الرحلات الإسلامية المُبكرة إلى الغرب
كانت الرحلات - مثلما كانت الحروب والسفارات - ركنًا أساسيًا في صلة المشرق بالمغرب واتصال المسلمين بالغرب.
لقد وصل المسلمون بجهادهم في جبهة الروم إلى غالب الأراضي التي كانوا قد استولوا عليها في المشرق، وواصلوا جهادهم ففتحوا غير قليل من أراضي الروم شرقًا وغربًا، فالأراضي التي لم تصلها جيوش المسلمين أبدًا هي الجزء الأقل من أرض الروم، إذا ما استبعدنا العالم الجديد الذي لم يكن معروفًا آنذاك.
هذه الأجزاء التي لم يصلها مجاهدون وصلها رحالة مسلمون ممن حُبِّب إليهم السفر والترحال، أو حملهم على ذلك التجارة أو السفارة أو ما سوى ذلك من الأغراض.
ونستطيع أن نقول بمجموع ما وصل إلينا من أخبار الرحلات والمؤلفات فيها إن المسلمين قد شملوا برحلاتهم بلاد أوروبا، فعرفوها بالعيان والمشاهدة لا بمجرد النقل والسماع، ويمكن أن نقسم الرحلات إلى نوعين: الرحلات الفردية التي قام بها رحالة شغوف وسجلها في كتاب، والرحلات الجماعية التي يقوم بها التجار أو المهجرون واللاجئون وأشباههم.
الرحلات الفردية
تتميز الرحلات الفردية بأن أغراضها علمية وأن صاحبها كان حريصًا على تسجيلها، ولذلك اهتم بالتقاط ما شاهده فيها، فهو عين فاحصة منتبهة، وقد اختلفت مناهج الرحالة في تسجيل مشاهداتهم، فمنهم من اهتم بالجغرافيا، ومنهم من اهتم بالناس وأحوالهم وعوائدهم، ومنهم من اهتم بالسياسة والملوك، وربما مرَّ بالبلد الواحد أكثر من رحالة في أكثر من زمن وكان لكل منهم عين ومنهج، فكانت الصورة المنقولة تتمتع بقدر معقول من الشمول، وهذا كله بخلاف ما ضاع من تراثنا في هذا الجانب.
وأقدم من نعرفه ممن سجل رحلته إلى بلاد الروم هو "ابن فضلان" الذي ذهب رسولاً من الخليفة المقتدر إلى ملك الصقالبة بطلب من هذا الأخير، فقد طلب من يعرفهم الإسلام ووعد بأن يبني مسجدًا كبيرًا ومنبرًا لدعوة قومه .
وشملت رحلات المسعودي - وقد نشأ في بغداد، وتوفي في مصر منتصف القرن الرابع الهجري - بعض أنحاء الغرب، نستشف ذلك من كلامه المنثور فيما بقي لنا من مؤلفاته مثل "مروج الذهب" لاسيما حديثه عن بحر الروم - الذي صرح أنه ركبه - وما يقع عليه من البلاد الرومية، وكانت له محاورات مع المجاهدين البحريين والتجار الذين يقطعون البحر وسجل عنهم معلومات عن البحر ومعالمه .
وشملت رحلة ابن حوقل - وكانت في منتصف القرن الرابع الهجري - نابولي وصقلية، وكانت صقلية تحت حكم المسلمين حينئذ، ووصف كثيرًا من مشاهد وجزر بحر الروم وأحوال بعض أهلها، وسجل ما سمعه من ذوي الأعمار والترحال في بلاد الروم .
وبدأ الإدريسي رحلاته مبكرًا، فقد ولد بالمغرب ودرس بالأندلس، وشملت رحلته فرنسا وإنجلترا وأسيا الصغرى وبلاد اليونان، ثم حط رحاله واستقر في صقلية تحت حكم النورمان، وكان بلاطهم عربي السمت والرسوم، إذ كان العهد قريبًا بالحكم الإسلامي للجزيرة، وهناك وضع كتابه الشهير الذائع الصيت "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" ورسم أول خريطة للأرض، وقد استفاد الإدريسي أيما استفادة من موقعه إلى جوار الملك، إذ كان يجمع علم من ارتحلوا إلى الملك من النصارى في أوروبا، وعلم من أرسلهم الملك إلى أطراف الأرض ليجمعوا علمها، فكانت حصيلة الإدريسي من هذه الرحلات شيئًا عظيمًا لم يتيسر لغيره.
