يحدثنا سفر القضاة في العهد القديم عن (شمشون بن منوح) الذي كانت أمه عاقرا ثم ظهر لها الملك وبشرها بأنها ستلد صبيا نذيرا لله، منوطا باستنقاذ شعب إسرائيل من أيدي الفلسطينيين.
والملمح الأبرز في نذر هذا الصبي لله، ألا تمر برأسه شفرة موس أبدا، وهكذا يكبر شمشون ليصبح قاضيا يحكم إسرائيل عشرين عاما، وشعره مجدول في سبع ضفائر هي سر قوته الخارقة التي مكنته من قتل أسد ذات يوم بيديه العاريتين، ومن قتل ألف فلسطيني وليس معه إلا فك حمار في يوم آخر، وحين يستسلم لإغراء البغي (دليلة) وتحلق ضفائره تفارقه قوته ويقع في الأسر، ليستعيدها فيما بعد ويهدم معبد (داجون) على رأسه ورؤوس أعدائه في بطولة انتحارية.
* شمشون والأسطورة الشمسية:
رأى كثير من المعلقين على العهد القديم تشابهات كثيرة بين حكاية شمشون كما وردت في الإصحاحات (13-16) من سفر القضاة من جهة، والأساطير اليونانية المرتبطة بهرقل Heracles/Hercules من جهة أخرى. ويجمع (توماس وليام دوان T. W. Doane) آراء هؤلاء المعلقين في كتابه (أساطير الكتاب المقدس وما يوازيها في الأديان الأخرى Bible Myths and Their Parallels in Other Religions). ومن أبرز من يورد الكتاب آراءهم جولدتسيهر Goldziher المستشرق اليهودي مؤسس علم الأساطير المقارن Comparative Mythology.
حيث يقول: "أسطورة شمشون أكمل أسطورة شمسية Solar Myth في العبرية، فهي حلقة من الأفعال الأسطورية قريبة الشبه للغاية من أسطورة هرقل اليونانية." ويمضي المؤلف ليستعرض هذه التشابهات، فكل من شمشون وهرقل قتل أسدا في شبابه، وكلاهما قاتل جيشا وحده بيديه العاريتين وخرج منتصرا، وكلاهما شعر بعطش حارق إثر معركة كبيرة خاضها، فدعا شمشون ربه أن يسقيه فسقاه من فك الحمار الذي كان يقاتل به.
ودعا هرقل أباه زيوس وهو يقود جيشه في صحراء ليبيا أن يسقيه كذلك فظهر له على الفور الكبش السماوي وقاده إلى حيث نبش الكبش بقدميه الأرض فانفجرت لهرقل عين ماء ليروى، إلى غير ذلك من التشابهات.
والمقصود بالأسطورة الشمسية في عبارة جولدتسيهر، ذلك النمط من الأساطير الذي يدور حول إله أو إلهة يمثل الشمس أو مظهرا من مظاهرها، وإلى هذا التمثيل يرجع أصحاب هذا الرأي ضفائر شمشون التي تشبه أشعة الشمس، وعددها المحدد بسبعة كالكواكب السيارة المعروفة في النظام الفلكي القديم، وشعر هرقل الكثيف كذلك. كما يعضد آراءهم أصل تسمية (شمشون) بالعبرية، فالاسم مأخوذ من الجذر (شمش) الذي يعني (الشمس).
إلا أن الملمح الأهم والأشهر في سيرة شمشون هو رد قوته إلى شعره المضفر الذي لم تمسسه شفرة، وهو أمر لا نجده عند هرقل. بيد أن الأساطير اليونانية لا تبخل علينا بمعادل آخر لهذا الملمح، أشار إليه كذلك جولدتسيهر في كتابه (الميثولوجيا العبرانية Hebrew Mythology) واقتبس كلامه (دوان) في كتابه المذكور آنفا، ثم علق عليه مقتبسا من كتاب آخر هو (الأساطير الآرية Aryan Mythology) لجورج ككس George W. Cox: "من كتفي أبولو المضيء تنساب الغدائر المقدسة التي لا تمسها شفرة موس، لتصنع حرزا حافظا على رأس (نيسوس)، مشتملا على قوة غامضة".
* خصلة نيسوس الأرجوانية:
هكذا نصل أخيرا إلى القطب الآخر في عنوان هذا المقال: نيسوس Nisos. تخبرنا الببليوتيكا (وهي مجموعة من الأساطير اليونانية والحكايات البطولية مرتبة في ثلاثة كتب، اصطلح على نسبتها إلى أبولودورس الزائف Pseudo-Apollodorus) بأن نيسوس كان ملكا على (ميغارا)، وهي مدينة في أتيكا الغربية ببلاد اليونان، واقعة شمالي خليج كورنث. وقد اشتعلت الحرب بين (مينوس) ملك (كريت) من ناحية وأثينا وميغارا، اللتين كان الأخوان (إيجيوس) و(نيسوس) ملكين عليهما من ناحية أخرى.
