هل يتطلّب الأمن القومي أن تخفي الحكومات الكوارث عن شعوبها؟ تشيرنوبل ليست النموذج الوحيد!
بدأت الحلقة الأولى من مسلسل تشيرنوبل بتسجيل صوتي يقول :
ما هو ثمن الكذب؟ ليس أن نخطئ في اعتباره حقيقة.. الخطر الحقيقي هو أنّنا عندما نستمع لما يكفي من الأكاذيب، فإنّنا لن نستطيع أن نتعرّف على الحقيقة بعد ذلك. ما الذي قد نفعله حينها؟
سنتطرّق في هذا المقال إلى بعض الأكاذيب التي لجأت إليها الحكومات لتغطية الكوارث عن شعوبها و/ أو العالم.
كارثة تشيرنوبل
الوقائع
حادثة تشيرنوبل هي أسوأ كارثة نووية في تاريخ البشرية، وقعت في الليلة بين 25 و 26 أبريل 1986 في المحطة النووية القريبة من مدينة تشيرنوبل التابعة للاتحاد السوفيتي سابقًا ولأوكرانيا حاليًا.
في الواحدة وثلاث وعشرين دقيقة بعد منتصف الليل، اشتعل حريق مهول في المفاعل الرابع لمحطة تشيرنوبل النووية أثناء تجربة محاكاة انقطاع التيار الكهربائي في إطار اختبارات السلامة، حيث وقعت ثلاثة انفجارات أدّت لتهالك قلب المفاعل النووي وإطلاق كميات هائلة من المواد المُشعّة في الجو.
سُحُب كثيفة من الإشعاع النووي انتقلت بفعل الرياح لتغطّي أجزاء كبيرة من أراضي الاتحاد السوفيتي والبلدان الاسكندنافية وشرق أوروبا. في المجموع، أطلق الحريق أكثر من 50 مليون كوري من الإشعاع، أي ما يعادل 500 قنبلة هيروشيما !
رد فعل السلطات
هناك مشهد قوي في أولى حلقات مسلسل تشيرنوبل يجسّد روح الشيوعية التي قام عليها الاتحاد السوفيتي، حيث يصوّر المشهد اجتماعًا عاجلاً لمجلس إدارة مدينة بريبيات-Pripyat في الساعات الأولى بعد وقوع الكارثة، بحضور مسؤولين لا يملكون ما يكفي من المعلومات عن حجم الكارثة. وبينما يُناقش الأعضاء خطورة الوضع والإجراءات اللازمة لعلاج الأزمة، يقترح أحدهم الإخلاء الفوري للمدينة فيُجيبه رجل دولة متقدّم في السن بكلمة فاصلة :
إيماننا بالشيوعية السوفيتية سيكون دومًا مُجزِيًا. الدولة تقول أنّ الوضع هنا ليس خطيرًا. آمنوا بذلك يا رفاق.
أعرف من خلال تجربتي بأنّه حين يبدأ الناس بطرح أسئلة ليست في صالحهم، يجب إخبارهم بأن يهتمّوا بشؤونهم وترك أمور الدولة للدولة. سنغلق المدينة: لا أحد يغادر، وسنقطع خطوط الهاتف. سنوقف نشر المعلومات المغلوطة. هكذا نمنع الناس من إفساد ثمار جهدهم. نعم يا رفاق، ستتم مكافأتنا على ما نفعله الليلة. هذه فرصتنا نحو المجد.
القصّة الحقيقة لم تختلف كثيرًا عمّا صوّره المشهد.. فرغم فداحة الكارثة، إلاّ أنّ السلطات المحلية والقيادات العليا استمرّت بالمراوغة مدّعية أنّ الوضع تحت السيطرة وكل شيء على ما يُرام، ولم يتم الإعلان عن حجم الخطر لا في مدينة بريبيات التي كانت تؤوي عائلات عمّال المحطّة ولا في مدينة تشيرنوبل التي تبعد 15 كلم فقط عن المحطة، ولا في الأخبار الوطنية ولا الدولية.
استغرق إصدار قرار إخلاء التجمع السكاني في بريبيات حوالي 36 ساعة، توفّي خلالها شخصان وأصيب الكثير من عمّال المحطّة ورجال الإطفاء بأعراض مرضية تتفاوت في الشدة نتيجة تعرّضهم لكمّيات غير طبيعية من الإشعاع النووي.. أمّا إخلاء مدينة تشيرنوبل فتمّ يوم 5 مايو 1986، أي بعد تسعة أيام كاملة من وقوع الكارثة.
