كانت إيطاليا في نهاية القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر، ساحة للصراع السياسي والعسكري بين الإمبراطور الروماني المقدس وبين البابا في روما.
في هذه الأجواء كانت المدن الإيطالية تتصارع بين مثالين، أحدهما يدعو إلى استعادة الحرية الجمهورية، وآخر يمثل الحكم الأميري الاستبدادي.
تمثل فلورنسا -موطن نيقولا مكيافيلي (1496- 1527) تجسيدا واضحا لهذا الصراع، ففي عام 1494 نجح جيروم سافونارول في انتزاع السيطرة على فلورنسا من حكامها آل ميديتشي، وتأسيس الجمهورية الفلورنسية التي استمرت حتى عام 1512 على الرغم من القضاء على سافونارول عام 1498.
بعد القضاء على سافونارول بخمسة وعشرين يوما، أي في عام 1498، دخل مكيافيلي الذي كان عمره آنذاك تسع وعشرون سنة، في سلك الإدارة في مدينة فلورنسا، وشغل لمدة 14 سنة منصب رئيس الديوان القنصلي الثاني، وسكرتير مجلس العشرة المهتم بشؤون الحرب والشؤون الخارجية، ويحرر التعليمات الموجهة للممثلين الدبلوماسيين للجمهورية.
انتهى ميكيافيلي من أولى بعثاته الدبلوماسية إلى فرنسا حيث قابل الملك لويس الثاني عشر، وفي عام 1502 أنهى بعثته الدبلوماسية التي زار خلالها سيزار بورجيا وشهد خلالها سقوط بورجيا من السلطة عقب وفاة والد القيصر البابا الإسكندر السادس، وفي عام 1506 أرسل في بعثة دبلوماسية إلى البابا يوليوس الثاني وعام 1507 قام بأولى بعثاته إلى الإمبراطور ماكسيميلان.
مع عودة آل ميديتشي إلى حكم فلورنسا عام 1512، طرد مكيافيلي من عمله ثم سجن قبل أن يفرج عنه ويبقى منزويا في منزله حتى وفاته عام 1527.
في هذه الفترة أخذ مكيافيلي يتأمل في السياسة، وبمصير إيطاليا الذي تنخره الانقسامات، وتدمره الأسر الحاكمة.
من الصعوبة بمكان فصل التجربة الشخصية لمكيافيلي ومعاناته بعد طرده من العمل، عن نتاجه الفكري، بمعنى هل كان تأليفه لكتاب الأمير بغرض التقرب من آل ميديتشي وإعادته للعمل، أم أن الكتاب يعكس مهارة مكيافيلي في فهم السياسة كعلم قائم بذاته.
في رسالة وجهها إلى صديقه فرنسيسكو فيتوري نهاية 1513، يشرح مكيافيلي بوضوح الهدف المباشر من وراء كتابة الأمير، ويعلن بأنه كان هدفا عمليا، إيجاد عمل جدير بماضيه ومواهبه، حتى لو تطلب الأمر الانضمام إلى آل مديتشي.
وفعلا أهدى مكيافيلي كتابه الأمير إلى لوران دو مديتشي، وليس معروفا إن قام لوران بقراءة الكتاب أم لا، لكن الأكيد أن مكيافيلي لم يسترجع مكانته كسكرتير لمجلس العشرة للحرية والسلام.
ومع ذلك، فلم ييأس، وفي خطوة لا يمكن وصفها إلا بالبراغماتية المبتذلة، وافق مكيافيلي على تقديم خدمات بسيطة لـ آل ميديتشي، وهي خدمات أضرت بصورته وسمعته أمام الجمهوريين الذين استعادوا الحكم في المدينة عام 1527 وتجنبوا دعوته للعمل معهم.
وعندما أيقن بأن آل ميديتشي لن يتعاملوا معه، انخرط ضمن دائرة المنظرين المتآمرين الجمهوريين في حدائق أوريسيلاري ضد حكم لوران دي ميديتشي.
بالمقابل، لا يمكن اختزال فكر مكيافيلي السياسي ببراغماتيته المبتذل، فالرجل كان على وعي بضرورة تأسيس نمط من التفكير في السياسة خارج المألوف، والابتعاد قدر الإمكان عن رؤية السياسة ضمن مقولات اليوتوبيا العلمانية أو مقولات الدين المسيحي وأخلاقه.
كتابان متناقضان
في فترة انعزاله بالمنزل وحتى وفاته، أي بين عامي 1512 ـ 1527 ألف مكيافيلي عدة كتب أهمها كتابين، الأول والأكثر أهمية بالنسبة له كان كتاب خطب حول العشرية الأولى لتيت ـ ليف، أو الخطب الذي لم يتم إنجازه بالكامل، أما الكتاب الثاني الذي وصفه هو بنفسه بالكتيب، وألفه على هامش كتابه الأول، فكان عنوانه في الإمارات، أو باختصار، الأمير، الذي سيكون سببا رئيسا في شهرته بعد وفاته، حيث نشر الكتاب عام 1531 بأمر من البابا.
الكتابان يقدمان رؤيتان متعارضتان بالكامل: في الأمير يدافع عن الملكية المطلقة المستبدة، في حين يدافع في الخطب عن الحرية الجمهورية، وهذا التعارض، دفع بكتاب كثر منذ أربعة قرون إلى الآن في البحث عن حقيقة فكر مكيافيلي.
