عبد العزيز الثعالبي: مجاهدٌ تونسي عاش منسيًا ومات مظلومًا
يقول العلامة التونسي ابن خلدون في مقدمته التي تناول فيها فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلمام بمغالط المؤرخين: "التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار.. وفي باطنه نظر وتحقيق"، وبما أن الأحداث التاريخية هي في المجمل نتاج تجارب الإنسان وصنيعه، فإن إساءة كتابته وصياغته يكون مآلها حقيقة مشوهة وإخبار زائف أو نيل من شخصيات ومسيرتها، لذلك كان جوهر دور المؤرخ هو البحث في الروايات والقصص والأخبار والتحقق من صحتها ومصداقيتها وكذلك الكشف عن أسبابها ودوافعها.
في هذا الإطار، نحن معنيون في ملف "رجال منسيون" بالحديث عن الشخصيات التي خدمت الوطن وأُسقطت من الذاكرة وصفحات التاريخ، وسنحاول في "نون بوست" نفض الغبار عن أهم الأسماء الوطنية التي ساهمت في تحرير بلدانها من المستعمر وفي إنارة الفكر والوعي بمواقفها وأثرها وكتاباتها، ومن بينهم المجاهد التونسي عبد العزيز الثعالبي.
بدايات
يُعد الزعيم السياسي والمصلح الديني عبد العزيز الثعالبي من أهم الشخصيات الوطنية التونسية التي قادت حركة الإصلاح محليًا وعربيًا في النصف الأول من القرن الـ20، ومن أبرز المؤثرين في تلك الحقبة التاريخية لما اكتسبه من فصاحة وبيان لغوي ورؤية ثاقبة في عدة مسائل دينية وثقافية وسياسية.
وُلد الثعالبي بتونس العاصمة بتاريخ 5 من سبتمبر/أيلول 1876، ونشأ في عائلة جزائرية الأصل معروفة بعلمها، فهو حفيد عبد الرحمن الثعالبي أحد قادة المقاومة الجزائرية الذي هاجر إلى تونس بعد الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830.
حفظ الثعالبي القرآن ودرس النحو والعقيدة قبل أن يلتحق بالمدرسة الابتدائية باب سويقة بالمدينة العتيقة لتونس العاصمة، وأكمل تعليمه في المعهد الديني الملحق بجامع الزيتونة بتونس وتتلمذ على يد كبار المشايخ مثل حسين بن حسين والعلامة سالم بوحاجب، وحصل على شهادة التطويع عام 1896 (أعلى شهادة في المعهد)، وتابع دراسته العليا في المدرسة الخلدونية.
أول سجين رأي
انخرط الثعالبي مبكرًا في الحياة السياسية والتحق برواد النهضة الفكرية والحركة الإصلاحية كالبشير صفر، ونشر مقالات في عدد من الصحف كـ"الصواب" و"الزهرة" و"الحاضرة" و"المنار"، إلى أن أصدر جريدته الخاصة "سبل الرشاد" وعمره 19 عامًا، ومكنه إتقان اللغة العربية وفنون كتابتها من مواجهة الاستعمار الفرنسي وفضح جرائمه والدعوة للاستقلال.
وبعد إغلاقها من المستعمر الفرنسي سافر الشيخ إلى بعض الدول، منها ليبيا واليونان وتركيا ومصر، حيث كان يلتقي بالمفكرين المتنورين والسياسيين المصريين من أمثال محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمان الكواكبي، ثم قفل راجعًا إلى وطنه حاملًا مشروع فكري يهدف إلى تجديد التأويل العقلاني للقرآن والقطع مع التحجر الذهني والعقائدي الذي هيمن طويلًا على العقل الإسلامي، لكنه جوبه بتعنت من الزيتونيين وتعرض إلى حملة تكفير من الشيوخ المحافظين بعدما أدلى بمواقف تتعلق بمقاصد الشريعة الإسلامية، أقرب إلى عقلانية ابن رشد وابن خلدون، أمر اعتبره شيوخ الزيتونة آنذاك كفرًا وإلحادًا وتطاولًا على الأولياء والاستخفاف بكراماتهم، ومساسًا بالعقيدة واستنقاصًا من رموزٍ مُقدسة في المجتمع.
