قديمًا جاء الطاعون الأسود، والكوليرا، والأنفلونزا الإسبانية وقضوا على ملايين البشر إلا أننا الآن في سنة 2020 نحيا ونواجه جائحة كورونا التي حتمًا ستمر كما مرت الأزمات السابقة، وسيبقى الإنسان ويأتي أجيال يقرأون عن هذه الجائحة في الكتب ويرونها في أفلام السينما كما نفعل نحن الآن مع الأحداث التي سبقتنا، وكما وجدنا كتابًا كُتِبَ سنة 808 هجرية لصاحبه “المقريزي” يتحدث فيه عن أزمات – مجاعات وأوبئة – مرت بمصر منذ القدم وأسماه: كتاب “إغاثة الأمة بكشف الغمة“، وقد طبع مركز “عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية” الطبعة الأولى في 2007.
غلاف كتاب “إغاثة الأمة بكشف الغمة” طبعة دار الكرمة.
إن أسباب الموت التي مرت على شعوب الأرض كثيرة، أشهرها الحروب والأوبئة، ورغم موت الملايين إلا أن الإنسان أثبت قوته وقدرته على المقاومة والمرور من الأزمات، فالتاريخ أخبرنا بذلك، وهذا أمر لا بد أن نؤمن به، فلو ضعف الإنسان واستسلم للأحداث السابقة ما كنا هنا الآن.
فدائمًا ما يبحث الإنسان عن الحل لأصعب المشكلات، الحرب العالمية الثانية – التي تسببت في مقتل حوالي 50 مليون – توقفت لأن الحياة أوْلى، ولأن السلام يجب أن يحل بالأرض، وكانت آخر حرب عالمية قاتلت فيها الشعوب بعضها.
الشدة المستنصرية هي الظروف الأسوأ والأكثر شهرة التي مرت بالمصريين.
كتاب المقريزي إغاثة الأمة بكشف الغمة
تقي الدين الـمقريزي ولد سنة 766هـ/1365م، وتوفي 845 هـ/1441م، وهو مؤرخ الديار المصرية، عاش أيام الدولة المملوكية، أصله من بعلبك، ولد ونشأ ومات في القاهرة، وتولى فيها الحِسبة والخَطَابة والإمامة، وكان على اتصال بالملك الظاهر برقوق، ومن مؤلفاته كتاب “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار” ويعرف بخطط المقريزي.
استخدم المقريزي غلاء الأسعار كعامل مشترك لأي بلاء مر بمصر، وقد ألف كتابه أثناء أزمة اقتصادية، وهي مجاعة استمرت بشكل بين سنتي 796 إلى 808 هجرية، وحل أيامها الطاعون وتوفت ابنته الوحيدة بسببه.
وقد تنقَّل بين الأزمنة منذ العصور القديمة؛ لذلك تجد الفصل الأول يبدأ بأول غلاء وقع بمصر في زمن “أفروس بن مناوش”، من ملوك مصر قبل الطوفان، وكان سببه ارتفاع الأمطار وقلة ماء النيل وكان الطوفان في زمنه.
وانتهى القسم الأول من الكتاب بغلاء في أيام “الأشرف شعبان”، الذي ارتفعت فيه الأسعار :
“عزت الأقوات وقل وجودها، فمات الكثير من الجوع حتى امتلأت الطرقات، وأعقب ذلك وباء مات في كثير من الناس، وكان السائل يطلب اللبابة – قشر البطيخ – ليشمها ويصبح حتى يموت، فأمر السلطان بجمع الفقراء وفرقهم على الأمراء ومياسير التجار ودام هذا الغلاء نحو سنتين ثم أغاث الله الخلق وأجرى النيل فارتوت الأراضي وحصل الرخاء”.
- مقتبس
وقد عاصر المقريزي هذه المحنة فيقول :
“وظن الكثير من الناس دوام تلك الشدة واستبعد حصول الفرج وهي حادثة شاهدناها ومحنة أدركناها”.
