نشأة إمبراطورية صنغي [777-1000هـ= 1375-1591م]:
بدأت سلطنة «صنغي» (صنغاي-سنغاي) دويلة صغيرة لا تختلف من حيث قيامها عن سلطنة «مالي» أو«غانة»؛ فقد تدفَّقت بعض قبائل مغربيَّة -وخاصَّةً قبائل «لمطة»- في نحو منتصف القرن السابع الميلادي إلى الضفة اليسرى لنهر «النيجر» عند مدينة «دندي»، وسيطروا على الزراع من أهل «صنغي».
ورحَّب هؤلاء بهم ليحموهم من الصيَّادين الذين كانوا يعتدون عليهم، ونجح هؤلاء الوافدون في تكوين أسرة حاكمة استفادت إلى حدٍّ كبير من العلاقات التجاريَّة مع «غانة» و«تونس» و«برقة» و«مصر»، وكانت هذه العلاقات التجاريَّة ذات أثر بعيد في تحويل ملوك «صنغي» إلى الإسلام في بداية القرن الحادي عشر الميلادي إبَّان النهضة الإسلاميَّة التي اضطلع بها المرابطون في ذلك الوقت لنشر الإسلام في غرب القارة.
رأى ملوك «صنغي» أن ينقلوا حاضرة ملكهم من «كوكيا» إلى «جاو» لتكون على مقربة من طرق القوافل الرئيسة.
ومدينة «جاو» زارها البكري عام (460هـ=1068م)، وقال: «إنَّ مدينة كوكوا (جاو) مدينتان؛ مدينة الملك ومدينة المسلمين، وإذا وُلِّي منهم ملك دُفع إليه خاتم وسيف ومصحف يزعمون أنَّ أمير المؤمنين بعث بذلك إليهم، وملكهم مسلم فلا يُملِّكون غير المسلمين»، كما زارها «ابن بطوطة» في منتصف القرن الرابع عشر للميلاد، وقال عنها: إنَّها مدينةٌ كبيرة تقع على نهر «النيجر»، وهي من أحسن مدن «السودان» وأكبرها وأخصبها، وقد قابل فيها فقهاء ينتسبون إلى بعض قبائل البربر.
وكانت «جاو» والبلاد التابعة لها تُشكِّل جزءًا من سلطنة «مالي» (777هـ=1375م) عندما تحرَّك ملوك «صنغي» واستردوا استقلالهم؛ منتهزين فرصة الضعف الذي أخذ يظهر في دولة «مالي» منذ ذلك الوقت، واتَّخذوا لقب «سُنِّي» أو«السُّنِّي».
سني علي .. مؤسس إمبراطورية صنغي
وأخذت بلادهم تتَّسع في عهد «سني علي» (868-897هـ= 1464-1492م) الذي كون جيشًا كبيرًا منظَّمًا سار على رأسه إلى الغرب، واستولى على مدينة «تمبكت» (873هـ=1468م)، ثم على مدينة «جنِّي» (878هـ=1473م)، وفتح مملكة «الموسى» وضمَّها إلى دولته، وتقدَّم شرقًا فهاجم بعض إمارات «الهوسا» فخضعت له «كاتسينا» و«جوبير» و«كانو» و«زمفرة» و«زاريا»، ثم اتَّجه غربًا فاستولى على بلاد «الماندنجو» و«الفولاني» ومعظم ممتلكات دولة «مالي» الإسلاميَّة، واتَّجه شمالًا حتى مواطن الطوارق، وبذلك أسَّس «سُنِّي علي» إمبراطوريَّة «صنغي» الإسلاميَّة، وكان أوَّل إمبراطورٍ لها، حتى مات في ظروفٍ غامضة، وبموته انتقل الحكم إلى أسرة جديدة أسَّسها أحد قوَّاد «السوننكي» -وهو«أسكيا محمد الأوَّل»- بعد إعلانه الثورة على ابن «سني علي» واستيلائه على السلطة.