وطالته بسبب هذه الدعوة حملة تشويه، إذ وصفته صحيفة "القلم" بـ"زعيم الشرذمة الجهلة المارقين عن الدين"، واعتبرته جريدة "الرشيدية" "مستهترًا بالنبي والصحابة والأولياء الصالحين"، وحكم عليه آنذاك (1904) بشهرين من السجن، وقال الشيخ الفاضل بن عاشور في كتابه الحركة الأدبية والفكرية في تونس" واصفًا ما تعرض إليه الثعالبي من تشهير وتشنيع: "الرَعاعُ يَتَرصدون للثعالبي في ذهابه إلى المَحكمة ورجوعه يهاجمونه بالسبِ والأذى، ثم حُكم عليه بالسجن".
نضال سياسي
عام 1905 ألف الثعالبي كتابًا سماه "روح التحرر في القرآن" باللغة الفرنسية، وكان يبشر بمشروع تنويري في مرحلة تتسم بالظلمات وسيطرة الفكر التقليدي الجامد، فكان من أوائل الذين اهتموا بقضية المرأة ودعوا إلى تحريرها، كما اهتم بالثقافة والجمعيات وأسس جمعية تمثيلية (جمعية الآداب والشهامة العربية).
وأسس رفقة علي باش حانبة جريدة "التونسي" في 1908، كما انضم إلى "حركة الشباب التونسي" التي تضم نخبة من الإصلاحيين في تونس، وترأس صحيفتها "الاتحاد الإسلامي".
لمع اسم الشيخ الثعالبي في سماء المقاومة بتونس من خلال مشاركته في الحركات الاحتجاجية التي عرفتها البلاد في تلك المرحلة، مثل حركة طلبة الزيتونة سنة 1910، وأحداث الزلاج سنة 1911، ومحاولته مساعدة المجاهدين الليبيين في نضالهم ضد الإيطاليين، وأحداث التراموي سنة 1912، فكان رد فعل الاستعمار نفيه خارج البلاد.
عاد إلى تونس من جديد ليواصل نضاله ضد المستعمر الفرنسي حاملًا هم بلاده تونس والأمة الإسلامية جمعاء، وظل الثعالبي يعرف بقضيته لدى الرأي العام العالمي، مما دفع الفرنسيين للقبض عليه سنة 1920، وتم الإفراج عنه تحت ضغط من التونسيين، ليُؤسس بعدها الحزب الحر الدستوري التونسي سنة 1921. هدف من خلاله توحيد الصفوف وتجميع كلمة التونسيين للتحرر من المستعمر، إذ لقي الحزب شهرة واسعة وانخراطًا كبيرًا من المواطنين والمثقفين صلبه بفضل قدرة الشيخ على الإقناع والاستقطاب، وهو ما دفع بفرنسا إلى نفيه مرة أخرى وتحديدًا إلى إيطاليا سنة 1923.
برز كأول حزب وطني تونسي.. بوادر تأسيس الحزب الحر الدستوري على يد عبد العزيز الثعالبي
وبعد إقامة طويلة الأمد قضاها في المشرق (14 عامًا) عاد الثعالبي إلى موطنه، آملًا في جمع شتات المناضلين وتقوية شوكتهم من خلال رص الصفوف بعد أن انشقت قيادات الديوان السياسي (الحزب الدستوري الجديد) في 1934 بقيادة الحبيب بورقيبة ومحمود الماطري والطاهر صفر، غير أن محاولات الثعالبي لم تجد صدى وباءت بالفشل، وتم منعه من مقابلة أنصاره والمواطنين في عدد من المدن التونسية بإيعاز من الحبيب بورقيبة ورفاقه.
– ديسمبر 1933- جوان 1934 : زار عبد العزيز الثعالبي الهند وبورما والسيام والفيلبين وماليزيا وسنغافورة. وفي طريقه إلى الصين علم الثعالبي بالانشقاق الذي حصل في صفوف الحزب الحر الدستوري التونسي إثر انعقاد مؤتمر قصر هلال في 2 مارس 1934.
نقل أحد أحفاد الشيخ، أنس بن مالك شهادة عمته سعاد بن مالك، أن اجتماع "ماطر" الذي حضره الشيخ تم الهجوم عليه من مجموعة بالأسلحة النارية والبيضاء (سكاكين) من "الباندية" (مجرمين) جاؤوا من محافظتي باجة وسوق الأربعاء.