على الصعيد الدولي، انتهجت الحكومة الصمت التام تفاديًا لأيّة تداعيات سياسية، إلاّ أنّ تكتيك التستّر لم ينجح طويلًا، فقد أعلنت السويد يوم 28 أبريل عن كشف نسب مرتفعة من الإشعاع النووي في محيطها، وأضافت أنّ علماء المحطة النووية في ستوكهولم تتبّعوا مصدر الإشعاع ونَسَبُوه إلى منطقة كييف السوفيتية.
استجابةً للضغوطات الدولية التي فرضتها تصريحات السويد، اعترف الكرملين بوقوع حادث في محطة تشيرنوبل وأكّد بأنّ الوضع “تحت السيطرة”.
وتماشيًا مع الإدّعاءات العنيدة بأنّ كل شيء بخير، عرف عيد العمّال في الفاتح من مايو 1986 احتفالات عارمة في موسكو وكييف ومينسك -تحت مباركة الحكومة- كأنّ شيئا لم يكن!
أبرز خسائر تشرنوبل
في الأسابيع القليلة الموالية للحادث، توفّي 28 فردًا من عمّال المحطّة النووية، بينما أصيب مئات آخرون بأمراض مختلفة نتيجة الإشعاع. لتفادي المزيد من الخسائر، قامت السلطات بترحيل أكثر من مئة ألف شخص من المنطقة المحيطة بموقع الكارثة سنة 1986، وما يُقارب مئتي آلف آخرين بعد ذلك.
سنة 2005، سجّلت روسيا، بيلاروسيا وأوكرانيا أكثر من 6000 حالة إصابة بسرطان الغدة الدرقية عند الأطفال والمراهقين الذين كانوا قرب منطقة الإشعاع.
فيما يتعلّق بالطبيعة المحيطة بالموقع، فقد أدّى الإشعاع إلى موت الغطاء النباتي في مساحة قدرها 10 كلم² وتحوّل لون الأشجار إلى الأحمر البنّي، فعُرفت المنطقة بـ”الغابة الحمراء”.
اقتصاديا، خسر الاتحاد السوفيتي أكثر من 235 مليار دولار في سبيل إصلاح الأضرار، وتضرّرت 23% من مساحة بيلاروسيا من الإشعاع، وضاع خُمس أراضيها الفلاحية.
صرّح “ميخائيل غورباتشوف” الذي كان يترأس الاتحاد السوفيتي سنة وقوع الكارثة :
ربّما أكثر من إصلاحات بيريسترويكا-Perestroïka، كانت تشيرنوبل السبب الحقيقي لانهيار الاتحاد السوفيتي بعد خمس سنوات من وقوعها. كانت كارثة تشيرنوبل نقطة تحوّل تاريخية: كان هناك عهد قبل الكارثة، وعهدٌ مختلف جدًا بعدها.
الإنفلونزا الإسبانية
معلومات عامة عن الإنفلونزا الإسبانية
جائحة إنفلونزا 1918 هي الأقسى في القرون الأخيرة، أُصيب بها أكثر من 500 مليون شخص، أي ثلث سكان العالم آنذاك، وراح ضحيّتها حوالي 50 مليون شخص، وهي حصيلة تفوق أعداد قتلى الحربين العالميّتين الأولى والثانية معًا. نتجت عن الإصابة بفيروس H1N1، وكانت فتّاكة على الأطفال الأصغر من 5 سنوات والشيوخ الأكبر من 65 سنة، والفئات العمرية الممتدة بين 20 و40 سنة.
بدأ انتشار هذه الإنفلونزا في بداية سنة 1918 واستمرّت حتى سنة 1920، ولا يُعرف مكان انطلاق العدوى على نحو مؤكّد، إلاّ أنّ معظم التقارير ترجّح أنّ البداية كانت في الولايات المتحدة الأمريكية، وأنّ حركة الجيوش واكتظاظ المعسكرات ساهم بشكل كبير في انتقال العدوى بين الأشخاص وعبر الحدود حتى شملت الإصابات كل أنحاء العالم.
السيّدة الإسبانية -The Spanish Lady
الإنفلونزا الإسبانية أو السيّدة الإسبانية كما تسمّى عادةً سجّلت أوّل ظهور مؤرّخ لها في ولاية كنساس الأمريكية يوم 4 مارس 1918، وانتقلت مع الجنود الأمريكيين القادمين إلى السواحل الفرنسية للمشاركة في الحرب العالمية الأولى، وهكذا انتشر المرض في معسكرات الفرنسيين والإيطاليين والألمان والبريطانيين، وتوسّع إلى حدود أبعد بمرور الوقت.
