إعدامات واغتيالات وطمس للهوية.. سجل فرنسا الأسود في المغرب
استغلت فرنسا المغاربة في حروبها الخارجية
فضلًا عن تونس والجزائر، استعمرت فرنسا - في نفس الفترة الزمنية - المملكة المغربية أيضًا، احتلالًا استغلته السلطات الفرنسية للتنكيل بالمغاربة والتفنن في قتلهم والنيل من كرامتهم ونهب ثروات بلادهم الكثيرة.
في هذا التقرير الجديد لنون بوست، ضمن ملف "جرائم فرنسا في إفريقيا"، سنتطرق معًا لطبيعة الاستعمار الفرنسي في المغرب، وما لحق المغاربة من مآس إنسانية عديدة إبان حقبة الاستعمار التي دامت نحو 43 عامًا.
استغلال الإنسان والخيرات والثروات
سنة 1912، ثارت بعض القبائل ضد السلطان عبد الحفيظ بن الحسن العلوي، فاستغلت فرنسا ذلك وأرسلت قوة عسكرية دخلت فاس عاصمة المغرب آنذاك، وفي 30 من مارس/آذار من تلك السنة، تمكن الفرنسيون من المغرب واحتلوا البلاد حتى سنة 1956.
شمل الاستعمار الفرنسي، المنطقة الوسطى بالمغرب التي سيطرت عليها فرنسا بموجب معاهدة فاس التي قُسم المغرب بموجبها إلى ثلاث محميات: المنطقة الشمالية والمنطقة الصحراوية في الجنوب تحت الحماية الإسبانية، والمنطقة الوسطى تحت الحماية الفرنسية، بينما خضعت مدينة طنجة لحماية دولية بين فرنسا وإنجلترا وألمانيا وإسبانيا.
مارست فرنسا على امتداد فترة استعمارها للمغرب، جميع الوسائل لقمع الأصوات الشعبية، من نفي واعتقال وتعذيب
هذا الاستعمار مهدت له فرنسا بإبرامها العديد من الاتفاقات مع القوى الاستعمارية، فاعترفت سنة 1902 بمصالح إيطاليا في ليبيا مقابل اعتراف إيطاليا بمصالحها في المغرب، تبعه الاتفاق الودي مع بريطانيا سنة 1904 الذي رحب بسيطرة بريطانيا على مصر مقابل حرية تصرف فرنسا في المغرب، إضافة إلى اتفاقات مع قوى أوروبية أخرى.
خلال فترة الاستعمار الطويلة، ارتكبت فرنسا الاستعمارية أبشع الجرائم في المملكة المغربية، حيث استغلت الإنسان والخيرات والثروات، وقهرت المغاربة وأذلتهم وأخضعتهم لسلطتها بقوة السلاح دون أن تعتذر عن ذلك إلى الآن، وانتزعت الممتلكات ونهبت الثروات واغتصبت النساء وقطعت الرؤوس وعلقتها على أبواب المدن والقرى، ليس هذا فحسب فقد شوهت ذاكرة البلاد وعبثت بمؤسساتها وتلاعبت بحدودها الجغرافية وزرعت بذور الفتنة فيها.
تدمير الدار البيضاء
في هذا التقرير لنون بوست، سنفتح ملف الانتهاكات التي ارتكبتها القوات الفرنسية في الأراضي المغربية خلال فترة ما يسمى الحماية التي تميزت باختراع فرنسا أشكال غير مسبوقة من الهمجية والتنكيل والتقتيل والتشريد في حق المغاربة.
لكن من المهم الحديث أيضًا عن جرائم فرنسا في المغرب قبل احتلال المملكة، منها ما حصل في الدار البيضاء في أغسطس/ آب 1907، حين قصفت البحرية الفرنسية المدينة طيلة يومين باستخدام نيران مدافع البوارج.
تسبب هذا القصف في وفاة ما بين 600 و1500 مسلم بالدار البيضاء داخل الأسوار وخارجها، وجاء هذا القصف العنيف عقب عصيان الدار البيضاء الذي بدأ يوم 30 من يوليو/تموز 1907، احتجاجًا على مشروع توسيع مرسى الدار البيضاء وخطط فرنسا لمد خط السكة الحديدية باتجاه منطقة الصخور السوداء لجلب الحجارة إلى الميناء على حساب مقبرة سيدي بليوط.