ويقول الأكاديمي سالم لبيض في مقال نشره سابقًا: "في لحظة كان فيها الشيخ الثعالبي منفيًا خارج البلاد بقرار الفرنسيين بين 1923 و1937، تسلل الدستوريون الجدد إلى الحزب بقيادة بورقيبة والدكتور محمود الماطري، وقادوا انشقاقًا عميقًا ظهر بموجبه الحزب الدستوري الجديد سنة 1934"، مضيفًا "ولما عاد الثعالبي، وحاول رأب الصدع وإعادة توحيد الحزب الذي أسسه بنفسه، وذلك سنة 1937، تعرض إلى كل أصناف الإهانة التي وصلت إلى درجة ممارسة العنف ضده من أنصار بورقيبة، حتى إنه مات كمدًا سنة 1944 بسبب ما لاقاه من تهميش ونكران لأعماله ونضالاته وأفكاره وكتاباته".
رحالة مثقل بالقضايا
غادر الثعالبي تونس إلى إيطاليا ففرنسا ثم إلى مصر وصولًا إلى الشام، ونهاية استقر بالعراق حيث درس في جامعة آل البيت ببغداد منذ سنة 1925 إلى سنة 1930، ثم ترك العراق إلى مصر ومنها سافر إلى الصين، وسنغافورة وبورما والهند والكويت ثم عاد إلى القاهرة، وذلك بهدف الدعوة لتحرير الشعوب العربية.
عمل الثعالبي من خلال كتاباته ورؤيته النقدية واستقراءه للواقع والمستقبل وحدسه السياسي الثاقب، على إحياء الرابطة أو الجامعة الإسلامية ورأب الفجوة الواسعة بين ما يعيشه المسلمون من تخلف وما وصل إليه الغرب من حضارة.
وفي الهند التي زارها 5 مرات، حاول الشيخ فض النزاع القائم بين الطائفتين المسلمة والهندوسية، محذرًا من سرقة غاندي للثورة على الاحتلال البريطاني من المسلمين وتفريغ البلاد من المسلمين بالاتفاق مع البريطانيين لترجيح الأغلبية لفائدة الهندوس، وهو ما حدث عندما فصلت باكستان وبنغلاديش، كما عمل على التواصل مع الطبقة المحرومة من غير المسلمين ودعا إلى نشر التعليم، وكتب تقريرًا مفصلًا عن أحوال الهند يعتبر إلى اليوم مرجعًا مهمًا عن الوضع السياسي.
كما زار عبد العزيز الثعالبي عدن اليمنية أربع مرات (1924-1936)، الأولى كانت في إطار جولة واسعة في الشرق العربي والهند والقرن الإفريقي، للدعوة إلى توحيد ملوك وسلاطين العرب في رابطة سياسية وجامعة إسلامية تمكنهم من انتشال الأمة، إضافة إلى إقناع اليمنيين المنقسمين آنذاك بالوحدة.
وكان للزعيم التونسي أثر بالغ وبصمة تركها في المدينة اليمنية بفضل دعوته لإرساء نهضة ثقافية وعلمية، بعدما عاين مظاهر التخلف والخمول وتفشي الفساد، من خلال مشاركته الفعالة في تأسيس "نادي الأدب العربي" (1925)، ونوادي الإصلاح العربي الإسلامي (1929)، عن طريق تلامذته المحامي محمد لقمان والأستاذ أحمد محمد سعيد الأصنج.
وصف الزعيم السياسي التونسي عبد العزيز الثعالبي #اليمن حينما زارها في 1924، بأنها "جوهرة في يد فحّام"، ملخّصا حالة هذا البلد العريق إبان حكم الإمام يحيى حميد الدين، وكيف كانت المجاعات والفقر والتخلف والأوبئة تفتك باليمنيين، فضلا عن حالة العزلة الرهيبة التي فرضها الإمام على الشعب.
فلسطيني الفؤاد
حول الثعالبي بوصلته إلى فلسطين، فقد لعب دورًا بارزًا في المؤتمر الإسلامي العام بالقدس الذي انعقد في سبتمبر/أيلول 1931، حتى تم تعيينه مكلفًا بالدعاية والنشر وعضوًا في المكتب الدائم للمؤتمر، وسافر إلى الدول والأمصار مُعرفًا بالقضية الفلسطينية (الأم) التي كانت متأججة في وجدانه، وساهم في تأسيس المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في القدس في ديسمبر 1931 برئاسة محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين، ووضع نفسه وأفكاره في خدمة القضية، وفي زياراته المتعددة لعدد من المناطق في فلسطين ألقى الخطب ومحاضرات وشحذ الهمم وكتب مقالات من أجل توعية الشباب الفلسطيني بخطر الاحتلال البريطاني والخطر الصهيوني القادم، وكان يستخدم بيانًا ترق له القلوب ولغة سلسة مفهومة للمواطن البسيط ومدعومة بأدلة فلسفية وعقلية مبسطة.
