الحارث بن عباد
والحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل البَكري، وكنيته أبو منذر، حكيم وشاعر، من سادات العرب في الجاهلية، انتهت إليه سيادة بني ضبيعة وهو شاب لرجاحة عقله، وحصافة رأيه، وحزمه وعزمه، وقوته وفروسيته.
كان الحارث بن عُباد قد اعتزل الحرب بأهله، فلم يشهدها ولو بترس له، وكان قد عرض عليه البكريون ليلحق بهم ويعينهم في حربهم، فاعتذر وقال قولته المشهورة: "هذه حرب لا ناقة لي فيها ولا جمل" وذلك أن الحرب قامت بسبب قتل ناقة، فقال هذه الكلمة، فأرسلها مثلا.
فلما قُتل هَمّام ابن مرة، عزم الحارث بن عباد على السفارة، ليكلم الزير سالم في شأن هذه الحرب لعله يُمسك عنها ويكف عن ثأره فيحقن دماء العرب، فبعث ابنه بُجيرا -وبعضهم يقول بجير ابن أخيه عمرو بن الحارث- وحمّله رسالة إلى المهلهل بقول فيها: إنك قد أسرفت في القتل، وأدرَكت ثأرك سوى ما قتلت من بكر، وقد أرسلت ابني إليك، فإما قتلته بأخيك وحقنت دماء العرب وأصلحت بين الحيين، وإما أطلقته وأصلحت ذات البين، فقد مضى في هذه الحرب من الحيين من كان بقاؤه خيرا لنا ولكم" ، فلما قرأ مهلهل كتاب ابن عباد قال له: "بُؤ بشسع نعل كليب" فقال بجير: إذا رضيت بذلك بنو ضبيعة رضيت"، فاخترط مهلهل سيفه وضرب به بُجيرا فقتله.
فلما بلغ ابنَ عُباد مقتل بجير، قال: نعم القتيل، قتيل يُصلح بين الحيين" وكان ابن عباد يظن أن مهلهلا قتل بجيرا بكُليب، فلما قيل له أنه قتله بشسع نعل كليب، استشاط غضبا وثار الدم في وجهه، ثم أنشد قصيدته اللامية المشهورة التي مطلعها:
قرّبا مربط النعامة مني
لقِحَت حرب وائل عن حيالي
قرّبا مربط النعامة مني
شاب رأسي وأنكرتتني رجالي
قرّبا مربط النعامة مني
شبَّ أمر للمعضلات الثقال
قربا مربط النعامة مني
طال ليلي على الليالي الطوال
قربا مربط النعامة مني
لبُجَير مفكك الأغلال
قربا مربط النعامة مني.
لا نبيع الرجال بيع النعال
قربا مربط النعامة مني
إن قتل الغلام بالشسع غالي
قرّبا مربط النعامة مني
ليس قولي يُراد لكن فعالي
لم أكن من جُناتها علم الله
وإني بِحَرّها اليوم صالي
وذكر الأخباريون أنه ردد صدر القصيدة (قربا مربط النعامة مني) أكثر من خمسين مرة لشدة فاجعته وحزنه، ثم أمر بالنعامة فَرسه، ولم يكن في زمانه مثلها، فجاؤوا بها، فجز ناصيتها وقَطع ذَنبها -وهو أول من فعل ذلك من العرب، فجُعلت سنة عند إرادة الأخذ بالثأر- ثم حلف ألا يترك من ني تغلب أحدا، ولا يكف عن قتلهم حتى تكلمه الأرض فيهم،فركبها وولي أمر بكر وصار قائدهم في حربهم، وكان أول يوم شهده يوم قضةّ، وهو يوم تحلاق اللّمَم، وإنما سمي بتحلاق اللمم لأن بكرا حلقوا رؤوسهم ليعرف بعضهم بعضا، إلا جُحدُرَ بن ضبيعة بن قيس أبو المسامعة فقال لهم: أنا قصير فلا تُشينوني، وأنا أشتري لمّتي بأول فارس يطلع عليكم، فطلع ابن عناق، فشدّ عليه جحدر فقتله، وكان يرتجز ذلك اليوم ويقول:
رُدُّوا علَيَّ الخيل إن ألَمَّت
إن لم أقاتلهم فجزّوا لِمٍَتي
وفاتل بن عباد في هذا اليوم قتالا شديدا، فقتل في تغلب مقتلة عظيمة، وفي ذلك يقول طرفة بن العبد:
سائلوا عنا الذي يعرفنا
بقوانا يوم تحلاق اللمم
يوم تبدي البيض عن أسؤقها
وتلف الخيل أفواجَ النعم
وفي هذا اليوم أسر الحارث بن عباد مهلهلا، وهو لا يعرفه، فقد كان هذا اليوم في الليل، وكان ابن عباد قد أسنَّ فضعف بصره
فقال الحارث دلني على المهلهل وهو لم يعرف أن الذي بين يديه هو الزير سالم عدي بن ربيعة فقال له : إذا دللتك عليه هل ستفك أسري قال له الحارث : نعم
فقال له عدي: انا هو الزير عدي بن ربيعة
فأطلق الحارث بن عباد سراحه وفاء بوعده .