وشملت رحلة أبي حامد الغرناطي - والتي سماها "تحفة الأصحاب ونخبة الأعجاب"، وكانت في مطلع القرن السادس الهجري - جزءًا من البحر الأسود (بحر الخزر)، وتوغل في بلاد البلغار على ضفاف نهر الفولجا وبلاد الصقالبة وإقليم باشغرد (بين البلغار والقسطنطينية) .
وشملت رحلة ابن جبير الأندلسي - وكانت في أواخر القرن السادس الهجري - عكا وصورًا، وكانتا تحت حكم الصليبيين، وصقلية وكانت تحت حكم النورمان .
وارتحل الهروي - وأصله من هراة، ووُلِد بالموصل - في أواخر القرن السادس الهجري إلى ما استطاع من بلاد المشرق والمغرب، فبلغت رحلته في أرض الروم جزيرتي صقلية وقبرص، والقسطنطينية وسالونيك وأسيا الصغرى، وسجل رحلته في كتابه "الإشارات إلى معرفة الزيارات"؛ حيث جمع فيه ما علق بذهنه من المشاهدات بعد أن ضاعت كتبه التي سجل فيها رحلته مفصلة، فبعضها غرق وبعضها نهبه جنود صليبيون أوقعوا به جنوب فلسطين في أيام الحملة الصليبية السادسة .
وأما شيخ الرحالة ابن بطوطة فقد كانت معظم رحلته في ديار المسلمين وبلاد الشرق، إلا أنه أصاب من الغرب شيئًا حسنًا، فقد دخل إلى أسيا الصغرى وصعد إلى بلاد القرم وذهب إلى آزاق (أزوف الآن) وبلاد البلغار وزار القسطنطينية، وأمدنا في كل ذلك بمعلومات قيمة.
ومما يمكن إدراجه في الرحلات الفردية التي مثلت مصدرًا من مصادر معرفة المسلمين بالغرب: رحلات طلبة العلم الأوروبيين إلى بلاد المسلمين للتعلم، سواء في الأندلس أو المغرب أو المشرق، فقد كان هؤلاء ممن نقلوا الكثير من أحوال بلادهم وعوائدها إلى المسلمين.
الرحلات الجماعية
وأبرز ما في الرحلات الجماعية: الرحلات التجارية وحركات النزوح واللجوء، ولقد كانت هذه الرحلات الجماعية أنشط وأكبر مساحات الاحتكاك بالغرب والمعرفة به لكثرة أهلها، إلا أن أخبارها لم تُسجل بل كانت قيمتها وقتية.
فبرغم أن حركة التجارة هي الحركة الأوسع في التعرف على الغرب، وبرغم أن التجار هم من أنشط فئات الناس وأذكاهم، إلا أن التجار ليست لهم سجلات يدونون فيها معارفهم، بل حظهم من الحياة ما يقيم تجارتهم، فعلمهم مقصور عليهم وعلى أزمانهم ولا يفيد الناس منه كثيرًا، اللهم إلا من كان منهم مهتمًا بالعلم أو له باع فيه.
وقد كان التجار المسلمون من النشاط بحيث فاق كثيرًا نشاط غيرهم، فحتى عام 1914م أُحصيت 200 قطعة من العملة البيزنطية في السويد مقابل 38000 قطعة من العملة العربية عُثر عليها هناك ، ولقد أنعشت حركة التجارة حركة الترجمة حتى لقد كان العثمانيون يأخذون ضريبة على المترجمين تسمى "ترجمانية" .