ومن بين خطبه التي ألقاها للدعوة إلى التحرر "إن الوطنية هي فكرة تملأ الأدمغة والقُلوب، وهي إيمان يُوحيه الله للمخلصين من عباده لإحياء المجد الخالد في هذا العالم الفاني. وأما الإسلام فهو قوة خارقةٌ ما كانت ترمي لإيجاد الشر والشقاء بل لإقرار العدل والإنصاف. وإن القومية العربية التي أوحى بها ديننا الإسلامي الحنيف تضم إليها أهل الكتاب الذين قالوا إنا نصارى. لقد حان دور العرب لكي يُعيدوا مجدهم".
إنه مجاهدٌ كبيرٌ، وعلمٌ من أعلام الوطنية والإصلاح، وداعيةٌ من أبرز الدعاة إلى العروبة والإسلام في عصره
إضافة إلى دوره في مؤتمر القدس وعضوية أمانته بعد 1931 وتفعيل المؤسسات المتفق عليها في المؤتمر وتشكيل "لجنة إغاثة فلسطين" و"جمعية الشباب المسلم" منتصف الثلاثينيات، كان للشيخ نشاط فعال في المقاطعة الاقتصادية لليهود ورفض دخول الصهاينة أرض تونس على غرار إبطال زيارة زييف يابوتنسكي سنة 1932 تحت الضغط الشعبي بدفع من الحزب الحر الدستوري (حزب الثعالبي)، وإلغاء محاضرة للصهيوني ناتن هالبارن ممثل الدول الفرنكفونية، ومنع عرض فيلم "الأرض الموعودة".
قالوا عنه
قال عنه العلامة التونسي الشيخ محمد الفاضل بن عاشور: "عاد من الأستانة ومصر غريب الشكل والنزعة والمنطق والقلم.. يدعو إلى التطور والحرية وفهم أسرار الدين وأسرار الوجود ويغرب بمقالات الحكماء والطبيعيين. ذلك هو الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي لم يكد يرجع من مصر حتى أحاطت به هالة من أهل العلم والأدب وأصبحت ألزم له من ظله فكان ينتقل بهم في مجامع العاصمة ناديا سيارا مأخوذين بحلاوة تعبيره وفصاحة منطقه وقوة عارضته ومقدرته على تحليل المواضيع استرسالًا بلا ملل ولا فتور".
وصفه كذلك المثقف العدني (اليمن) محمد علي لقمان أحد تلامذته، بأنه أبو النهضة، وبكاه عند وفاته قائلًا: "وآها لك يا عبد العزيز.. فقد ذهبت وأخليت الديار، وبعدت بيننا وبينك الدار وشط المزار!"، كما أطلقت عليه الصحافة الفلسطينية في ذلك العهد لقب "ابن خلدون الجديد"، وشهد المفكر عبد الرحمن الكواكبي في رسالة خطية تركها بأنه تأثر بأفكار الثعالبي ومقاربته في نقد الحكم المطلق الاستبدادي.
مؤلفاته
من أهم مؤلفات الشيخ الثعالبي كتاب "تونس الشهيدة" و"الروح الحرة في القرآن" وكتاب "معجزة محمد رسول الله"، صلى الله عليه وسلم، ومن كتبه أيضًا "تاريخ شمال أفريقيا" و"فلسفة التشريع الإسلامي" و"تاريخ التشريع الإسلامي".
كما أن له العديد من الدراسات والأبحاث الإسلامية خاصة في العقائد والفقه والفلسفة الإسلامية، وهي المحاضرات التي كان يلقيها على طلبة المعهد الديني بجامعة آل البيت ببغداد في الفترة من 1926 حتى عام 1928، إضافة إلى محاضرات في تاريخ المذاهب والأديان ومقالات في التاريخ القديم وخلفيات المؤتمر الإسلامي بالقدس، ومسألة المنبوذين في الهند، ومخطوطات الرحلة اليمنية وتاريخ الدولة الأموية.
قد يقتصر إطلاع عامة التونسيين على سيرة الرجل على أنه مؤسس الحزب الحر الدستوري القديم وإن زادت معرفتهم به فإنه مؤلف كتاب " تونس الشهيدة"، إلا أن مسيرة الثعالبي النضالية تخطت حدود الجغرافيا التونسية ليحمل هم المقهورين في العالم.
