حارب لوثر (1483- 1546) وجماعته كل من خالف عقيدتهم الجديدة، بما فيهم الكاثوليك، ودعا إلى إخضاع الكنيسة للدولة، بعدما كانت متحررة من السلطة الزمنية، في وقت دعا فيه إلى طاعة الحكام السياسيين بشكل أعمى مع رفض العصيان والمقاومة.
كيف أمكن لأفكار رجعية دينية أن تساهم في إطلاق الحداثة السياسية في أوروبا؟
الظرف التاريخي
لم يمتلك لوثر فكرا موحدا ذا بنية منطقية متماسكة، فكثيرا ما كان يغير أفكاره، إما لعدم اكتمالها منطقيا في فكره، أو بسبب المتغيرات السياسية ودواعي المصلحة.
كما لم تكن أفكاره جديدة، فقد سبقه قبل قرنين إلى ذلك جون ويكليف ثم يان هوس، لكن الظرف التاريخي آنذاك، لم يسمح لهما بالحصول على دعم من الأمراء في مواجهة الكنيسة، وكانت النتيجة إعدام هوس، وإخراج جثة ويكليف ثم إعادة دفنه كهرطوقي.
كانت أوروبا في نهاية القرن الخامس عشر والسادس عشر ـ زمن لوثر ـ تعيش حالة غليان وصراع حاد بين الملوك والأمراء الزمنيين من جهة والكنيسة من جهة ثانية، في وقت بدأ الاستياء الشعبي يزداد من ممارسات الكنيسة كمؤسسة مع تزايد شروط الخلاص.
سمح هذا المناخ السياسي لأفكار لوثر بالانتشار بشكل واسع أولا على الصعيد الشعبي فاندلعت في مدينة كولون الألمانية ثورة ضد الأقلية الحاكمة عام 1513، وفي إنكلترا ظهرت علامات على الكراهية ضد السلطات القضائية الكنسية مثل قضية هن، وثانيا على الصعيد السياسي، حيث وجد الأمراء الساعين إلى تأكيد ملكيتهم في لوثر فرصة للتخلص من كنيسة روما.
وتكمن أهمية لوثر بالنسبة للأمراء الزمنيين، في أنه لم يكن يستهدف ظواهر إساءة استعمال الكنيسة لسلطاتها، وإنما على حق الكنيسة في المطالبة بمثل تلك السلطات في المجتمع المسيحي.
وقد تقدم لوثر خطوة إلى الأمام خلال الأشهر الستة التي تلت كتابته الخطاب، ففي عام 1520 ترأس في مدينة ويتنبرغ مناسبة إحراق الكتب، وفيها لم يكتف بتحطيم القانون الكنسي البابوي المدعو EXSURGE DOMINE الذي أعلن فيه عن حرمانه الكنسي، وإنما ألقى بالمراسيم البابوية وبتعليقات القوانين إلى النار.
ونتيجة تأزم الوضع، دعا الإمبراطور شارلكان إلى عقد مجمع ديت عام 1521 في مدينة فورمس، وأصدر المجمع قرارا بحرق كتب لوثر ودعوة الأخير للمثول أمام المجمع.
مثل لوثر أمام المجمع ودافع عن رأيه، وأثناء عودته من المدينة، شعر أمير ساكسونيا أن ثمة مؤامرة لقتل لوثر، فأمر بخطفه سرا ووضعه في مدينة فاتبورج لحمايته.
وسرعان ما صارت ثيولوجيا لوثر والمبادئ السياسية المشتقة منها محل قبول في أوروبا الشمالية، وحصل أول تحرك في ألمانيا مع الأمير الناخب فريدريك الحكيم في ساكسونيا عندما منح الحماية لـ لوثر بعد صدور حرم كنسي بحقه عام 1520، ولم تمض سنوات حتى تحولت إمارة ساكسونيا مع ابن فريدريك إلى إمارة لوثرية.
وشهدت السنة نفسها قبول اللوثرية في دوقية بروسيا ثم في هامبورغ، وبحلول عام 1528 شملت قامة الأمراء الذين تركوا الكنيسة الكاثوليكية دوق برنزوك ودوق شلزويغ وكونت مانسفيلد والحاكم العسكري في منطقة براندنبرغ ـ أنسبخ، وفي عام 1534 لحق بهم حكام ناسو وبوميرانيا وروتمبرغ وغيرها.
التداعيات السياسية
إن دعوة لوثر لإبعاد الكنيسة عن حياة الناس اليومية وجعل الكنائس الوطنية تحت إمرة الأمراء، إنما كان يعني دنيوة الدين أي علمنته، وقد شكلت هذه الخطوة أو الإصلاح الديني هذا، أحد أهم بدايات الحداثة السياسية في أوروبا.
لقد دافع لوثر عن السلطات المدنية ووافق على توسعها، وإن كان ذلك يعني أن توضع الكنيسة تحت إدارة الأمير الإلهي، ولا يعني ذلك أن الملك يصبح كاهنا ويمنح سلطة إصدار بيانات عن محتوى الدين، فواجبه يقتصر على رعاية التبشير بالإنجيل والحفاظ على الإيمان الحقيقي.