عقب ذلك القصف المكثف، انتشرت الجثث في الشوارع وسقت الدماء تربة البلاد، حتى أصبحت الدار البيضاء مدينة للأشباح، لم يبق فيها ما يحرق أو ينهب أو يقتل، فالأسطول المكون من البواخر "جاليلي" "دوشيلا "و"فوربين" فعل كل شيء.
عمليات قتل ممنهجة
مع بداية فترة الاستعمار، كثفت فرنسا جرائمها، فقد مارست طوال تلك السنوات، جميع الوسائل لقمع الأصوات الشعبية، من نفي واعتقال وتعذيب، من ذلك ما شهدته منطقة الريف حيث دمرت القوات الفرنسية قبائل زيان وبني خيران والسماعلة وقصبة تادلة والقصبة الزيدانية، والبروج ووادي أم الربيع ووادي العبيد وخنيفرة.
عند وصولها لتلك المناطق، قتلت فرنسا العديد من المواطنين العزل بمن فيهم النساء والأطفال، وقتلت المقاومين من ذلك محمد بن حمو الزياني الذي يعتبر من أبرز رجال المقاومة في التاريخ المغربي الحديث.
من جرائم الاستعمار نذكر أيضًا ما حصل يوم 29 من يناير/كانون الثاني 1944، حيث خرج المغاربة في ذلك اليوم بمختلف المدن للمطالبة بالاستقلال، إلا أن المستعمر واجه المظاهرات بالرصاص الحي، ومحاصرة بعض المدن أمنيًا على غرار "الرباط" و"سلا"، فسقط العديد من الشهداء والجرحى المغاربة.
كما نذكر أحداث 7 من أبريل/نيسان 1947، حيث أقدمت قوات الاحتلال الفرنسي على اقتراف مجزرة رهيبة ضد ساكني الدار البيضاء بكل من أحياء ابن مسيك وكراج علال ومديونة ودرب الكبير، عندما خرجوا إلى الشارع لتأكيد مطالب المغرب المشروعة في نيل حريته واستقلاله وتحقيق وحدة ترابه الوطني وتمسكه بهويته العربية والإسلامية.
في ذلك اليوم، سقط المئات من المغاربة بين قتيل وجريح برصاص القوات الفرنسية التي يشرف عليها فيليب بونفاص، رئيس ناحية الدار البيضاء، فيما اعتقل العديد من النشطاء الوطنيين والنقابيين والمناضلين وعموم المواطنين.
كما نذكر أيضًا أحداث 16 و17 من أغسطس/آب 1953، حين اعترض المستعمر الفرنسي المتظاهرين السلميين بالرصاص، وقتل أكثر من ألف متظاهر في وجدة وتافوغالت (بركان)، واعتقل المئات وقادهم إلى السجن حيث تعرضوا للتعذيب الرهيب.
يوم 19 من أغسطس/آب 1955، خرج أبناء مدينة وادي زم (إقليم خريبكة) في مظاهرات عارمة أعربوا من خلالها عن غضبهم من استمرار سلطات الاستعمار الفرنسي في نفي الملك الراحل محمد الخامس، وللمطالبة بعودته إلى وطنه وعرشه، وإنهاء الوجود الأجنبي بالبلاد، قابل المستعمر تلك المظاهرات بالرصاص، فقتل الآلاف من أبناء المدينة والضواحي، في مجزرة ستظل شاهدة على ما يفعله المحتلون بأبناء الأوطان المستعمرة من أجل ثنيهم عن الاعتراض والقبول بسياسة الأمر الواقع.
دروع بشرية لها في الحرب
لم تكتف فرنسا الاستعمارية بهذا الحد، فقد استعملت المغاربة أيضًا كدروع بشرية لها في الحرب العالمية الأولى، فمع اندلاع الحرب العالمية الأولى صيف 1914، حشد الحاكم العام الفرنسي بالمغرب الجنرال هوبير ليوتي، آلاف الجنود المغاربة للمشاركة في الحرب.
توجهت أول فرقة عسكرية من الرماة المغاربة إلى فرنسا، في أغسطس/آب من عام 1914، مكونة من 4500 جندي للاندماج ضمن فرقة المشاة المجندين من المستعمرات، قبل أن تضاف إليهم أفواج أخرى من الجنود المغاربة، فوصل عددهم وفق بعض المصادر إلى 40 أو 45 ألف جندي.