ومن حسن الحظ أن الزمن قد حفظ لنا قطعُا مهمة من تراث بعض التجار، مثل إبراهيم بن يعقوب الطرطوشي، وهو تاجر أندلسي كان يعمل في جلب الرقيق الأبيض من أوروبا إلى الأندلس، وله كتاب مفقود لم يبق منه إلا ما نقله عنه مؤلفون آخرون كالبكري في المسالك والممالك والحميري في الروض المعطار، وما بقي من رحلته يفيدنا في أنه ذهب إلى ألمانيا وبلاد الصقالبة ووصل حتى شرق أوروبا وعبر البحر الأدرياتي وزار براج والتقى بالملك أوتو الكبير - إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة - والتقى عنده بسفراء من ملك البلغار، وفي ألمانيا التقى بتجار عرب قادمين من بلاد المجر يحملون الدقيق والقصدير والفراء، وزار كذلك بلاد الخزر، ويشير الدكتور حسين مؤنس إلى معلومة بالغة الأهمية في سياقنا هذا، وهي أن الطرطوشي لم يذكر أن أهل بلاد الخزر في ذلك الوقت كانوا يهودًا برغم أن كتّاب اليهود يطيلون الحديث عن دخول الخزر في اليهودية وانتشارها فيهم حينئذ، وقد انتفع المستشرقون بهذه القطعة ذات الأهمية الكبيرة في تاريخ الروس القدامى وأحوالهم، وهي من أهم ما وُجِد في المصادر الإسلامية عن وسط أوروبا وشرقها، ويتوقع برنارد لويس أن رحلته كانت من الأندلس إلى فرنسا ثم هولندا ثم شمال ألمانيا وبوهيميا وبولندا، وأن عودته ربما كانت عن طريق شمال إيطاليا .
وفيما نزعم فإن حركة المهجرين هي ثاني أوسع الحركات في التعرف على الغرب بعد حركة التجارة، وكثيرًا ما أسفرت الحروب المستمرة على أطراف العالم الإسلامي وفي أعماقه أحيانًا عن حركات نزوح واسعة بفعل مذابح الروم أو استيلائهم على البلد، ثم لقد ألقت الأندلس إلى المغرب بطوفان من أبنائها خلال أربعة قرون منذ بدأ تساقط حواضر الأندلس، وحتى الموجة الكبرى مع سقوط غرناطة ومحاكم التفتيش ثم قرار الطرد والتهجير، كذلك فقد ألقت كافة الأراضي التي كانت تحت سلطان العثمانيين إلى ما جاورها من بلاد المسلمين طوفانًا أكبر عبر ثلاثة قرون منذ بدأ الضعف يدب في أوصال الدولة العثمانية وتتساقط حواضرها أمام الروس أو الأوروبيين، وقد عانى المسلمون مثلما عانى إخوانهم قبلهم في الأندلس من المذابح وعمليات الإبادة ومحاكم تفتيش جديدة.
ولم يكن المهجّرون في هذه الأحوال من المسلمين فحسب، بل كثيرًا ما استقبلت الدولة العثمانية الهاربين من الاضطهاد الديني الأوروبي، وقد فرَّ كثير من يهود الأندلس إلى الدولة العثمانية، كما فرَّ كثير من المسيحيين البروتستانت والموحدين إلى الدولة العثمانية، كذلك فرَّ القوزاق من اضطهاد الكنيسة الأرثوذكسية الروسية إلى الدولة العثمانية أيضًا .
إلا أن المهاجرين -كالتجار- لا يسجلون لنا معارفهم سوى من كان منهم من أهل العلم، بل سوى من يهتم بمثل هذا من أهل العلم، غير أن كل هذه الحركة مثلت - في وقتها - إضافات ضخمة للعالم الإسلامي عن الغرب وأحواله ولغاته وثقافته.
ومما يمكن إدراجه في الرحلات الجماعية كذلك: رحلات الغربيين للحج إلى بيت المقدس، وقد كانت هذه مزية للتعرف عليهم وليس للغربيين مثلها، إذ ليس في بلادهم ما يحج إليه المسلمون، وقد تمتعت ديار المسلمين بالأمن وحماية الأماكن المقدسة والإحسان إلى عموم الذميين والمستأمنين؛ مما جعل رحلة حجهم إلى بيت المقدس رحلة آمنة وحدثًا يتمتع بالاستقرار في غالب الأحوال، وهو حدث مستمر لا ينقطع بسلم أو بحرب، فمن هنا كانت رحلة الحج مصدرًا متجددًا من مصادر معرفة المسلمين بأهل الغرب.