وقد أكد على ضرورة أن ينظر إلى جميع تشريعات السلطات الزمنية بوصفها نعمة مباشرة من الله.
لكن تطورات الأوضاع السياسية، جعلت لوثر ينحاز بشكل راديكالي إلى الأمراء ويطالب لهم بسلطة شبه مطلقة، فمحاولته العودة بالمسيحية إلى نقاوتها الأولى، اضطرته إلى اللجوء للأمراء، وهذا اللجوء حتم عليه الدفاع عن سلطاتهم.
يعتبر هذا الموقف آنذاك، ذا أهمية كبيرة ونقلة في التفكير الديني ـ السياسي، بعدما كانت العلاقة بين السلطتين الروحية والزمنية متداخلة ومتخارجة في نفس الوقت، فمع لوثر لم تعد ثمة علاقة متداخلة بين السلطتين، وإنما إخضاع السلطة الروحية للسلطة الزمنية.
وكان طبيعيا أن تذهب مواقف لوثر إلى نهايتها المنطقية والتاريخية، فالبرهان على أن الكنيسة لا تعدو أن تكون جمعا من المؤمنين، يعني بتعيين ممارسة كل السلطة القمعية للملوك والقضاة.
وبتأكيدها أن جميع السلطات الموجودة يجب أن تعتبر هبة من الله، ألزم لوثر نفسه بالقول إن الحكام الطغاة يحكمون عن طريق الحق الإلهي.
إن هذه الإرهاصات الأولية سيعاد إنتاجها بقوة في القرن السابع عشر، قرن الحكم المطلق الإلهي، خصوصا مع الملك الفرنسي لويس الرابع عشر.
وما يثير السخرية، أن لوثر الذي دافع في صالح الحرية الفكرية في العالم الروحي، نراه في العالم السياسي مناوئا لها.
الطاعة السياسية
انفجرت ثورة الفلاحين في ألمانيا عام 1524 في وجه الأمراء الألمان، وسرعان ما وجد لوثر نفسه مضطرا للدفاع عن الأمراء ومهاجمة الثورة.
ذكر لوثر الفلاحين بأن حقيقة كون الحكام أشرار وظالمين لا تشكل عذرا لقيام الفوضى والثورة، إلا أن دعواته لم تلق آذانا صاغية في ظل وجود دعاة راديكاليين أمثال توماس منتزر، وفي أيار / مايو من عام 1525 حقق الفلاحون انتصارات كبرى في ثورنيجيا ونهبوا الجنوب كله في ألمانيا، عندئذ رد لوثر بانفجار حمل عنوان ضد نهب الحشود الفلاحين النهابة والمجرمة.
كان لوثر يرى وجود نظامين أسسهما الله، لكن وظائفهما مختلفة، فالنظام المدني تأسس للحفاظ على الحق والنظام في المجتمع، وهذا النظام يستعمل السيف، أما النظام الروحي فيستعمل الكلمة ويلجأ إلى ضمير الرعايا والحكام.
ولذلك يقول إنه لا يمكن وقف الهرطقة بالسيف، فالسلاح يجب أن يكون كلمة الله:
الهرطقة مسألة روحية، وأنت
لا تستطيع تمزيقها إربــــا إربا
بالحديــــــد أو حرقها بالنار، أو
إغراقها فــــي الماء، فلا ينفع
هنــــــــا إلا كلمة الله وحدهـا.
وبما أن النظام المدني أسسه الله، فإن العصيان المسلح ضد الدولة هو عصيان مسلح ضد الله، وعندما تستخدم الدولة السيف، فذلك من الله.
في عام 1530 تغيرت الأمور تماما، حيث أصبح الأمراء الألمان في وضع سيء نتيجة انزياح الإمبراطور إلى الكاثوليكية ومناهضته أفكار لوثر التي عرفت باسم البروتستانتية، وتحطيمه الكنيسة اللوثرية.
نتيجة هذا الوضع الجديد، وفي محاولة لتبرير عصيان الأمراء لسلطة الإمبراطور، بدأ لوثر يغير رأيه تدريجيا من مسألة الطاعة، فقد أعلن مع رفاقه، لاسيما ميلانكثون أن أي حاكم طاغية يمكن معارضته قانونيا وبالقوة.
وهذا الموقف الجديد، سيكون له آثارا صاخبة في ما بعد، فقد ساعد على نفخ الحياة في النظريات الراديكالية، عند أنبياء زويكو (نيكولاس ستورش، توماس دركسل، ماركوس ستنبر) ومن ثم عند أتباع كالفن.
لكن المهم أن تحالف اللوثرية مع الأمراء أنتج اتفاقا جديدا خرج من اجتماع للرايخستاغ عام 1526 يمنح الأمراء استقلالية في إدارة شؤونهم بما فيها الشؤون الدينية، هنا يقول عزمي بشارة أنه تم استغلال الظروف السياسية لإحداث اللقاء بين نزعة استقلالية الأقاليم والأهداف الإصلاحية اللوثرية، في لقاء تمردين: إصلاحي على الكنيسة، وإقليمي على الإمبراطور.