الموصل في عهد بدر الدين لؤلؤ
يعدّ العصر الذي حكم فيه (بدر الدين لؤلؤ بن عبد الله الروي الأتابكي) (606-660هـ/ 1209-1261م) الموصل، من الفترات المهمة في التأريخ الاسلامي، وذلك لمعاصرته حدثين مهمين هما:
أولهما الحروب الصليبية: التي اججها الغرب المسيحي، لغرض الاستيلاء على (بيت المقدس)، وتنظيم حملات صليبية مستمرة لتهديد مصر وسورية، لتحقيق ذلك، وقيام دويلات صليبية في سورية وفلسطين، تحاول التوسع على حساب الدول والامارات الاسلامية المجاورة لها.
ثانيهما الغزو المغولي: الذي استهدف في بادئ الامر، اقامة امبراطورية مغولية عالمية تضم اواسط آسيا وايران وروسيا وبعض اجزاء من اوروبا، ثم ضم دول المشرق الاسلامي ومغربه اليها بالقوة بعد ذلك.
وفيما يتعلق بموقف (بدر الدين لؤلؤ) من المغول واحداث غزوهم وعلاقاته معهم في الفترة من 616-657هـ /1219-1258م، وهي فترة استغرقت كل عهده تقريبا، فيمكن تقسيمها الى قسمين:
الاول - ينتهي في 642هـ /1244م، وكان خلالها يتبع سياسة معينة، اهم قواعدها يمكن ايجازها بعبارة (ضد المغول، ولكن معهم)! اي انه لم يشأ ان يصطدم بهم، حيث كان حذرا منهم ومن بطشهم.
الثاني - يبدأ بعد هذه السنة حتى وفاته في 657 هـ/ 1258م، وكانت تتميز بمهادنتهم ومجاراتهم وعدم استفزازهم ثم الدخول في طاعتهم.
ويشير (رشيد الدين فضل الله) الى علاقات بدر الدين لؤلؤ الوطيدة مع المغول، فيذكر ان (هولاكو) قد أمر جيشه المرابط في بلاد الروم في سنة 655هـ /1257م بالتحرك الى الموصل عن طريق (اربل) فيعبر جسر الموصل ويرابط في الجانب الغربي من (بغداد).
وهذا دليل على أن الموصل وأعمالها كانت مناطق نفوذ مغولية، إذ لم يرد ما يشير الى تعرض الكتائب المغولية اليها بأي أذى. ولما حوصرت بغداد بالجيوش المغولية، أسرع بدر الدين لؤلؤ الى ارسال ابنه (الملك الصالح ركن الدين اسماعيل) على رأس جيش ليلتحق بجيش هولاكو. وقد تحدثت المصادر عن مساعدات وامدادات بدر الدين لؤلؤ للمغول، وذكرا أنها شملت الميرة والهدايا والتحف، وذكر ابن كثير هذه الامدادات بالحرف الواحد، انها (جاءت للمغول من صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة)! ويبدو أن امدادات بدرالدين لؤلؤ للمغول قد جاءت متأخرة، وقد دل على ذلك ما أورده (ابن العبري) في أن هولاكو لم يقابل الملك الصالح ركن الدين اسماعيل قائد نجدة العساكر الموصلية مقابلة حسنة، بل أظهر له هولاكو عبسه، وقال له: (أتيتم بعد شك من أمرنا، ومطلتم نفوسكم يوما بعد يوم، وقدمتم رِجلاً، وأخرتم اخرى لتنظروا من الظافر بصاحبه، فلو انتصر الخليفة وخذلنا لكان مجيئكم إليه لا الينا).
ويبدو أن هذه الرسالة الزاجرة التي تلقاها بدر الدين لؤلؤ كانت نتيجة لسياسة التردد التي كان يسير عليها في مصالحته المغول والانعطاف الكلي لمحالفتهم، كما أن هولاكو أراد ان يكتشف القوى الاخرى التي قد تقف وراء الخلافة العباسية، ويؤيدها بعد أن ركّز أقدامه في بغداد المركز المهم في العالم الإسلامي لكي يتلقى رد فعلها، ولذلك نراه يرسل كتبا مشابهة إلى ملوك الشام ومصر وإلى حكام الإمارات والأقاليم الأخرى، يُعرُّ منها بسقوط حاضرة الخلافة العباسية - بغداد. وقد عزز هولاكو تهديداته هذه بنشر الرعب والهلع، فأرسل الى بدر الدين لؤلؤ رؤوس بعض القتلى من عظماء بغداد مع بنه الملك الصالح ركن الدين اسماعيل لتعلق في الموصل! وعندما أبلغ الملك الصالح أباه ما حمله هولاكو من رسالته التي انطوت على التهديد والوعيد والزجر، أيقن ان المنايا قد كشرت له عن أنيابها، وأن سياسة المهادنة والاسترضاء التي اتبعها مع هولاكو، لم تنفعه في أزمته، فراح يفتش عن مخرج لها بعد أن ذلت نفسه، وهلع هلعا شديداً، فاسرع الى إخراج ما في خزائنه من تحف واموال ولآلئ، وجواهر، وقصد بها إلى هولاكو لتقديم الطاعة والولاء بنفسه! وكان ذلك في التاسع والعشرين من رجب سنة 656هـ/1258م أي بعد سقوط بغداد بقليل، حيث كان هولاكو يقضي وقته في (همدان) على ساحل بحيرة (أورميه) فاحسن استقباله لكبر سنة، وأقره على إمارة الموصل في السادس من شعبان من تلك السنة، وبذلك سلمت الموصل من غزو المغول.
رد مع اقتباس
