؤلاء الولاة من التطلع إلى الاستقلال والانفصال عن السلطنة السلجوقية، واتخاذ مواقف عدائية مع السلطان. الامر الذي يؤدي أحيانا الى نشوب الحرب بينهما، وقد ينتهي الامر بعزل الوالي عن الولاية بالقوة كما حدث ذلك خلال حكم “الامير جاولي سقاوه” الذي كان قد شق عصا الطاعة على السلطان محمد وظاهر اعداءه.
ولم تكن امارة الموصل في هذه المرحلة من تأريخها بمنأى عن الاحداث السياسية التي كانت تجري في دار الخلافة العباسية ببغداد، فلم يتردد ولاتها في تسخير امكانياتهم العسكرية لخدمة الخلافة ومنهم (البرسقي) الذي وقف الى جانب الخليفة (المسترشد بالله) خلال صراعه مع “دبيس بن صدقة” امير الحلة، وحمى بغداد ودار الخلافة ما كان يهددها من النهب والسلب الذي توعدها به “دبيس” وقد تمكن “البرسقي” بعد سلسلة من المعارك من إيقاع الهزيمة بأمير الحلة في سنة 517هـ.
اما عن النتائج التي ترتبت على جهاد الموصل ضد الصليبيين، فقد كانت من الأهمية بمكان، فقد اضطلعت الموصل منذ وصول الطلائع الاولى للحملة الصليبية الى مشارف الشام والجزيرة، بدور بارز في قيادة حركة المقاومة ضد الغزاة الفرنج، وقامت بتدعيم الجبهة الإسلامية من أجل الوقوف في وجه الخطر الصليبي، الذي بات يهدد المنطقة بأسرها، فأرست بذلك حركة الجهاد الاسلامي في هذه المرحلة المبكرة من تأريخ الصراع ضد الصليبيين الغزاة. وقد تهيأ لبعض أمراء الموصل ان يحققوا انتصارات مهمة على الفرنج سواء في إقليم الجزيرة، أم في شمال الشام، فقد نجح (شمس الدولة جكرمش) وحليفة (سقمان الارتقي) في احراز نصر حاسم على الصليبيين في (موقعة حران) في سنة 497هـ ادى الى وقوع معظم زعمائهم في أسر المسلمين، وفي مقدمتهم “بلدوين” أمير “الرها” نفسه، و”جوسلين” صاحب تل باشر. وقد كان لهذا الانتصار أهمية بالغة في دفع حركة الجهاد الإسلامي، اذ جاء بعد فترة من الشلل والركود، أصاب حركة الجهاد بعد فشل حملة (كر بوقا) السابقة على (انطاكية) فكان ذلك حافزا للمسلمين على استئناف حركة المقاومة ضد الفرنج. وعاد الى إمارة الموصل مرة اخرى دورها القيادي في حركة المقاومة الاسلامية، مع بدء حكم (شرف الدين مودود) الذي قاد عددا من الحملات العسكرية ضد المواقع الصليبية في الجزيرة وبلاد الشام، وأولى امارة (الرها) الصليبية اهتماما خاصا، لما كان يعلمه من خطورة قيام هذه الامارة على خطوط المواصلات بين الشام والعراق، وتهديدها المتواصل للقوى الاسلامية في الجزيرة وديار بكر.
وعلى الرغم من اخفاق (مودود) في الاستيلاء على (الرها)، إلا انه نجح في إخلاء اقليم الجزيرة من العناصر التي كانت تقدم العون والمساعدة للصليبيين في إمارة الرها وسروج، فمهد السبيل بذلك لـ (عماد الدين زنكي) الذي توّج انتصاراته، باستيلائه عليها في سنة 539هـ.
ولم يقتصر نشاط (مودود) على قتال الصليبيين في الجزيرة، بل تجاوز ذلك إلى عمق بلاد الشام، دفاعا عن دمشق، فأوقع بالصليبيين ضربات موجعة في موقعة (الصنبرة) التي حدثت عام 506هـ وانتهت بهزيمتهم وأسر ملكهم (بلدوين). ولم يكن هذا النصر لولا دور الموصل المشرف في الجهاد ضد الفرنج باعتبارها مركزا للإمداد والعون الرئيس للجهاد، لاسيما وأنها كانت آنذاك أكبر الإمارات الاسلامية في اقليم الجزيرة.
لقد تميزت حياة الموصل خلال العصر السلجوقي (489-521هـ) بالقلق وعدم الاستقرار، ما أدى إلى انصراف ولاة الموصل عن الاهتمام بالنواحي العمرانية، فشمل الخراب مناطق الموصل، وأصبح القسم الشرقي منها أنقاضا وردما لا يسكنه أحد. وقد أشار المؤرخ (ابن الاثير) الى ذلك بقوله: (كانت البلاد - أي الموصل - قبل ان يملكها عماد الدين زنكي، خرابا من الظلم وتنقل الولاة ومجاورة الفرنج).
وقد ادى تدهور العمران في الموصل الى تقلص رقعتها ورحيل عدد من السكان إلى المناطق المجاورة. ولم تنهض الموصل من عثرتها إلا في العصر الأتابكي.