قراءات مختلفة
ذهب جان جاك روسو إلى أن ثمة تعارض كبير بين الكتابين لا يمكن التوفيق بينهما، وهذه رؤية تتعارض مع ما قال غريكن من أن الكتابين مظهرين يعتمد كل واحد منهما على الآخر لنظرة موحدة عضويا.
وذهب جان جاك شوفالييه، إلى أن مكيافيلي ميز بين الذين يعملون لكسب السلطة والذين سبق لهم أن كسبوها، والفرق بين الكتابين، هو بدرجة ما تعبير عن ذلك التمييز بين مسألة خلق دولة مستقرة ومسألة الاحتفاظ بالسلطة.
أما كويتن سكنر، فيذهب إلى أن الأخلاق السياسية في الكتابين واحدة، والتغيير هو من زاوية تركيز النصح السياسي، ففي حين كان مهتما اهتماما رئيسيا في كتاب الأمير بتشكيل سلوك الأمراء، نراه أكثر اهتماما في كتاب الخطابات بتقديم نصحه لجميع المواطنين.
ويذهب ميشيل سينيلار أبعد من ذلك، بقوله إنه لا يمكن اختصار فكر مكيافيلي بالمكيافيلية، فهذه الأخيرة من اختراع خصومه، إنها أسطورة صنعت في القرن الـ 16.
ويرى سينيلار أن الأمير لا يحق له انتهاك القانون إلا في حالة الضرورة ومن أجل مصلحة الدولة، ويستشهد بذلك لنص مكيافيلي "من الضروري لأمير إذا كان يريد البقاء، أن يتعلم القدرة على أن يكون صالحا، وعلى ممارسة ذلك أو عدم ممارسته وفقا للضرورة".
أما ماري ديتز، فترى أن آراء مكيافيلي في كتابه الأمير حمالة أوجه، فهي قد تكون سببا في هلاك الأمير بقدر ما تكون سببا في نجاته، وهذا تأكيد آخر على أن نصوص مكيافيلي محيرة ومبركة ويصعب اختزالها في رأي واتجاه واحد.
مكيافيلي وديكارت
لم يُقرأ الخطب إلا من قبل المختصين، في حين أصبح الأمير في تناول كافة الفئات، وأصبح مكيافيلي يُعرف بهذا الكتاب فقط وبمنهجه، الغاية تبرر الوسيلة.
وللأسف الشديد وقع في هذا الفخ أحد أهم فلاسفة أوروبا في الحداثة السياسية، إنه الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت 1596 ـ 1650 الملقب بأبي الفلسفة الحديثة.
في عام 1646 طلبت الأميرة إليزابيت من ديكارت أن يقرأ كتاب الأمير ويكتب رأيه وتأملاته في هذا الكتاب، وفعلا في سبتمبر وأكتوبر من العام ذاته، كتب ديكارت رسالتين إلى الأميرة إليزابيت ليبلغها تأملاته بصدد كتاب الأمير.
قرأ ديكارت كتاب الأمير من دون أن يقرأ كتاب الخطب، فتشكلت لديه رؤية أحادية مبتذلة عن فكر مكيافيلي.
ترتبت على هذه القراءة الأحادية، أن اعتقد ديكارت بأن نصح مكيافيلي للأمراء، هو التوسع بالتقنيات الخاصة بالطاغية عن طريق الاغتصاب لتشمل السلطة الشرعية، واستخدام الحرب كوسيلة للحكم.
ولأنه لم يقرأ الخطب، فقد اعتقد ديكارت أن مكيافيلي عجز عن تمييز الطرق العادلة للسيطرة من الوسائل غير الشرعية، فأفضى به ذلك لتقديم التعاليم الطغيانية للغاية.
وينسب ديكارت إلى مكيافيلي، الفكرة القائلة أنه ينبغي التجرد من كل إنسانية والتحول إلى أشرس البهائم من أجل الحكم، ولو قرأ الخطب لأدرك ديكارت أن مكيافيلي كان يدرج هذا المبدأ في نهاية سلسلة من الخيارات المرتبطة بالظروف.
بكل الأحوال، لقد تحول اسم مكيافيلي إلى صفة تعني في قواميسنا وعقولنا: المكر والدهاء والحيلة والقوة والغاية تبرر الوسيلة.
وهكذا، لم يعد الفكر السياسي المعاصر مهتما بأفكار مكيافيلي باستثناء الجانبين التاريخي والأكاديمي منها كما هو حال الفارابي وابن سينا وغيرهم، لأن الأمير السيد المتحكم في كل شيء لم يعد موجودا مع نشوء الديمقراطيات الليبرالية، لكن بقي مكيافيلي ذا اهتمام في الدول المتخلفة، لأن نمط الحكم متشابه.
كما أن نظرة مكيافيلي للشعب تماثل نظرة حكام الدول الاستبدادية في عصرنا من حيث أن الشعب عبارة عن رعية لا هم لهم سوى أن لا يضطهدوا.
في الجزء الثاني من هذا المقال سنعرض أهم النقاط المتعارضة في كتاب الأمير وكتاب الخطب، ونحاول أن نضعهما في سياق المعنى والهدف الذي أراده مكيافيلي.