رمضان في العراق... بين تقاليد الماضي ومتغيرات الحاضر
يمثل شهر رمضان المبارك عنواناً مهماً وبارزاً في عموم بلدان العالم الاسلامي، من حيث طقوسه العبادية، وتقاليده الاجتماعية، وأجوائه الروحية. ومن الطبيعي ان تتفاوت وتختلف تلك الطقوس والتقاليد والأجواء من بلد الى آخر بحسب المنظومة الثقافية والاجتماعية لكل بلد.
وللعراق خصوصياته في هذا الشهر الكريم، التي ربما تلتقي مع خصوصيات بلدان أخرى ضمن محيطه الإقليمي، وربما تختلف عنها، فضلا عن ذلك فإن ما هو موجود وقائم اليوم ليس بالضرورة أنه كان موجوداً وقائماً في الماضي، فكثير من الممارسات والعالدات والتقاليد يمكن أن تتغير بتغير الأحوال والظروف الداخلية وكذلك الخارجية.
وفي هذه السطور سنحاول رسم صورة اجمالية لواقع شهر رمضان في العراق.
بين الامس واليوم
واذا كان الجيل الجديد، لا يدرك حجم وطبيعة المتغيرات، فإن الكبار الذين عاشوا عدة مراحل، يمكنهم ان يدركوا ذلك. فأي شخص تجاوز عمره الاربعين عاما، حينما يحدثك عن طقوس وأجواء شهر رمضان، سيعمد للوهلة الأولى الى المقارنة بين الامس واليوم، ومثل هذه المقارنة توضح وجهين مختلفين لشهر رمضان في العراق.
الحاج عبد الحسين الحسيني (52 عاما) يقول "هناك الكثير من الاشياء خلال العشرة اعوام الماضية ظهرت، أثرت كثيراً على الاشياء القديمة، وهي إن لم تكن ألغتها تماما فإنها قلصتها إلى حد كبير، ومن هذه الأشياء وسائل المعلومات والاتصال الحديثة مثل الفضائيات واجهزة الموبايل والانترنت. في السابق كان المسحراتيون يجوبون الاحياء والأزقة، وعموم الناس تعتمد عليهم للاستيقاظ لتناول وجبة السحور، بينما الآن لم يعد الكثير من الناس بحاجة الى صوت طبول المسحراتيين لايقاظهم، لأنه يندر ان تجد افراد عائلة ينامون بالكامل في ليالي شهر رمضان ويحتاجون الى من يوقظهم، وحتى لو حصل ذلك فإن منبهات اجهزة الموبايل تتكفل بالمهمة.
ويضيف احمد عبد الكريم الجوراني (45 عاما) على ما قاله الحاج الحسيني، قائلا "لم تفلح الثورة الاعلامية والالكترونية الهائلة في انهاء لعبة المحيبس التراثية، اذ ما زال لتلك اللعبة التراثية العراقية روادها ولاعبوها وجمهورها، وإن قل ذلك نوعا ما، وقد راحت بعض القنوات الفضائية تتبنى نقل وقائع بعض مسابقات اللعبة والترويج لها، وهي غالبا ما تمارس بعد وقت الفطور".
والشيء الايجابي الذي ينطوي على ابعاد اجتماعية انسانية، تعبر عن العلاقات الحميمية بين افراد المجتمع العراقي، بصرف النظر عن انتماءاتهم القومية والمذهبية والعشائرية، هو طريقة التواصل من خلال الزيارات المتبادلة بين الجيران والاقارب والمعارف، وتبادل الأطعمة، كما تقول السيدة سليمة العبيدي(39 عاما)، وتؤكد، "اننا نعيش في منطقة ينتمي ساكنوها الى اكثر من مذهب، وهذا لم يؤثر على علاقاتنا الاجتماعية الجيدة التي تبرز بدرجة أكبر خلال شهر رمضان".