و«أسكيا» لقب يعني «القاهر»، وقد قام بتنظيم شئون البلاد من الناحية الإداريَّة، واستخدم طائفة من الموظَّفين الأكفاء، كما نظَّم الجيش وأفاد من الخبرات السابقة، واتَّخذت حركته مظهرًا إسلاميًّا واضحًا نتيجة عاملين قام بهما:
العامل الأول:
هو اهتمامه بالشئون الدينيَّة واستغلاله ثروة سلفه في النهوض بها، وقيامه بالحج إلى البيت الحرام في مكة (900هـ=1495م)، وكان موكبه في موسم الحج يفوق ما عُرِف عن موكب ملوك «مالي»؛ من حيث الأبَّهة والفخامة، واستردَّت «تمبكت» في عهده مكانتها كمركز للثقافة الإسلاميَّة في غرب إفريقيا، وبلغ من شهرتها أنَّ ملك «صنغي» كان يُنسب إليها.
والعامل الثاني:
هوالجهاد الذي قام به بغرض توسيع رقعة بلاده، ونشر الإسلام بين الوثنيِّين من جيرانه «الماندنجو» و«الفولاني» في الغرب، «والطوارق» في الشمال، وقبائل «الموسى» الزنجيَّة في الجنوب، «والهوسا» في الشرق في مدن «كتسينا» و«غوبير» و«كانو» و«زنفروزاريا»، وقد خضعت هذه المدن كلها لهذا الملك عام (919هـ=1513م)، وكان هذا بداية لظهور الثقافة الإسلاميَّة في هذا الجزء من شمال «نيجيريا».
التاريخ السياسي لسلطنة صنغاي
وقد أشار كثيرٌ من المؤرِّخين السودانيِّين إلى أنَّ علماء من «تمبكت» رحلوا إلى هذه الجهات الخاضعة لنفوذ «صنغي»، وأقاموا هناك يُفقِّهون الناس في الدين وينشرون الثقافة الإسلاميَّة، حتى امتدَّ النفوذ الإسلامي إلى منطقة «بحيرة تشاد»، وبلغت إمبراطوريَّة «صنغي» أقصى اتِّساعٍ لها؛ فقد شمل نفوذها منطقة «السافانا» كلَّها من الشرق إلى الغرب، واستطاع «أسكيا محمد الأوَّل» أن ينشر الأمن والسلام في جميع ربوع هذه المملكة الشاسعة الأرجاء، بتنظيماته الإداريَّة والعسكريَّة الرائعة التي قام بها بين صفوف الجيش والإدارة.
لكنَّ حكمه آذن بالزوال حينما أُصيب بالعمى وانتابه المرض، وتآمر عليه أولاده وعزله أحدهم عن الحكم في عام (935هـ=1529م).
وظلَّ القوَّاد والمغامرون يتنافسون من أجل السيطرة على الجيش والحكومة، إلَّا أنَّ «أسكيا إسحاق الأوَّل» (946-956هـ= 1539-1549م) استطاع أن يلي العرش بمساندة الجيش، وأن يُعيد الأمن إلى نصابه، وأن يقضي على منافسيه، وأن يُبعِد كبار ضبَّاط الجيش وكبار المسئولين، الذين أساءوا استخدام مناصبهم خلال فترة الاضطراب.
وعلى الرغم من ذلك لم يستطع الاحتفاظ بالعرش مدَّةً طويلة؛ فقد خلفه «أسكيا داود» (1549-1582م) الذي عيَّن أنصاره في الوظائف المهمَّة، واشتهر بحنكته السياسيَّة فأبعد خطر ملوك «مراكش» عن بلاده بالمهادنة والتودُّد إليهم.