- مقتبس
ومر أيضًا بمجاعات في زمن “أتريب بن مصريم”، و”موسى عليه السلام”، ثم “عبد الملك بن مروان”، و”الخليفة المستنصر”، و”السلطان كتبغا”، و”محمد بن قلاوون”.
وهذا الكتاب ليس فقط كتابًا تأريخيًا تُروى فيه الأحداث، لكن المؤلف جاء بنظريات اجتماعية واقتصادية وتحليل لطبقات المجتمع بشكل عميق موجز حتى يصل في النهاية إلى حل اقتصادي ينجي مصر من المجاعات، إضافة إلى التقرب من الله والابتعاد عن المعاصي.
لم يفته بالطبع الشدة المستنصرية وهي الظروف الأسوأ والأكثر شهرة التي مرت بالمصريين منذ الفراعنة إلى وقتنا هذا، وهو غلاء استمر سبع سنين متوالية فوصل الأمر أن الناس.
“أكلت الكلاب والقطط حتى قلَّتْ الكلاب، فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير، وتزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضًا، وتحرز الناس فكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتها ومعهم سلب وحبال فيها كلاليب، فإذا مر بها أحد ألقوها عليه ونشلوه في أسرع وقت وشرحوا لحمه وأكلوه”.
- مقتبس
ويشير المقريزي إلى حال الناس وسوء الأزمة فيقول :
“ظن كثير من الناس أن هذه المحن لم يكن فيما مضى مثلها ولا مر في زمن شبهها وتجاوزوا الحد فقالوا لا يمكن زوالها”.
-
مقتبس
وأورد حكمة عظيمة وجهها للقارئ قال فيها :
“واعلم أن المسموع الماضي لا يكون أبدًا موقعه من القلوب موقع الموجود الحاضر في شيء من الأشياء، وإن كان الماضي كبيرًا والحاضر صغيرًا، لأن القليل من المشاهدة أكثر من الكثير المسموع”.
- مقتبس
فالذي يعيش غير الذي يسمع بالتأكيد.
أسباب البلاء وحل الأزمة
عدد المقريزي في كتاب “إغاثة الأمة” أسباب البلاء، فكانت معظم المجاعات التي تأتي على مصر بسبب الفيضان ونقص منسوب مياه النيل فيترتب عليه تدهور موارد مصر كلها، كما أنه أشار إلى انتشار الرشوة، فالوصول إلى أعلى المناصب كالقضاء والوزارة كان يتم بالرشوة، فالفساد كان مستشرٍ، وكان الراشي يستدين ليدفع الرشوة ثم يتعسف على الشعب ويجبرهم على دفع الأموال حتى يستطيع دفع دينه.
وهناك أسباب اقتصادية وهي ما استخدام ما أسماه الفلوس وهي العملة النحاسية دون التعامل بالذهب والفضة، مما أثر اقتصاديًا بالسلب على البلاد.
حتمًا ستمر: اقرأ واعتبر
من يقرأ كتاب “إغاثة الأمة بكشف الغمة” يعرف أن الأزمات أمر دوري حدث كثيرًا، وليست أمرًا مستحدثًا أو جديدًا على البشر، فمعرفة ما مر به مَنْ قبلنا يعطينا يقينًا بأن الحياة ستستمر، وبأن قوة الإنسان في عقله وأمله وحبه للحياة وللمعرفة ورغبته في البناء، فغريزة البقاء هي الغريزة الأقوى لذلك يقاوم دائمًا كل ما يهاجمه ويروضه ويستخدمه لنفسه ويستفيد منه في أحيان أخرى كثيرة.
خاتمة :
كتاب “إغاثة الأمة بكشف الغمة” حققه الدكتور كرم حلمي فرحات وقد جعله مشتملًا على قسمين، القسم الأول عبارة عن دراسة وافية للإمام المقريزي، وقد استمل على ثمانية مباحث تتعلق بحياة المقريزي، ومؤلفاته، وأهمية كتاب إغاثة الأمة، ومصادر الكتاب، والمنهج التأريخي، والنقد التأريخي، ثم وصف المخطوطة، والقسم الثاني من الكتاب هو الكتاب نفسه.
محمود أبو عوف - اراجيك