ولعل ابرز ما بقي قائما، بل ربما أخذ مديات أوسع هو الطقوس العبادية في الليالي الرمضانية، ففي المساجد بالمناطق ذات الاغلبية السنية يحرص المؤمنون على أداء صلوات التراويح جماعة وتلاوة القرآن الكريم، وفي المناطق ذات الأغلبية الشيعية فإن المؤمنين يجتمعون فيها لقراءة دعاء الافتتاح والقرآن الكريم، اضافة الى الاستماع للمحاضرات الاخلاقية الوعظية، ورغم ان بعض القنوات الفضائية ذات التوجه الديني تبث يوميا الادعية المختلفة وتلاوات القرآن الكريم، فضلا عن البث المباشر لبعض التجمعات الرمضانية، وخصوصا من الأماكن الدينية المقدسة، إلا ان ذلك لم يثنٍ الناس عن الحضور المباشر في أماكن العبادة، ولا شك ان فسحة الحرية التي توافرت بعد الاطاحة بنظام صدام شجعت اعداداً كبيرة من الناس على احياء مجالس الذكر الرمضانية على نطاق واسع، وما يلاحظ في معظم المساجد والحسينات هو تقديم الطعام والشراب يوميا للصائمين الوافدين اليها خلال وقت الافطار.
وفي مدن كربلاء المقدسة والنجف الاشرف والكاظمية المقدسة، ومختلف المناطق التي توجد فيها عتبات مقدسة، تكاد لا تتوقف حركة الناس فيها طيلة ساعات الليل منذ الليله الاولى لشهر رمضان وحتى ليلة عيد الفطر، اذ انه اضافة الى ابناء تلك المدن نجد ان اعدادا غير قليلة يؤمونها لزيارة الائمة الاطهار والتبرك بهم في الشهر الفضيل.
متاعب ومنغصات
ولا تخلو اجواء شهر رمضان في العراق من منغصات ومتاعب غير قليلة، فالوضع الأمني السيئ باستمرار يشكل هاجساً مقلقاً للكثيرين، وربما يجعل البعض يحددون تحركاتهم، إلا الضروري والملح منها، فالأيام الخمسة الاولى من شهر رمضان شهدت عمليات ارهابية دامية في عدة مدن من بينها العاصمة بغداد وديالى وصلاح الدين وكركوك وبابل والبصرة وواسط.
واستهداف المقاهي الشعبية والملاعب الرياضية مؤخرا من قبل الارهابيين جعل الكثير من الشبان يعزفون عن ارتيادها بعدما كانت تعج بأعداد كبيرة منهم في المواسم الرمضانية السابقة.
وما يزيد من معاناة الصائمين في العراق، هو الارتفاع الحاد في درجات الحرارة، حيث وصلت خلال الايام الماضية الى 48 درجة مئوية وربما اكثر من ذلك في بعض المدن، لا سيما البصرة التي تمتاز اضافة الى حرارتها العالية، بنسبة الرطوبة المرتفعة فيها طوال فصل الصيف، وبموازاة الحر اللاهب لم تتحول وعود الجهات المعنية بالطاقة الكهربائية الى واقع على الارض، وبقيت حبرا على ورق، فساعات التجهيز القليلة اما بقيت على حالها، او تراجعت في بعض المناطق، وهذا بدوره رفع مستوى الطلب على الوقود لتشغيل المولدات الاهلية الخاصة.
ولعل ثلاثية الارهاب وارتفاع درجات الحرارة والطاقة الكهربائية شكلت ثلاثية معاناة المواطنين العراقيين خلال شهر رمضان المبارك.
أسواق وأسعار
ومن الطبيعي وكما هي الحال في مختلف بلدان العالم الاسلامي، فإن اسعار المواد الغذائية الاستهلاكية شهدت ارتفاعا واضحا، لا سيما في ظل تزايد الاقبال على الاسواق والمتاجر مع حلول شهر رمضان. ففي العاصمة بغداد، يشهد سوق الشورجة، الذي يعد اكبر الاسواق التجارية في العراق حركة واسعة جدا، فإلى جانب عمليات التبضع بالجملة من قبل اصحاب المحلات والمتاجر المتوسطة والصغيرة الحجم في العاصمة بغداد والمحافظات الاخرى، يتوجه كثير من الناس للتبضع من ذلك السوق، لان اسعار المواد المعروضة تكون ارخص فيه.