كان يرمى بالجنود المغاربة في الصفوف الأمامية لتلقي الضربات الأولى، وهو ما يفسر ارتفاع عدد الضحايا في صفوفهم، فقد بلغت جملة الخسائر للقوات المغربية في الأراضي الفرنسية، عند إعلان نهاية الحرب العالمية الأولى، قرابة 12 ألفًا من القتلى والجرحى والمفقودين.
اتبعت فرنسا في تونس سياسة التجنيس لضرب الهوية التونسية، أما في المغرب فقد عملت على إحداث تفرقة بين العرب والأمازيغ
كما شارك المغاربة في صفوف الجيش الفرنسي، في الحرب العالمية الثانية ومشاركتهم في معركة نابولي بإيطاليا سنة 1943، إلى جانب مشاركتهم في تحرير مدينة مارسيليا الفرنسية خلال أغسطس/آب 1944، حيث سقط المئات من القتلى في صفوفهم.
كما حولت السلطات الفرنسية المحتلة العديد من المغاربة إلى عبيد يشتغلون في الأراضي والمزارع، فلحقت بهم مآس كبيرة، وهو ما يدل على العدوانية المفرطة التي ارتكبتها السلطات الفرنسية إبان الاستعمار في حق ملايين المغاربة.
إعدامات واغتيالات في حق رجال المقاومة المغربية
فضلًا عن ذلك، أقدم الفرنسيون في أوائل الخمسينيات على اغتيال رجال المقاومة المغربية، على غرار علال بن عبد الله الذي قتل في سبتمبر/أيلول 1953، وشكلت عملية قتله انطلاقة ثورة الملك والشعب التي أعادت الشرعية والاستقلال للمغرب.
كما تم في نوفمبر/تشرين الثاني، إعدام أحمد الحنصالي رميًا بالرصاص، ويعتبر الحنصالي المقاوم الأول بمنطقة الأطلس المتوسط الذي تحدى حاجز الصمت والتردد ومزق مخانق التطويق الاستعماري العنيف.
في أبريل/نيسان 1955، أعدم المستعمر الفرنسي المقاوم حمان الفطواكي في الجديدة، ويعتبر الفطواكي، أحد أبرز رجال المقاومة المغربية وقد حارب في صفوف جيش التحرير الوطني المغربي، وشكل جماعات مسلحة كبدت المستعمر خسائر كبرى.
كما لفظ الكاتب والشاعر المغربي محمد القري في 8 من ديسمبر/كانون الأول 1937، أنفاسه الأخيرة تحت التعذيب في سجن كلميمة، وفي سنة 1942 ألقي القبض في مدينة بركان على الوطني محمد بن عبد النبي التزغيني وقتل في إدارة الشرطة تحت التعذيب.
طمس الهوية المغربية
اتبعت فرنسا في تونس سياسة التجنيس لضرب الهوية التونسية، أما في المغرب فقد عملت على إحداث تفرقة بين العرب والأمازيغ وإحداث شرخ فاضح في المجتمع المغربي المحافظ، وذلك لطمس الهوية المغربية وضرب وحدة البلاد.
في إطار سعيه إلى هذا الأمر، أصدر المستعمر الفرنسي في 30 من مايو/أيار 1930 ما سماه "الظهير البربري"، وهو قانون يمنع الأمازيغ في المغرب من التحاكم في قضاياهم المختلفة إلى الشريعة الإسلامية، وأن يتحاكموا إلى العرف البربري.
كما منع المستعمر، المغاربة الأمازيغ من تعلم الإسلام واللغة العربية، وذلك بهدف إحداث خلخلة في النسيج المغربي، وتفكيك نسيجه الاجتماعي وأيضًا المس بمقومات هويته وطمس معالم شخصيته العربية الإسلامية.
إلى جانب ذلك، عملت فرنسا ضمن سياستها التفريقية إلى استعمال قُواد المناطق والأقاليم للعمل لصالحها مقابل امتيازات خاصة، وذلك بعد الحرب العالمية الأولى، كما أنشأت مدارس مدنية وعسكرية خاصة لتكوين نخبة بربرية، تتحدث الفرنسية والأمازيغية، كان الهدف من ورائها تمييزيًا.
نخلص مما قلنا في الأعلى، أن الاستعمار الفرنسي للمغرب بُني على الإهانات والتنكيل والقتل والتعذيب والاختطاف والإعدامات بحق المغاربة الذين طالبوا باستقلال بلادهم وحقهم في العيش الكريم داخل مملكتهم، دون أن يكون للمحتل وجود معهم.