المسلمون وعلوم الغرب (1 - 3)
لم يبق لدينا في هذا العرض الموجز لتاريخ اتصال المسلمين بالغرب، إلا ما كان بين الجانبين من الاحتكاك العلمي، من بعد ما استعرضنا موجزًا لتاريخ الصدام والحرب (جـ1، جـ2، جـ3، جـ4)، ثم ما نبت على ضفاف هذه الحروب من علوم ومعارف، ثم استعرضنا لقطات من تاريخ العلاقات السياسية والسفارات (جـ1، جـ2)، ثم الرحلات الإسلامية إلى الغرب.
ونرجو بذلك أن نكون قدَّمنا سياقًا واضحًا - وإن كان في غاية الإيجاز - لتاريخ اتصال المسلمين بالغرب.
لقد كان لا بد لمن بعثهم الإسلام من الرقاد فحملوا لواء الحضارة ودبت فيهم روح طلب العلم أن يحوزوا علوم من فاتهم، وقد ضرب المسلمون المثل الأعلى في النشاط العلمي، وساحوا في أودية المعرفة ينهلون منها ما استطاعوا، فحصَّلوا من علوم الأولين ومعارفهم ما لو لم يحصلوه لكان مصيره الضياع والنسيان، ثم هضموه واستوعبوه، ثم صححوه وأضافوا إليه، فطوروا علومًا كانت قد جمدت وابتكروا علومًا لم تكن قد وُجِدت، وقدموا للعالم نموذجًا لخير أمة أُخرجت للناس.
والمقام لا يتسع ولا حتى لنبذات في سياق التعرف العلمي على الغرب من قِبَل المسلمين، فنحن نكتفي بمجرد الإشارة الخاطفة.
ما إن تم الاستقرار السياسي للمسلمين في أرض الشام حتى بدأوا في ترجمة ونقل العلوم، وكان النقل الأول على يد الأمير الأموي "خالد بن يزيد" لاعتنائه بعلوم الطب والكيمياء؛ فأحضر جماعة من اليونانيين لنقل الكتب من اليونانية والقبطية إلى العربية، فترجموا كتبًا في الطب والكيمياء والحروب والآلات والصناعات، وكان أول من أعطى أجورًا للمترجمين وقرب إليه أهل الصناعات، واهتم بجمع كتب العلوم وأنشأ لها دارًا في دمشق، فكانت تلك الدار أول مجمع للكتب العلمية .
واستمرت حركة الترجمة والتعلم طوال العصر الأموي، منها ما كان بأمر من الخلفاء كمروان بن الحكم وعمر بن عبد العزيز، ومنها ما كان بأمر من حاشيتهم كسالم كاتب هشام بن عبد الملك، خصوصًا بعد حركة التعريب الكبرى التي أمر بها عبد الملك بن مروان ، ومنها ما انطلق به أهل الشغف من العلوم حتى لقد بلغ نشاط الترجمة والتعلم حدًا يفوق التصور، فقد أفادت رواية أن عدد الأطباء بالنسبة للناس بلغوا واحدًا لكل 534 فردًا، وهي نسبة لا توجد في أي بلد متقدم الآن .
ثم كانت الثورة الكبرى في عصر الدولة العباسية، فقد وضع المنصور بذور نهضة علمية راسخة، فهو أول خليفة يهتم بالعلوم على قدر واسع، وقد "كان مع براعته في الفقه كَلِفا في علم الفلسفة وخاصة علم النجوم" ، وهو "أول خليفة تُرجمت له الكتب السريانية والأعجمية ... وكتب اليونان" . وخصص المنصور لهذه الترجمات وغيرها من المخطوطات خزانات في قصر الخلافة في بغداد، حتى ضاق عنها على سعته .
ثم تمم المأمون ما بدأه جده المنصور، فأقبل على طلب العلم في مواضعه وداخل ملوك الروم، وسألهم صلتهم بما لديهم من كتب الفلسفة وغيرها من "مُختار العلوم القديمة المخزونة"، وحين وافق ملك الروم كلف المأمون لجنة من المشرفين على بيت الحكمة وأهل العلم بالذهاب وتخير المفيد من هذه الكنوز، ثم اختار مهرة التراجمة وكلفهم إحكام ترجمتها، فترجمت له على غاية ما أمكن، ثم حرض الناس على قراءتها ورغبهم في تعليمها ، وقد شملت هذه السفارات الهند والصين، بالإضافة إلى ما كان تحت سلطة الخلافة من تراث اليونانيين في الشام ومصر وكل التراث الفارسي.