ويؤكد كامل زغير الزوبعي (تاجر جملة)، "ان الطلب في شهر رمضان يزداد على البقوليات والحبوب والعصائر والتمور، الى جانب مختلف انواع الحلويات"، فضلا عن ذلك فإن اسعار اللحوم بأنواعها المختلفة تشهد هي الاخرى ارتفاعا في اسعارها.
ورغم تحسن القدرة الشرائية لعموم المواطنين العراقيين خلال الاعوام القلائل الماضية، لا سيما موظفي الدولة، الا ان هناك من يواجه صعوبات في تأمين كل احتياجاته المنزلية خلال شهر رمضان، بسبب محدودية دخله من جانب، وارتفاع الاسعار عن مستوياتها الطبيعية المتعارف عليها من جانب آخر.
لعبة المحيبس التراثية مازالت حاضر
ويلقي اصحاب المداخيل المحدودة باللوم على الجهات الحكومية لعدم اهتمامها ومتابعتها الكافية للسيطرة على اسعار السوق، والحد من جشع التجار، في مقابل ذلك فإن التوجه الى الخصخصة قلص الى حد كبير فرص وإمكانيات الدولة للسيطرة على الاسواق وضبط ايقاع اسعارها.
وبسبب الاوضاع الامنية غير المستقرة، ومصاعب التنقل بين المدن، انتشرت اسواق الجملة في مختلف المدن والمناطق، ولم يعد سوق الشورجة الرئيسي المكان الوحيد للتبضع، سواء في شهر رمضان او في الاوقات الاخرى، فقد تشكلت اسواق مماثلة وان لم تكن بنفس الحجم والسعة في بغداد والمحافظات، وبات المواطنون يقصدونها للتسوق، اختصارا للجهد والوقت، وتفاديا للحوادث المفاجئة من قبيل العمليات الارهابية وقطع الطرق.
ويستمر ارتفاع الاسعار في شهر رمضان ويتسع نطاقه خلال الايام العشرة الاخيرة مع اقتراب حلول عيد الفطر المبارك، وتوجه المواطنين الى شراء الملابس والسلع المختلفة الاخرى، التي تعد من مستلزمات الاحتفال والاحتفاء بالعيد.
حضور السياسة
ومع ان الانشغال في شهر رمضان ينصب على الطقوس العبادية والمسائل الاجتماعية والتبضع وإعداد الاطعمة المختلفة لوجبات الافطار والسحور، الا ان الشأن السياسي يبقى حاضرا لدى جميع العراقيين تقريبا، لأن مختلف القضايا والمشاكل القائمة مرتبطة بشكل او بآخر بالاوضاع السياسية، مثل العمليات الارهابية، وانقطاع الكهرباء وارتفاع الاسعار.
جانب من الامسيات الرمضانية
ويرى بعض الساسة ان اجواء شهر مضان يمكن ان تمثل فرصة لتقريب النفوس، وتذويب جزء من الخلافات والاختلافات بين الفرقاء، لذلك فإنهم يعمدون الى اقامة مآدب افطار ـ او حتى سحور ـ يدعون اليها شخصيات سياسية ودينية واجتماعية من اتجاهات مختلفة، لتتخللها اجتماعات وحوارات تتمحور حول آخر وأهم المستجدات في الساحة السياسية، والبعض الاخر من الساسة ينظمون في مكاتبهم ومقراتهم امسيّات رمضانية يومية تتضمن تلاوة القرآن الكريم وتلاوة الادعية، وإلقاء المحاضرات السياسية والثقافية والدينية.
الى جانب ذلك فإن القنوات الفضائية تستثمر شهر رمضان لتقديم برامج حوارية تخرج نوعا ما عن الاطار التقليدي، يتم فيها استضافة سياسيين ـ اعضاء برلمان او وزراء او ناشطين ـ ليتحدثوا عن جوانب من حياتهم الشخصية وكذلك الشأن السياسي العام، في ذات الوقت فإن المجالس الادبية والثقافية تشهد في هذا الشهر ملتقيات عديدة، وتلك المجالس لها جمهورها الخاص، وأغلب مواضيعها في شهر رمضان لا تخرج عن اجواء الشهر المبارك والشاغل السياسي العام.