وبعد وفاة «داود» (990هـ=1582م) أثَّرت المنازعات التي قامت بسبب العرش تأثيرًا سيِّئًا على مملكة «صنغي»؛ فقد كان سلاطين «المغرب» منذ عهد بعيد يتطلَّعون إلى مناجم الملح في «تغازة» وإلى السيطرة على تجارة الذهب، وظلَّ ملوك «صنغي» يصدُّون سلاطين «المغرب» حتى سنة (993هـ=1585م) حينما انقسمت البلاد على نفسها، فاستغلَّ «أحمد المنصور الذهبي» -سلطان «المغرب» الذي انتصر على البرتغاليِّين في موقعة «القصر الكبير»- ضعف «صنغي» وسيَّر جيشًا كبيرًا عام (998هـ=1590م) استولى على العاصمة «جاو» بعد أن هزم قوَّات «إسحاق الثاني» في موقعة «تونديبي»، وبذلك دخلت البلاد في طورٍ جديد من أطوار تاريخها، وهو طور التبعيَّة والفناء.
لكن واقعة «تونديبي» لم تكن نصرًا للمغرب إلَّا من الناحية العسكريَّة؛ إذ إنَّهم لم يُحقِّقوا الأغراض التي قاتلوا من أجلها، وهي السيطرة على مناجم الذهب في غرب إفريقيا؛ لأنَّ ثروة «صنغي» لم تكن نتيجة امتلاكها الذهب بقدر ما كانت نتيجة لسيطرتها على تجارته مع مواطن إنتاجه في «وانجارة» و«يندوكو» و«أشنتي»، وكلِّها في جنوب مملكة «صنغي»، وهي تجارةٌ لا تزدهر إلَّا في ظلِّ الأمن والسلام الذي قضى عليه سلاطين «مراكش»، الذين لم يستطيعوا أن يمدُّوا نفوذهم إلى ما وراء المدن الرئيسة؛ «جني» و«تمبكت» و«جاو»، ولمـَّا أدركوا قلَّة الفوائد التي عادت عليهم من وراء هذا الفتح الذي كلَّفهم كثيرًا، كفُّوا عن إرسال الجند والمئونة اللازمة إلى قوَّاتهم، وتركوا هذه القوَّات تُقرِّر مصيرها بنفسها، فنشأت أسرة محلِّيَّة من باشوات «تمبكت» تدين بالتبعيَّة الاسمية لسلطان «مراكش»، وتعتمد على عنصر خليط من البربر وأهل البلاد، أو المولَّدين الذين سمُّوا باسم «أرما».
وكان همُّ هؤلاء الباشوات منصرفًا إلى جمع المال وحمل الزعماء المحليِّين على دفع الإتاوة، على أنَّ سلطانهم ضعف تدريجيًّا لاعتمادهم على الجيش الذي كان يعزلهم متى شاء، حتى بلغ عدد من تولَّى منهم بين سنتي (1070هـ=1660م) و(1163هـ=1750م) نحو(128) باشا، ولمـَّا ضعفت قوَّة الجيش نفسه اضطرَّ الباشوات منذ عام (1081هـ=1670م) إلى دفع الإتاوة إلى الحكَّام الوثنيِّين من ملوك «البمبارا»، وهم ملوك مملكة «سيجو» الوثنيَّة، التي كانت تقع على وادي نهر «باني» جنوبي «كانجابا» في حوض «النيجر».
وظلَّ الأمر على هذا النحو حتى جاء الفرنسيُّون والتهموا المنطقة بأسرها، وسمُّوها «إفريقيَّة الاستوائيَّة الفرنسيَّة»، وبعد نجاح حركة الكفاح الوطني ضدَّ الاستعمار الفرنسي والإنجليزي ظَهَرَت عدَّة دول إسلاميَّة حديثة على أنقاض إمبراطوريَّة «صنغي» الإسلاميَّة، وهذه الدول هي: «جمهورية موريتانيا»، و«جمهورية غينيا»، و«جمهورية مالي»، و«جمهورية السنغال»، و«جمهورية النيجر»، و«جمهورية نيجيريا»، و«جمهورية جامبيا».