لكن -كما يخبرنا (أوفيد) في كتابه الأشهر Metamorphoses (التحولات أو مسخ الكائنات، تبعا للترجمة)- كانت لنيسوس خصلة شعر أرجوانية تحفظه من كل مكروه، وتحصنه من السقوط أمام أعدائه.
غير أن (سكيلا Scylla) ابنة نيسوس خانته لصالح عدوه مينوس وقصت خصلته الأرجوانية وأهدتها إلى هذا الأخير، فسقطت ميغارا في يد مينوس بسقوط الخصلة الأرجوانية. صحيح أن الروايات تختلف في بعض التفاصيل، فثمة رواية تقول إن مينوس أغرى سكيلا بعقد ذهبي، وأخرى تقول إنها أحبت مينوس فقررت تغليبه على أبيها، وهناك رواية تقول إن نيسوس انتحر حين فقد خصلته الأرجوانية، وأخرى تزعم أنه تحول إلى نسر بحري هاجم ابنته الخائنة التي تحولت إلى طائر هي الأخرى. والمهم في الأسطورة هو تلك العلاقة الواضحة بين الشعر والقوة الخارقة، التي ربما لا نجدها بذلك الوضوح إلا في سردية شمشون.
* الشعر حي وميت (أنا ولا أنا):
ويبدو لي أن هناك رؤية كامنة في اللاوعي الجمعي لكل من العبرانيين واليونانيين القدماء، بإمكانها تفسير هذا الربط بين الشعر والقوة الخارقة أو الحماية الإلهية. بالطبع ينفرد العهد القديم بالإشارة الأكثر مباشرة إلى ارتباط الشعر بالمدد الإلهي، حيث يقتضي النذر أساسا أن يظل رأس شمشون بمنأى عن شفرات الحلاقة. لكن شيئا في طبيعة الشعر بالذات يؤهله ليحمل هذه الحمولة الرمزية في رأيي.
الشعر والأظافر في الإنسان الصحيح هما الجزءان الوحيدان اللذان لا يثيران الألم حين نقصهما، وهي حقيقة بادية للحس المشترك لا تنتظر ثورة علمية للكشف عنها. بالطبع لم نعرف على وجه اليقين القاطع، أن هذين الجزأين مكونان من خلايا ميتة، إلا مع استحداث المجهر وتقدم الدراسات البيوكيميائية ودراسات الأنسجة الحية، التي كشفت عن التركيب الدقيق للشعر والأظافر، إلا أن امتناعهما عن الألم واضح بذاته كما قلنا. ولأن الألم خاصية مرتبطة بالحياة في كل تأمل لطبيعة الحياة منذ القدم، فإن الجدال حول اعتبار الشعر والأظافر أشياء حية، وجد طريقه إلى الكتابات الفلسفية والطبية واللاهوتية الرصينة منذ عصر النهضة على الأقل.
ففي كتاب (الإدراك الإنساني والحيواني في بواكير الفلسفة والطب الحديثين Human & Animal Cognition in Early Modern Philosophy & Medicine) لستيفاني بيوكينو وروبرتو برستي (صادر عن جامعة بتسبرج 2017)، نجد مناقشة لآراء اللاهوتي اليسوعي (توليتوس Toletus/ فرانسسكو دي توليدو 1532-1596م) بخصوص طبيعة الشعر، فيقرر أن الشعر والأظافر ليسا من الحياة في شيء لأن الروح لا تختلط بهما، وبالطبع كان دافعه لبحث هذه المسألة يتعلق بجسد السيد المسيح، فهو يخلص إلى أن شعر المسيح غير متحد بالكلمة (اللوجوس)، بينما يرى أستاذه الأب الدومنيكاني (دومنجو دي سوتو Domingo de Soto 1494 – 1560م) أن الشعر والأظافر متحدان باللوجوس!
وقد انعكس هذا الجدال على تفاصيل طقس التعميد، فهل يكفي أن يرش الشعر فقط بماء التعميد؟
تعتمد الإجابة على الرأي الغالب، فهو يكفي إن كان الشعر جزءا أساسيا من الجسم، ولا يكفي إن كان غير ذلك. ويصل الأمر بيسوعيي كويمبرا في البرتغال Jesuits of Coimbra إلى حشد آراء خمسين مؤلفا في طبيعة الدم والشعر وموقفهما من الحياة، فيما لا يزيد عن عشر صفحات من تعليقهم على كتاب أرسطو (عن الكون والفساد De Generatione et Corruptione)!