وبهذا تطور بيت الحكمة في عهد المأمون حتى أصبح مؤسسة علمية من الطراز الممتاز همها ترقية البحث والدرس والتجرد للدراسات العليا، ويمكننا القول إن هذه المؤسسة "بيت الحكمة" قد أصبحت في زمن المأمون أكاديمية بالمعنى العلمي الدقيق للكلمة؛ فيها أماكن للدرس وأماكن لخزن الكتب، وأماكن لنقلها، وأماكن للتأليف، إلى جانب المرصد الفلكي الذي مارسته .
ودامت أعمال الترجمة المخصبة المثمرة، مائة وخمسين عامًا فيما بعد، تحيل كل ما يقع تحت أيديها من تراث ترى فيها نفعًا إلى لسان العرب في سائر العلوم والفنون، "وبعد مائة عام من حركة المأمون كانت معظم الكتب اليونانية القديمة في علوم الرياضة، والفلك، والطب قد ترجمت إلى اللغة العربية" ، وبهذا كان حجم المادة المترجمة "كافيًا لإعطاء القارئ المسلم نظرة شاملة ورؤية كاملة للفلسفة اليونانية القديمة والطب والعلم" .
وكان راتب المُترجِم من أعلى الرواتب في وظائف الدولة، فكان حنين بن إسحاق ومجموعته يحصلون على خمسمائة دينار في الشهر، هذا بخلاف ما يعطيه عقب كل ترجمة، وهي مكافأة هائلة: وزن الكتاب ذهبًا ! ولا ريب أن هذه مبالغة ولكنها تعبير عن حفاوة المأمون بعمل المترجمين!
ولئن كان الانقسام السياسي من عوامل الضعف، فلقد كان من وجه آخر من عوامل التنافس، وبذلك استفادت الساحة الحضارية من الإمارات والممالك المستقلة؛ ففي الأندلس غربًا كانت تجري عمليات ترجمة منفصلة عما كان في المشرق، ولقد استطاع عبد الرحمن الناصر في الأندلس بما له من علاقات طيبة مع القسطنطينية أن يستجلب مترجمين من اللغة اليونانية إلى اللاتينية، إذ لم يكن في الأندلس من يحسن اللغة اليونانية، فجعلهم يعلّمون بعض عبيده هذه اللغة ليتمكنوا من نقل ما هو باليونانية إلى اللاتينية ثم العربية أو إلى العربية مباشرة، وكان من فوائد ذلك إكمال ترجمة كتاب الحشائش لديسقوريدس والذي لم يكمل المشارقة ترجمته .
ومما لا بد من قوله في شأن الترجمة إنها كانت انتقائية تستهدف ما هو مفيد، وتلك سجية الواثق بنفسه الذي يمارس الاختيار والانتقاء طبقًا لنموذجه المعرفي، لا الذي ينهمر منبهرًا على ما لدى غيره لا يفرق بين ما ينفع وما لا ينفع، وأهم ما لم يترجم -مثلاً- الأساطير والآداب اليونانية، فقد كانت مناقضة للعقيدة الإسلامية بحديثها السخيف عن صراع الآلهة وتعددها، وهذا قول الإسلاميين ، أو هي على الأقل لم تكن ذات نفع علمي، وهذا قول الآخرين .
وقبل أن تنتهي مرحلة الترجمة كانت مراحل التصحيح والإضافة والابتكار قد بدأت حتى ازدهرت وآتت ثمارها، ومن الحقائق التي ينبغي التنبه لها والاعتراف بها ضمن أسباب تخلفنا وضعفنا هو إهمال الترجمة في عصور ضعفنا وانحطاطنا، ولقد عانت الدولة العثمانية معاناة شديدة إذ صار أمر الترجمة متروكًا لغير المسلمين حتى صار منهم من يطلع على كل المكاتبات ويرسلها إلى خصوم الدولة، وجرت في هذا قصص مريرة قبل أن ينتبه السلاطين لخطورة الأمر، ومن أسفٍ أنهم انتبهوا بعد أن ضاع وقت لا يُعوض .
وما يهمنا في سياقنا الآن أن هذه الحركة الواسعة من الترجمة، أثمرت تعرّفًا على الغرب في مجالات علمية عدة، ثم أثمرت الحركة العلمية للحضارة الإسلامية فروعًا جديدة في المجالات القائمة كما ابتكرت مجالات علوم جديدة.
وهذا ما نلقي عليه الضوء في المقالات القادمة بإذن الله تعالى.