المظاهر الحضارية الإسلامية في سلطنة صنغي
وإذا كانت دولة «صنغي» قد شابهت دولة «مالي» من حيث تطوُّرها العام، فإنَّها قد شابهتها -أيضًا- في اتِّخاذها مظهرًا إسلاميًّا واضحًا، بل فاقتها في هذه الناحية في بعض الأحيان، وهذا التطوُّر طبيعي؛ فقد امتدَّ سلطان «صنغي» إلى القرن السادس عشر الميلادي، وكان الإسلام قد قطع خطوات واسعة في سبيل النمو والانتشار.
وقد سعى ملوك «صنغي» -كما سعى ملوك «مالي» من قبل- إلى الاتِّصال بالقوى الإسلاميَّة المعاصرة، تحقيقًا لروح الأخوَّة الإسلاميَّة، وفي هذا المجال كان لملوك «صنغي» اتِّصالات عديدة بملوك المسلمين في الشرق والغرب.
فقد خرج «أسكيا محمد الأول» إلى الحجِّ ومرَّ بمصر سنة (899هـ=1494م) في موكبٍ حافل، وأغدق على الناس والفقراء أكثر ممَّا أغدق أسلافه؛ فقد روى «السعدي» صاحب كتاب «تاريخ السودان» أنَّه تصدَّق -مثلًا- في الحرمين الشريفين بمائة ألف مثقال من الذهب، واشترى بساتين في «المدينة المنوَّرة» حبسها على أهل التكرور (أهل دولة صنغي)، واجتمع في موسم الحج بزعماء المسلمين، وتأثَّر بما رآه في «مصر» من نظم الحكم، ومن ثقافة عربيَّة مزدهرة، فاتَّصل بالإمام «السيوطي» وغيره من علماء العصر، وتلقَّى تقليدًا من الخليفة العباسي بالقاهرة، وعاد إلى بلده متأثِّرًا بما رآه من روح إسلاميَّة، وعمل على تطبيق ما تعلَّمه من آراء وتجارب شاهدها بنفسه.
ويُقال: إنَّ هذا السلطان قلَّد في تنظيماته الإداريَّة النظمَ التي رآها في «مصر»، وأمعن في إحاطة نفسه ببطانة من العلماء الذين كان يحمل لهم كلَّ احترام وتقدير. فقد روى مؤرِّخو«السودان» أنَّهم كانوا إذا دخلوا عليه أجلسهم على سريره وقرَّبهم وأمر بألَّا يقف أحد إلَّا للعلماء أوالحجَّاج، وألَّا يأكل معه إلَّا العلماء والشرفاء.
كما أبطل البدع والمنكر وسفك الدماء، وأقام الدين والعقائد، وأعطى «جامعة تمبكت» المزيد من عنايته، فتفوَّقت في عهده ووصلت إلى ما لم تصل إليه من قبل، وكانت في غرب «السودان» كجامعة «الأزهر» في «القاهرة»، أو«القرويين» في «فاس»، أو«الزيتونة» في «تونس»، أو«النظاميَّة» في «بغداد».
وأصبحت هذه السياسة الإسلاميَّة سياسة مقرَّرة لخلفائه من بعده؛ فأسكيا إسحاق يسير في الطريق نفسه من تشجيع العلماء وإكرامهم والأخذ بيدهم، و«أسكيا داود» يتَّخذ خزائن الكتب، وله نسَّاخ ينسخون الكتب، وربَّما يُهادي بها العلماء، وقيل: إنَّه كان حافظًا للقرآن الكريم.
وهذا يدلُّ على أنَّ دولة «صنغي» قد شهدت تمكُّن الإسلام من أهل غرب إفريقيا، كما شهدت ازدهار الثقافة الإسلاميَّة إلى أبعد الحدود.
الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي.