مرحبا
يشير مفهوم التخلف الدراسي scholastic retardation
بصورة أساسية إلى تخلف في التحصيل في مادة من مواد المنهاج الدراسي أو في مجموعها يؤدي إلى الرسوب لسنة أو أكثر وخاصة في مرحلة التعليم الأساسي (من الصف الأول الابتدائي حتى نهاية المرحلة الإعدادية).
إن تعميم التعليم الإلزامي والنظر إلى أن التعليم أصبح حقاً من حقوق الإنسان وبُعداً رئيسياً في تحقيق الديموقراطية من خلال ديموقراطية التعليم، والعمل على تطبيق مبدأ حق التعليم للجميع وتكافؤ الفرص في الالتحاق بالمدرسة أدى إلى بروز ظاهرة التخلف الدراسي كمشكلة تربوية واجتماعية تستدعي التفكير.
أثارت ظاهرة التخلف الدراسي في استمراريتها واستفحالها اهتمام التربويين واضعي السياسات التربوية، وشرع الباحثون في ميادين التربية، وعلم النفس، وعلم الاجتماع منذ مطلع القرن العشرين في تعرف الظاهرة وتحديد دلالتها من أجل تحري الأسباب والعوامل التي تؤدي إليها.
تطرح ظاهرة التخلف الدراسي مشكلات تربوية واجتماعية ونفسية، مشكلات تتصل بالهدر التربوي ومشكلات تمس الطفل وأسرته والمجتمع الذي يعيش فيه، كما يمس فاعلية المؤسسة التربوية وكفايتها، ويمس أيضاً السلطة صانعة القرار ومدى قدرتها على تحقيق تكافؤ الفرص في النجاح في المدرسة.
الواقع والبحوث
أُجريت في معظم أقطار العالم، منذ مطلع القرن العشرين بحوث مسحية لمعرفة أمرين:
1ـ حجم ظاهرة التخلف المدرسي في المراحل المختلفة للتعليم، وخاصة في مرحلة التعليم الأساسي.
2ـ العوامل الكامنة وراء ظاهرة التخلف الدراسي.
وقد توصلت تلك البحوث إلى نتائج كثيرة من أهمها الآتي:
ـ وجود علاقة ارتباطية قوية بين الانتظام في الدراسة والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة.
ـ وجود ارتباط دال إحصائياً بين المستوى العقلي ومستوى التحصيل.
ـ الترابط الوثيق بين الرسوب في المدرسة وبين الوضع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
ـ الفروق بين متوسطات تحصيل المتخلفين ومتوسطات تحصيل التلاميذ النظاميين ذات دلالة إحصائية جوهرية.
ـ قوة الأساس الاجتماعي لتفاوت الفرص في النجاح المدرسي بالرجوع إلى مهنة ولي الأمر ومستواه.
النظريات حول التخلف الدراسي
إن تسليط الضوء على ظاهرة التخلف الدراسي من خلال البحوث الميدانية تناولت هذه الظاهرة من حيث الحجم (نسب التلاميذ المتأخرين دراسياً أو كما يقال غير النظاميين) أدى إلى محاولات التفسير. يمكن إجمال اتجاهات التفسير في اتجاهين متباينين متعارضين:
التفسير بالعوامل الوراثية: اعتمد هذا التفسير على الارتباط الإيجابي الوثيق المحسوب بمعامل الترابط بين متغير مستوى التحصيل الدراسي ومتغير المستوى العقلي (معامل الذكاء) الذي أبرزته البحوث الميدانية التي أجريت في هذا المجال، وبمعامل الارتباط الوثيق بين كل من هذين المتغيرين (أي المستوى العقلي ومستوى التحصيل) والأوضاع الاجتماعية ـ الاقتصادية ـ الثقافية.
وأسهم في التفسير بالعوامل الوراثية كل من غالتون Galton وسيريل بيرت Burt وإيزنك Eysench في إنكلترة، وآرثور جنسن Jensen في أمريكة في المقالة التي نُشرت عام 1971.
توصل هذا الأخير إلى نتيجتين أساسيتين من وجهة نظره:
1. توجد فروق فردية بين الأفراد، وأن هذه الفروق ترجع في أهم ما ترجع إليه إلى استعدادات وراثية.
2. لا يمكن تجاوز هذه الفروق الوراثية بالبرامج التربوية التعويضية بشكل ثابت ومستمر.
3. إن الكلفة الباهظة للبرامج التعويضية لا تتناسب مع النتائج المدرسية التي تتوصل إليها.
أثارت هذه المقالة جدلاً واسعاً بين الباحثين من التربويين والفلاسفة الاجتماعيين. وأُشير إلى الإيديولوجية العرقية التي يصدر عنها مثل هذا الاتجاه في التفسير سواء عند بيرت أو جنسن.
التفسير بالعوامل المكتسبة: يشير هذا الاتجاه في تفسير التخلف الدراسي (وأيضاً التخلف العقلي) بعوامل الوسط، وخاصة التفاوت بين الفئات الاجتماعية بالاستناد إلى البحوث التي سلطت الضوء على العلاقة الموجبة بين الوضع الاجتماعي ـ الاقتصادي ـ الثقافي لأسر التلاميذ والسيرورة المدرسية لأبنائهم من حيث النجاح والرسوب. ويشير هذا التفسير إلى ما يعاني منه أبناء الطبقة المحرومة من حرمان في التعامل مع الأدوات الثقافية كما تشير إلى موقف المؤسسة التربوية السلبي من أبناء الطبقة المحرومة.
يضاف إلى كل هذه العناصر النقد الموجّه لروائز الذكاء التي يقاس بها المستوى العقلي (معامل الذكاء) والتي لا تستند إلى معايير نقية في الكشف عن القدرات والاستعدادات العقلية وأنها مشبعة بالمكتسب الثقافي.
مفهوم إعادة الإنتاج[ر] في تفسير التخلف الدراسي: إن النظام التربوي يلبي مصالح الفئات الاجتماعية العليا، ويعيد إنتاج العلاقات الاجتماعية من خلال النتائج المدرسية. والاتهام موجه هنا إلى النظام الاجتماعي ـ السياسي ـ الاقتصادي ـ الثقافي والى المؤسسة التربوية التي هي نظام متفرع عن النظام الاجتماعي ـ الاقتصادي الأشمل وهي أداة من أدوات الدولة والفئة المسيطرة في المجتمع.
التربية التعويضية (أو التربية العلاجية): ترمي برامج التربية التعويضية إلى تحسين التحصيل الدراسي لأبناء الطبقة المحرومة، وتنطلق من تحسين مدخلات التعليم من الجانب الاقتصادي ـ الاجتماعي ـ الثقافي وهي برامج تخص أسرة التلميذ، ومن أجل تغيير العلاقة بين المدرسة والأسر المحرومة، وتعديل اتجاهات المدرسة نحو أولاد هذه الأسر من جهة، ومن جهة ثانية تحسين الممارسات التعليمية ـ التعلمية من خلال: إعداد المعلم وتدريبه، وتفريد التعليم، وتطوير البحث في طرائق التعليم، والإفادة من نظريات التعلم، وعلم النفس التربوي، والبحث من أجل تطوير أساليب الإدارة التربوية وتحسين المناخ المدرسي.
تمثل المدرسة الفعالة effective schooling مرحلة متقدمة من البرامج العلاجية. يقوم هذا الاتجاه على افتراض سلبي دعمته نتائج البحوث الميدانية: إن الفروق بين المدارس يؤثر سلباً أو إيجاباً في إنجاز التلاميذ حسب مستوى المدرسة، ومستوى الإحكام في تنظيمها.
من أهم خصائص هذه المدرسة الفعالة، الاهتمام بمستوى التحصيل الدراسي، وأسلوب القيادة والإدارة، واستقرار الهيئة التربوية، وطرائق التدريس وتقنياته وغير ذلك.
تقويم نتائج التربية التعويضية: يذهب تقويم هذه النتائج في اتجاهين:
1. التقويم العلمي: استناداً إلى المعلومات التي يقدمها مركز التوثيق الدولي في أمريكة Educational Resources Information Center (ERIC).
2. التقويم على الصعيد النظري: تتعرض التربية التعويضية الموجهة للتلاميذ الذين يعانون من التخلف في التحصيل (التخلف الدراسي) لنقد عنيف من الاتجاه المحافظ لأن نتائجها في مستوى التحصيل لا تكافىء الكلفة الباهظة لإجراءات تصحيحها وتطبيقها من جهة، ولأن المستوى العقلي الفطري (الوراثي) هو المسؤول عن التخلف الدراسي، وعن التخلف الاقتصادي، وأن البرامج التعويضية محدودة الجدوى في رفع مستوى القدرات العقلية.
كما تتعرض للنقد من قبل الاتجاه الرديكالي (الجذري) الذي يرى في المدرسة جهازاً من أجهزة السلطة، وأن الإصلاح لا يتم على مستوى المدرسة، بل يقتضي إصلاحاً سياسياً ـ اجتماعياً ـ اقتصادياً معاً.
وبين هذين الموقفين المتطرفين موقف أكثر اعتدالاً وأكثر توفيقية من أجل عدم إنكار قيمة المدرسة ودورها في الإصلاح والتطوير وضرورة إصلاح النظام الاجتماعي الأشمل من جهة ثانية.