أنهكت هذه الإنفلونزا الجيوش وحصدت أرواحًا فشل الرصاص في صيدها، لكنّ الدول المشارِكة في الحرب (الحلفاء ودول المحور على حد سواء) تكتّمت عن الأمر ولم تقم بإعلان حجم الوباء تخوّفًا من استعمال الأمر ضدّها من طرف الأعداء، وفرضت رقابة صارمة على الصحف التي مُنِعت من نقل المعلومات والأخبار المتعلّقة بالوباء الجديد إلى الشعوب.
في شهر مايو 1918، بدأت أولى حالات الإصابة تظهر داخل إسبانيا الحيادية التي لم تجد داعيًا لإخفاء الأمر، وأعلنت الجرائد عن ظهور مرض قاتل سريع الانتشار، وتحدّثت عن أخطاره وأعراضه، وهكذا ارتبط اسم إنفلونزا 1918 بإسبانيا وأطلِق عليها: الإنفلونزا الإسبانية.
استمرّت الجرائد في السكوت عن الحقيقة لوقت طويل بعد ذلك، وحتى تصريحات مسؤولي الصحة كانت خالية من المصداقية إذ علّق أحدهم في الولايات المتحدة الأمريكية عن الإنفلونزا الإسبانية قائلا أنّها “إنفلونزا عادية لكن باسم آخر”.
فيروس كورونا
تجاوزت أرقام المصابين بفيروس كورونا -في وقت كتابة المقال- 650 ألف حالة عبر العالم وتعدّت أرقام الوفيات حاجز الـ30 ألف منذ ظهور المرض في الصين نهاية سنة 2019.
في البداية، حاولت الحكومة الصينية التكتم عن خبر ظهور فيروس جديد على أراضيها، وأرسلت الشرطة للطبيب “لي وينليانغ” الذي أخبر رفاقه في محادثة على الإنترنت عن خطورة حالة المصابين بالفيروس، واتّهمته الشرطة بتلفيق الأكاذيب وأرغمته على توقيع رسالة يعترف فيها بنشر الشائعات على الإنترنت.
وهكذا قرّرت الصين انتهاج الصمت بدل مواجهة المواطنين والعالم بالخبر، وعاقبت الذين أصرّوا على التبليغ عن خطورة الوضع، وأصرّت على أنّ كل شيء تحت السيطرة، واستغرقت عدّة أسابيع قبل إصدار قرار حَجر مدينة ووهان (بؤرة المرض) ومدن أخرى من مقاطعة هوبي، مما أدّى إلى توسّع نطاق انتشار فيروس كورونا وزيادة أعداد المصابين به داخل الصين وخارجها.
في غضون أسابيع قليلة، تحوّل فيروس كورونا من وباء إلى جائحة عالمية تسبّبت في إغلاق المدن وإيقاف المطارات وتعطيل الاقتصاد والتعليم ووفاة عشرات الآلاف من الأشخاص عبر العالم. وقد وجّهت العديد من الجهات الإعلامية والشخصيات العالمية اللوم للصين باعتبار أنّها قد زادت في حدّة الأزمة بتأخّرها في إصدار البيانات.
وهنا أستدعي مشهدًا آخر من مسلسل تشيرنوبل يصوّر حديثًا بين فيزيائية وأحد المسؤولين في الحزب الحاكم، المرأة قدِمت إلى مكتبه لمطالبته بالتدخل في إخلاء المدينة، ليردّ عليها قائلاً :
يجب علي إخبارك بأنّ هذا هو سبب عدم حُبّ الجميع للعلماء. عندما يكون هناك مرض ينتظر العلاج، أين هم؟ أنوفهم داخل كتبهم، وهكذا تموت الجدّة.. لكن حين لا يوجد مشاكل، يظهرون في كل مكان لنشر الرعب.
عندما تعتبر السياسة قول الحقيقة “كلاما هدفه نشر الرعب”، يتراود لنا السؤال: “هل يتطلّب الأمن القومي أن تخفي الحكومات الكوارث عن شعوبها؟” وبعد كل هذا الطرح، نستطيع أن نستند إلى الوقائع التاريخية في إجابتنا بأنّ: الكذب دائمًا يزيد الأمر سوءًا فقط.
أميرة قاسمي - أراجيك