تغييب رسمي
في تصريح لـ"نون بوست" قال الباحث والمؤرخ عبد الجليل التميمي، إن المتتبع لمسار الحركة الوطنية في تونس ومراحلها التاريخية سيكتشف أن هناك مكيدة حاكها الإعلام الرسمي والقيادة السياسية طيلة فترة ما بعد الاستقلال وبناء الدولة، مشيرًا إلى أن محمد الصياح (الوزير المقرب من بورقيبة) غيب شخصيات كثيرة من الفاعلين في مسيرة الحركة الوطنية والكفاح ضد المستعمر.
وأكد صاحب مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، أن تاريخ تونس لم يكتب وفق معايير أكاديمية بل اصطدم بالحواجز التي أرساها نظام "المجاهد الأكبر"، موضحًا أن عبد العزيز الثعالبي يمثل قمة للوفاء للطابع العربي والإسلامي من خلال مسيرته وأدواره في أكثر من ملف سواء على المستوى المحلي أم الإقليمي والعربي، بداية من نشاطه في قضية القدس إلى العراق واليمن، فيما يمثل الطرف المقابل (بورقيبة) الثقافة الغربية الوافدة.
وبين التميمي، أن النرجسية ثبتت تاريخيًا في شخصية الحبيب بورقيبة، لذلك كان لزامًا طمس مسيرة وتاريخ عدد من الشخصيات الوطنية من أمثال الثعالبي وكذلك صالح الشريف ويوسف الرويسي.
وأوضح المؤرخ أن "منهج الثعالبي يتقاطع رسميًا مع النخبة السياسية التي مسكت البلاد من حديد ولذلك لا نستغرب من تغييب دوره الريادي في مقاومة المستعمر"، كاشفًا أن الشيخ كاد أن يتعرض إلى عملية اغتيال من أحد الأشخاص (لم يسمه) عند عودته من المشرق وتحديدًا في مدينة ماطر (محافظة بنزرت)، وذلك بالتنسيق مع حزب الحر الدستوري الجديد (حزب بورقيبة) الذي سلمه مسدس للغرض، إلا أنه تراجع في اللحظات الأخيرة.
وشدد التميمي على أن شخصية الثعالبي تزعج الذاكرة التي يؤمن بها المسؤولون بورقيبة وباقي القيادات التي تأتمر بأوامره إلى درجة تغييبه من المناهج التعليمية والفعاليات الثقافية.
بورقيبة.. لا زعيم غيري
لا أحد ينكر دور الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة في استقلال تونس عن الاستعمار الفرنسي ونضاله في سبيل التحرر، ولكنه في المقابل كان سببًا في عدم تحول البلاد إلى دولة ديمقراطية متقدمة تليق بحضارتها وتاريخها، إضافة إلى سياسته القائمة على تصفية الرفقاء الأعداء (صالح بن يوسف) وإقصاء المعارضين يساريين أو إسلاميين، فكان طيلة حكمه "ديكتاتورًا مستنيرًا".
وفي هذا السياق، قال المؤرخ محمد ضيف الله في تصريح لـ"نون بوست"، إن كتابة تاريخ الحركة الوطنية تمحور حول دور الزعيم الحبيب بورقيبة، وقد سُخرت له أجهزة الدولة والحزب من أجل ترسيخ هذه القراءة التي فرضت نفسها على جميع الأصعدة في الإعلام وفي التعليم، متابعًا القول: "لقد أُصدرت له سلسلة تاريخ الحركة الوطنية التي أشرف عليها محمد الصياح، وألقى بورقيبة نفسه سلسلة من المحاضرات بمعهد الصحافة في خريف 1973 حول تاريخ الحركة، وكان من الطبيعي أن يقع تجاهل العديد من الرموز الوطنية وتبخيس أدوار قيادات أخرى، وكل ذلك في سبيل إعطاء دور أهم لبورقيبة".
وأشار المؤرخ التونسي إلى أن السلطة بعد الاستقلال عملت على تغييب عبد العزيز الثعالبي وإن ذكر فيذكر موقفه بعد أحداث أبريل/نيسان 1938، وأنه دفع إلى توريط بورقيبة في تلك الأحداث، أي كأنه قام بدور خيانة، وهكذا بالنسبة لغيره من القيادات"، مضيفًا أن الرئيس التونسي نعت في إحدى المناسبات الزعيم صالح بن يوسف بأنه "حية رقطاء".