الشاهد من كل ذلك، أن الشعر الممتنع عن الألم والآخذ في النمو، رغم ذلك قد مثل لغزا غامضا مثيرا للتساؤل منذ القدم. ومثله الأظافر، وإن كان الشعر يمتاز بموقعه على الرأس الذي يجعله أقرب إلى تاج طبيعي للجسد، بينما الأظافر بحكم اتصالها بالأداة البشرية الأولى (اليد والقدم) تتحول إلى زائدة معطلة عن العمل أحيانا، كما تصبح أكثر عرضة للاتساخ، مما يحولها إلى شيء غير مرغوب فيه.
لذلك، يبدو أن الشعر عند العبراني الذي أجل شمشون واليوناني الذي تأمل مأساة نيسوس قد أخذ صبغة مزدوجة في علاقته بالجسم، ففي تصوري أن العبراني واليوناني المذكورين، قد رأى كل منهما أن "شعري هو أنا لأنه نابت من رأسي، يكلل جسدي الذي لا يمكن أن أوجد بدونه، لكنه أيضا ليس أنا. هو ليس مني في شيء لأنني إن قصصته لا أتألم".
فهو إذن لغز يحيل العقلين إلى مصدر متعال مفارق للخبرة البشرية الجسدية، ولاسيما المصدر الإلهي. فكأن ملك الرب حين ظهر لأم (شمشون) قد أمرها بأن تعلم وليدها ألا يتعرض بسوء لهذا الإكليل اللغز، الذي يشير إلى ما هو إلهي مستعص على الفهم، في مقابل أن يحظى بالقوة والحماية الإلهية. وكذلك في حالة نيسوس، أشارت خصلته الملكية الأرجوانية إلى عنصر إلهي مفارق للخبرة البشرية المتجسدة، ولذا ارتبط سقوطهما بالاجتراء على تلك الإشارة الإلهية، تماما ككارثة ثمود حين اجترأوا على ناقة الله التي حذرهم النبي صالح من عقرها في القرآن.
بالطبع هناك اختلافات بين سقوط البطلين، فدليلة امرأة من الأغيار أما (سكيلا) فهي ابنة نيسوس من صلبه، فهي إشارة إلى ذلك الطابع الدرامي المأساوي المهيمن على العقلية اليونانية، فالخيانة نابتة من ظهر الإنسان نفسه، والشجرة تحمل بذرة موتها داخلها، وهو أمر يتكرر في قطاع كبير من الأساطير اليونانية، كما أنها إشارة إلى ذلك العبث الذي يشعر اليوناني القديم بأنه يعانيه، وهو يبدو له عبثا كونيا، فسقوط (نيسوس) مرده إلى أن إله الحب إيروس أسقط سكيلا في حب مينوس، وهكذا تسقط منحة الآلهة بعبث واحد من الآلهة.
* عقيدة الأرمل المربوط:
ختاما، ربما يبدو هذا استطرادا بعيدا، إلا أن له ما يبرره. هناك عقيدة شعبية مصرية أظنها بسبيلها إلى الاختفاء، تقرر أن الزوج الأرمل إذا عانى الحبسة الجنسية بعد وفاة زوجته، فإن هذا يشير إلى قيام أهل زوجته المتوفاة بربطه.
ولهذا الربط آلية قد تبدو غريبة وبسيطة في آن، فأهل المتوفاة يقومون فقط بتضفير شعرها وربط هذه الضفائر ببعضها بطريقة ما، وتكون النتيجة هي امتناع القدرة الجنسية على زوجها! في رأيي أن منبع هذا التصور كامن في اللاوعي الجمعي الشعبي، وهو يرتبط كذلك بغموض الشعر وطبيعته المتأبية على الفهم الكامل.
فشعر المرأة الذي ينظر إليه بصفته وسيلة إغراء جنسي مهمة وتاجا لجمالها الحسي -مثله مثل ضفائر شمشون وخصلة نيسوس الأرجوانية- هو جزء من جسدها الحي تذهب وتجيء به ولا يفارقها، وليس جزءا في الوقت ذاته، إذ لا يثير ألما بقصه. وعلى هذا، فهو أقرب إلى منحة إلهية غامضة ربما تتمتع بقدرات سحرية لا معقولة. فضلا عما في فعل ربط الضفائر من شد وعنف، يستحضر فعل شد الشعر في أثناء العلاقة الحميمة، فكأن الزوج الأرمل مازال منخرطا في علاقة حميمة في عالم وراء الحس مع زوجته المتوفاة، وهو من ثم (مربوط) عن كل امرأة عداها!
يبقى تأويلنا مجرد احتمال غير مؤكد بالطبع، سواء في حكاية شمشون أو أسطورة نيسوس أو عقيدة ربط الزوج، وإن كانت قراءة الظواهر الثقافية الثلاث وتجريدها إلى أبسط عناصرها الأسطورية Mythemes يجعل هذا التأويل ممكنا وقابلا للنقاش. وتبقى الأسطورة والعقائد الشعبية من بعد، حبلى بإمكانيات القراءة والتأويلات المثيرة.