عاش منسيًا ومات مظلومًا
عانى شيخ المناضلين التونسيين ضيمًا وحيفًا مختلف الأشكال والألوان، فإضافة إلى التكفير الذي لقيه من بعض المشايخ والزيتونيين، وتخوين الرفاق وأصحاب الدرب، تعرض الثعالبي إلى مظلمتين تاريخيتين الأولى بتعمد تهميشه تاريخيًا وطمس دوره الريادي في إذكاء ذروة الحركة الوطنية ومساهمته الثقافية والاجتماعية من الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وحاشيته، والثانية ما زالت معلقة في عنق حكومات ما بعد الثورة التي أهملت هي الأخرى علم من أعلام النضال والتضحية في سبيل استقلال البلاد، ولم ترد له الاعتبار المعنوي من خلال تعريف النشء به من خلال الندوات والورشات والمعارض، بل عملت عدة أحزاب ما بعد الثورة (نداء تونس وحركة النهضة) على استغلال إرثه وتاريخه في حربهما وصراعهما السياسي، فيما يتحمل المثقفون والإعلام التونسي بشقيه العام والخاص جزءًا مهمًا من المسؤولية.
وفي الإطار ذاته، كشف الباحث التونسي فتحي القاسمي في تصريح لـ"نون بوست" أن تهميش الزعيم السياسي والديني عبد العزيز الثعالبي لم يقف عند تغييب دوره النضالي في فترة ما قبل الاستقلال في تاريخ تونس الحديث، بل وصل الأمر بالسلطة إلى عدم إيلاء قبره العناية اللازمة التي يستحقها الرجل، موضحًا أنه من اكتشف مرقده المنسي في مقبرة الجلاز وقد تكاثر فوقها الأعشاب وقوارير الخمر، وهو ما دفعه لكتابة مقال في الغرض.
من يكتب تاريخنا؟
يؤكد محمد ضيف الله أن كتابة التاريخ تتعدد ولها أشكال مختلفة تتراوح بين التاريخ الرسمي (رواية السلطة) وفي تونس وقع تجاوزه بعد ثورة الـ14 من يناير وقليلون هم الذين يتبنونه، والتاريخ المدرسي وهو متأثر عمومًا بمقاربة التاريخ الرسمية رغم بعض التعديلات والإضافات، وكذلك تاريخ الهواة الذي يكتبه غير المتخصصين، إضافة إلى التاريخ الجامعي المكتوب طبقًا للمنهجية التي يتطلبها البحث العلمي إلا أنه غير معروف أو غير منشور، فيما لا تُصنف كتابات المذكرات في خانة المراجع التاريخية، وأصحابها أحرار فيما يكتبون، مشيرًا إلى أن السؤال عن إعادة كتابة تاريخ الحركة الوطنية في تونس لا معنى له.
وفي الإطار ذاته، عادة ما يُتهم بعض كتاب التاريخ ومؤرخوه بالانحياز لجهة معينة إن كانت سلطة أو جماعة أو للأيدلوجيا يحملون أفكارها، وتُطرح من هذا الباب تساؤلات عديدة موضوعية المنتج (دراسة أو بحث) ومدى تجرد القائمين عليه، فالتاريخ كما قيل يكتبه المنتصرون سواء كان النصر حربًا أم منافسة سياسية أم حزبية لغاية التحكم وإخضاع المعارضين، ولا يقتصر الأمر على تطويع الأحداث وتبديل الحقائق في كتب التاريخ بل يتعداه إلى المقررات الدراسية ومناهج تعليم.
بالمحصلة، يُراهن التونسيون على ما أنتجته ثورة الـ14 من يناير من حراك ثقافي واجتماعي يزيد في منسوب الحريات المكتسبة ويُعزز الديمقراطية الوليدة، من أجل ولوج أبواب التاريخ المؤصدة وكشف خباياه وأسراره، ودحض ما كانت الأنظمة تسوقه على أنها حقائق لا تقبل التجريح أو التعديل، والوقوف على الفوارق بين التأريخ والدعاية، وإعادة الاعتبار للشخصيات الوطنية المنسية والمظلومة وفق أدوات علمية تُراعى فيها أخلاق علم التاريخ (الأمانة)، ولعل تجربة العدالة الانتقالية التي تشرف عليها هيئة الحقيقة والكرامة خير مثال على الخطوات الأولى التي اتخذتها تونس مهد الربيع العربي في هذا المجال، فالتاريخ يُطمره الموتى وينبشه الأحياء.